الاغتصاب.. سلاح المليشيا القذر في حرب السودان

الأحداث – تقرير

في يوم علا فيه صوت الرصاص ودوي المدافع، كنت جالسة تحت مظلة بمنزل أهلي، في أحد أحياء مدينة أم درمان الجنوبية، فجأة سمعتُ أصواتاً خارج المنزل لم أستطع تمييزها، حاولت النظر من خلال فتح الباب قليلاً، وما أن رأيت جنوداً يرتدون زي قوات الدعم السريع، حتى أصبت بالرعب وحاولت إغلاق الباب برفق، لكن لسوء حظي أن أحد الجنود سمع صوت الباب الخفيف، ورآني من أعلى السور أركض نحو إحدى الغرف وأصرخ بأعلى صوتي “ساعدوني”، لكني  لم أجد من يخلصني من شرورهم”، تروي بحرقة فاطمة (اسم مستعار) حادثة اغتصابها.

 

وتُتابع “حاولت إغلاق باب الغرفة جيداً من الداخل، غير أن الجنود الأربعة الذين اقتحموا المنزل أطلقوا النار على الباب، ودخلوا علي.. ظللت أصرخ وأقاوم، وأضرب بكلتا يدي ورجلي، لكني لم أستطع الصمود طويلا، بعد أن باغتي أحدهم بضربه بمؤخر السلاح (الدبشك) لأقع على الأرض في حالة يرثى لها.”

 

رغم ذلك لم يتركها الجنود، وانقضوا عليها كالذئاب ينهشون جسدها بعد أن وضعوا قطعة قماش (طرحة) داخل فمها حتى لا تصرخ وتناوب أربعتهم على اغتصابها دون رحمة أو إنسانية، وتركوها غارقة في دمائها.

 

بعد مغادرتهم تم نقلها إلى أحد المشافي الطرفية وأوضح الكشف أن هنالك تهتكا في الأنسجة تطلب التدخل الجراحي لترميم ما فعله هؤلاء الجنود.

 

بعد الحادثة غادرت فاطمة مع والدتها وشقيقها الأصغر إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة لمواصلة البروتوكول العلاجي من أجل تجاوز آثار الصدمة التي أدخلها فيها هؤلاء المغتصبون، إلا أن حالتها ساءت مرة أخرى بعد دخول قوات الدعم السريع إلى ود مدني، فقررت أسرتها نقلها إلى العاصمة المصرية القاهرة وعرضها  على اختصاصيين هناك.

 

تمثل فاطمة واحدة من عشرات اللواتي تعرضن للاغتصاب في العاصمة الخرطوم منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023م، بسبب انتشار الفوضى وعدم السيطرة على الجنود المنفلتين الذين يستعملون الاغتصاب كسلاح حرب.

 

ضحية بحري

 

عاشت إسراء (اسم مستعار)، ظروفاً نفسية سيئة بعد أن تم اغتصابها بواسطة أفراد يرتدون زي الدعم السريع أمام أعين والدها المريض بالفشل الكلوي ووالدتها وشقيقتها التي تصغرها بخمس سنوات.

 

وتروى إسراء لـ(التغيير)، معاناتها وأسرتها التي تحولت إلى كابوس بعد أن غادر أغلب سكان الحي منازلهم، عقب اشتداد المعارك بمدينة بحري، حيث حالت ظروف والدها الصحية والمادية دون مغادرتهم، فقررت والدتها العمل في بيع الأطعمة بأحد الأسواق القريبة لتوفر لهم مصروفات الأكل والعلاج، لكن ذات يوم عصراً اقتحم الجنود منزلهم وهددوا والدتها، ووضع أحدهم السلاح في وجه والدها الذي لا يستطيع حتى الجلوس على  السرير وطلبوا منه أن يقوم باحضار المال والذهب، فتدخلت والدتها وقالت لهم إن زوجها مريض وليس لديهم أموال، لكنهم لم يصدقوها وأصروا على إحضار المال، وبحثوا في كل أجزاء المنزل ولم يجدوا شيئاً، وفجأة باغت أحد الجنود إسراء ومسكها بالقوة ومزق ثيابها أمام نظر والديها وشقيقتها ذات السبع سنوات، واغتصبها رفقة اثنين آخرين وسط صدمة أسرتها التي لم تستطع فعل شئ.

