أ. د. فكري كباشي
بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة، واستهلالاً لمرحلة إعادة الإعمار والبناء، وفي إطار الإصلاح الشامل للاقتصاد، ليكن بالتوجه الفعلي نحو نظم اقتصاد المعرفة.
لقد نشأ “اقتصاد المعرفة” خلال ثلاثة تحولات ميّزت تطور المجتمعات البشرية، فمن المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي وصولاً إلى المجتمع المعرفي، ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يلي:
التحول الأول: المجتمع الزراعي، وبدأت هذه الثورة أول ما بدأت على ضفاف الأنهار الكبرى كما في نهر النيل ونهري دجلة والفرات ونهر الأمازون، حيث التربة الخصبة.
التحول الثاني: المجتمع الصناعي أو “اقتصاد الآلة” وترجع عملية الانتقال من التحول الأول إلى الثاني (من الزراعة إلى الصناعة) لعدة أسباب أهمها زيادة عدد السكان في المناطق الآهلة ومحدودية المصادر الطبيعية وعجزها عن توفير الكميات الكافية من ضروريات العيش وكذلك التمايز الشديد للمناطق الآهلة من حيث المزايا الطبيعية المتوفرة وظهور العديد من مصادر الطاقة الجديدة.
وقد كان ضرورياً، اللجـوء إلى عملية التصنيع بدل عمليات الزراعة والصيد، ولذلك استخدمت الآلة، فالآلـة أساس المصنع والمصنع عمود الصناعة.
التحول الثالث: المجتمع المعرفي أو “اقتصاد المعرفة” ، وقد شكلت الحرب العالمية الثانية نقطة التحول الثالث والذي تمثلَ في الثورة العلمية أو المعرفية. ومن أهم ما ميز هذا التحول، العمل على تحول المعرفة إلى قوة منتجة وتقلص المسافة الفاصلة بين ميلاد الاختراع وتطبيقه على أرض الواقع، فلم تمض سوى خمس سنوات عن اكتشاف الترانزستور حتى عم استعماله صناعيا، وفي هذا السياق، كتب “دانييل بيل” عام 1967 يقول: إن متوسط طول المدة بين اكتشاف مبتكر تكنولوجي جديد وبين إدراك إمكانيته التجارية كان ثلاثين عاماً في الفترة ما بين عامي 1880 و1919، ثم انخفض إلى 16 عاماً في الفترة ما بين عام 1919 و1945، ثم إلى 9 أعوام، وكلما مرت السنوات كلما قصرت المدة بين الابتكار والتحول إلى نمط الإنتاج العلمي والتقني، من مرحلة الإبداع الفردي إلى الإنتاج الجماعي خلال القرن العشرين، بمعنى أنه خلال التحولين الأول والثاني كان الأفراد هم أساس الاختراع والابتكار، أما في ظل التحول الثالث فقد أصبحت المؤسسات والجامعات…الخ هي الرائدة في إنتاج الصناعات الابتكارية والتكنولوجية.
لقد استخدمت عدة مسميات لتدل على اقتصاد المعرفة مثل اقتصاد المعلومات واقتصاد الانترنت والإقتصاد الرقمي والإقتصاد الالكتروني، كل هذه التسميات لتشير في كليتها إلى اقتصاد المعرفة.
وان حاولنا أن نسقط الأمر على السودان والذي يعتبر في الأساس مجتمع زراعي كما وجدت آثار تدل على أن المجتمع السوداني عرف الزارعة منذ أمد سحيق، ثم بدأ التحول إلى المجتمع الصناعي، وأن عملية الانتقال من التحول من الزراعة إلى الصناعة في السودان بدأت بشكل واضح منذ مطلع الستينيات وإلى السبعينيات، حيث يعتبر هذه بداية مبكرة مقارنة بدول الجوار مثل دولة إثيوبيا والتي بدأت تتلمس الطريق نحو التحول من الزراعة إلى الصناعة أو الصناعات الزراعية قبل وقت قريب ، ولدينا في السودان العديد من النماذج فعلى سيبل المثال وليس الحصر كان السودان يقوم بتصدير الجلود المدبوغة وكذلك المصنعة، كأحذية شركة ( بــــــــــاتـــــــــــــــا) الشهيرة والتي كان إنتاجها يغطي الإستهلاك المحلي مع وجود فائض، والأمر كذلك في مجال صناعة القطن في صورة غزل، ومصانع الغزل والنسيج المملوكة لرائد الأعمال خليل عثمان تقف شاهداً، وحتى صناعة الملبوسات الجاهزة ( سلوى بوتيك) وصناعة الحبوب الزيتية والعديد من الصناعات التي ازدهرت في فترة مبكرة قد تكون حققت السبق على كثير من دول الجوار الإقليمي في المحيطين العربي والافريقي.
وكان من المفترض أن يكون السودان وبحكم التطور التاريخي والسبق رائداً في اقتصاد المعرفة نظراً لعراقة الجامعات والمؤسسات البحثية خاصة في مجال البحوث الزراعية، والشاهد في الأمر نجد أن معظم الصادرات السودانية الحالية من المواد الخام في صورتها الأولية كالجلود والحبوب الزيتية والقطن.
إن تصدير المنتجات السودانية في هيئة مواد خام أمر يحتاج لوقفة تأمل من خلال البحث لمعرفة المعوقات التي أدت إلى توقف عجلة الصناعة وتأخرها، وكذلك يتعين تناول أمر ترقية وتطوير الصادرات أو التطور الصناعي لكافة المنتجات الزراعية من أجل الاكتفاء الذاتي وإعداد إنتاج خاص بالتصدير على أن يتم كل ذلك من خلال دراسات علمية رصينة من قبل الباحثين المتمكنين في الجامعات وعلى السادة في الجهاز التنفيذي الإقرار بأن ابتعاد المؤسسات البحثية في الجامعات وإعمال العلم في التنمية يمثل نتيجة واضحة وباينة وغير محتاجة إلى اجتهاد كبير لمعرفة الأسباب.