 

بعد مغادرتهم للمنزل تم إسعافها بواسطة صديقتها في أحد المشافي وإدخالها في بروتوكول علاجي لمواجهة آثار الصدمة وما تزال حالتها النفسية سيئة ودائماً ما تفكر في الانتحار، لكن تفكيرها في وضع والدها الصحي ووالدتها التي أصبحت مريضة بعد الاعتداء عليها يجعلها تتراجع عن الأمر.

 

آثار جسدية خطيرة

 

تقول طبيبة باشرت عدداً من حالات الاغتصاب- فضلت عدم ذكر اسمها، أنه من أبرز الآثار الجسدية للعنف الجنسي هي تهتك الأنسجة، والأمراض المنقولة جنسيا، والحمل، والعقم، وقد يصل الأمر إلى الوفاة. وتضيف: “هناك أيضا آثار طويلة المدى يمكن أن تشمل سلس البول، ومشاكل في الجهاز البولي، والنزيف المستمر، مما يؤثر على جميع جوانب الحياة بالنسبة للضحايا من النساء بما في ذلك القدرة على العمل وتوفير الرعاية لأسرهن.

 

وأكدت أن الحمل الناتج عن الاغتصاب يؤدى إلى ولادة شديدة الخطورة، وقد تواجه المغتصبات خطر الإجهاض المحتمل غير الآمن.

 

وعن مصير النساء اللواتي يحملن  بعد الاغتصاب تقول الطبية إن النساء تواجهن قرارا مصيريا بشأن ما إذا كن ستربين الطفل، أو تخترن الإجهاض.

 

وتضيف عندما تختار الأم تربية الطفل الذي يأتي نتيجة الاغتصاب، فإن الذكرى الصادمة للواقعة وعلاقة دم الطفل بالمغتصب يخلقان عندها أزمات نفسية، كما أنها ستتعرض للنبذ من قبل المجتمع.

 

تفكيك المجتمع

 

يُستخدم سلاح الاغتصاب خلال الحروب كوسيلة لتخويف وإذلال وإضعاف مكونات المجتمع. في هذا الصدد، تقول أخصائية الإرشاد والعلاج النفسي د. مروة محمد إبراهيم، أن “تفكيك المجتمع لا يتم بالبندقية وإنما بآلة الاغتصاب، لأن الشخص الذي تعرض لذلك يفقد الهوية وتضعف لديه الثقة في النفس وتقدير الذات ولا تكون لديه الحيلة ليدافع عن نفسه أو الآخرين”.

 

وتضيف لـ(التغيير)، أنه ” لازال تكتيكاً ممنهجاً ضد الشخص المستهدف خلال النزاع، وأن الاغتصاب لا يتم من أجل المتعة وإنما هو جزء من الحرب، وعمل ممنهج يتم تعليمه للجنود قبل دخول ساحة القتال على أنه أحد الأدوات التي يتم استخدامها، رغم أن ذلك ممنوع في النزاعات”.

 

ويعتبر الاغتصاب واحد من الانتهاكات ضد المرأة، وقد تم استخدامه كسلاح في كل حروب السودان.

 

ترى الباحثة الاجتماعية، ثريا إبراهيم أن “الخوف من المساس بالمرأة، يجعل المغتصب يعتدي عليها لاعتقاده أنه يهين كرامة الأسرة ويمارس الضغوط النفسية والاجتماعية والثقافية، كما أن وصمة العار التي تلحق بالفتاة المغتصبة تجعلها لا تُبلّغ عما حدث لها لتمارس حقها القانوني، رغم تشجيعنا المستمر لضحايا الاغتصاب لضرورة التبليغ عن هذه الحوادث واسترداد حقوقهن”. وطالبت الباحثة بضرورة وضع خطط لحماية النساء في فترة النزاعات والحروب.

 

من جهتها، تؤكد مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل، وهي وحدة حكومية، سليمي إسحاق وجود  حالات اغتصاب كبيرة للنساء، فقد تم توثيق أكثر من 138 حالة، بينهن 14 طفلة، وسجلت 68 حالة في الخرطوم، و47 في نيالا، و21 في الجنينة، 2 في ود مدني، في حين بلغت حالات الاستغلال الجنسي 29 حالة.

 

وأوضحت سليمى  أن الحالات الموثقة لا تمثل أكثر من نسبة 2% من الواقع، وأنه لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المختفيات قسرياً، خاصةً في مناطق الصراع بالخرطوم ونيالا ومدني، وإقليم دارفور في ظل وجود مواقع لقوات الدعم السريع هناك.

 

وقال مصدر طبي- طلب عدم ذكر اسمه- لـ(التغيير)، أن حالات الاغتصاب أكثرها في مناطق سيطرة الدعم السريع، وذكر أن أكثر الحالات المرصودة في مدينة بحري، وبعضها أدت لمضاعفات، ونزيف وحمل، وأغلب الحالات لفتيات سنهن أكبر من الـ18 عاماً.

 

وأوضح أن حالات الاغتصاب كبيرة جدا والأرقام المرصودة قليلة مقارنة مع تم في الواقع.

 

سلاح قديم جديد

 

وسبق أن استخدم سلاح الاغتصاب ضد النساء في حرب دارفور التي انطلقت شرارتها في العام 2003م، وهذا ما أكده الناطق باسم تنسيقية النازحين واللاجئين آدم رجال، حيث أن تعرض النساء في السودان للعنف الجنسي وخاصة الاغتصاب ليس جديداً، وشهدت حرب دارفور جرائم مماثلة ضد النساء، تم رصدها بواسطة منظمات محلية ودولية.

 

وقال رجال لـ(التغيير)، أن هنالك حالات اغتصاب كثيرة وصلت معسكرات النزوح واللجوء، تجري عملية حصرها بواسطة المختصين ليتم تقديمها للرأي العام المحلي والدولي، حتى يتم معاقبة مرتكبيها.

 

وأشار آدم إلى أن الحكومة السودانية تستخدم منذ سنوات المليشيا التابعة لها لاذلال النساء بواسطة سلاح الاغتصاب، ولم تتم محاكمة الجناة لأن مبدأ تطبيق القانون ظل غائباً طوال فترة حكم النظام البائد، مما يجعل الجناة يفلتون من العقاب.

 

وذكرت  تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في يوليو 2004 أن الحكومة السودانية التي كان يقودها عمر البشير أطلقت أيدي مليشيات بدوية على المجتمعات المستقرة في دارفور تعرض من جرائها المواطنون للقتل والنساء للاغتصاب. واتهم التقرير حينها الجيش السوداني بتقديم الدعم لتلك المليشيا التي عُرفت “بالجنجويد “والتي أصبحت فيما بعد نواة لقوات الدعم السريع. وكانت المنظمة قد أجرت في ذلك الوقت، مقابلات مع عشرات النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب في تلك الحرب.

 

قلق أممي

 

ووثقت العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية الانتهاكات التي حدثت ضد النساء في الحرب الحالية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

 

وقالت منظمات ومسؤولي إغاثة، أن الصراع بين الطرفين تسبب في تزايد حالات اغتصاب نساء وفتيات، بعضهن بعمر 12 عاما، واختطافهن.

 

وذكرت منظمة إنقاذ الأطفال في بيان يوم الجمعة 7 يوليو 2023، أن مقاتلين مسلحين يعتدون جنسيا على فتيات في سن المراهقة ويغتصبونهن “بأعداد مقلقة”، بينما أفادت الأمم المتحدة بوجود “زيادة ملحوظة” في العنف على أساس النوع.

 

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 4.2 ملايين شخص في السودان معرضون لخطر العنف على أساس النوع، في حين كان العدد يبلغ ثلاثة ملايين قبل بدء الصراع في منتصف أبريل. وقالت أن الخطر يزداد بشدة في أثناء انتقال النساء والفتيات بحثا عن أماكن آمنة.

 

ويُذكر أن أكثر من 2.9 مليون شخص نزحوا عن ديارهم بسبب الحرب وفرّ حوالي 700 ألف منهم إلى الدول المجاورة.

 

وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن بعض النساء يصلن وقد حملن نتيجة الاغتصاب.

 

ونسبت مفوضية حقوق الإنسان الأممية 70% من حوادث العنف الجنسي المؤكدة لمقاتلين من المليشيا. فيما ذكر تقرير “لحملة معا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي” وهي حملة قامت بها مجموعة من منظمات المجتمع المدني، والذي أُجري في الفترة من 15 أبريل وحتى 31 ديسمبر 2023م، أنه تم توثيق 189 حالة منتشرة عبر 6 ولايات، وعدد الضحايا 185 أنثى و4 ذكور، وتتراوح أعمار الضحايا بين 11 و45 عاما، كما تبلغ نسبة الأطفال منهم 46%، ونسبة والشبان والشابات (18-34) 42%. وقال المشرفون على الحملة أن العينة تتضمن فقط حوادث في 6 ولايات.

 

علاج الناجيات

 

تنشط عدد من المنظمات في العمل على تخفيف آثار الإعتداء الجنسي من خلال فتح مراكز للعلاج في عدد من ولايات السودان التي لم يصلها الصراع حتى الآن.

 

يقول موظف يعمل في منظمة دولية غير مخول له بالحديث، أن منظمات أممية تعاقدت مع بعض المستشفيات في الولايات غير المتأثرة بالحرب لعلاج الناجيات من العنف الجنسي على نفقتها وتقديم الاستشارات النفسية.

 

وأوضح الموظف لـ(التغيير)، أن أكبر المراكز كانت في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة وكان بها عدد من الفتيات اللاتي تعرضن لاغتصاب ولكن بعد دخول  قوات الدعم السريع للمدينة تم إخلاء الضحايا إلى ولايات أخرى لمواصلة العلاج.

 

وتعمل  “مبادرة لا لقهر النساء”، في مجال تقديم الاستشارات النفسية والقانونية لضحايا والناجيات من العنف الجسدي لتجاوز آثار ما بعد الصدمة.

 

وتقول رئيستها  أميرة عثمان، “نحن النساء ندفع ثمن الحروب وهذه معاناتنا الأساسية لذلك نحن أصحاب المصلحة لإيقافها وأكثر رغبة في حلها جذرياً لأن تبعاتها لا تقف مع وقف الحرب فقط، بل ندفع ثمنها سنين أخرى من أعمارنا ونحن نعيش في البؤس والحرمان”.

 

وتضيف لـ(التغيير)، “نحن في المبادرة رفعنا شعار (أجسادنا ليست أرضا لمعارككم)، لأن استخدام جسد النساء كسلاح في المعارك معروف في الحروب، والعقول التي تدير الحروب تاريخيا في الحياة البشرية هي عقول ذكورية، وتحاول إعطاء نفسها انتصارا زائفا، عندما تغتصب وتنتهك حق النساء في الحياة الكريمة”. وأكدت أنهن في المبادرة يقفن ضد هذه الممارسات وضد الاضطهاد الذي تتعرض له النازحات في البيوت العشوائية نتيجة للحروب.

 

أثر نفسي

 

ومع تواصل الحرب في السودان واتساع نطاقها، تزيد احتمالات وقوع المزيد من حالات العنف الجنسي والاغتصاب، فيما تواجه فاطمة ورفيقاتها من الضحايا/ الناجيات واقعاً مرتبكاً ومستقبلاً مجهولاً نتيجة تبعات حوادث الاغتصاب التي تعرضن لها، فيصبحن أسيرات الألم الجسدي والأثر النفسي، فضلاً عن مواجهة الوصمة في مجتمع لا يرحم، لازال ينظر لضحايا الاغتصاب نظرة شك، خاصة إذا أنجبت إحداهن طفلاً جراء الجريمة، مما يجعل أغلبهن يفكرن في الانتحار أو الهروب بعيداً تحاشياً لنظرة المجتمع لهن ولأسرهن.

Exit mobile version