اتفاقية جوبا في مرمى النيران: تفخيخ السلام وزرع الفتنة

د.عبد الناصر سلم حامد
أول خطوة على طريق نجاح الدعم السريع في حربه لم تكن في السيطرة على المدن أو الاستيلاء على العتاد، بل في محاولات منهجية لضرب الجبهة الموحدة للقوات المسلحة والقوات المساندة لها. فإضعاف الحلف الوطني من الداخل يُعد السلاح الأخطر الذي تراهن عليه قيادة التمرد، إذ لا يمكنها مواجهة الجيش في الميدان ما دام الأخير محتفظًا بتماسكه السياسي والعسكري.
في لحظة وطنية حرجة، يعيش السودان حربًا ضارية تهدد بتمزيق نسيجه السياسي والجغرافي، وفي خضم هذه المعركة المصيرية تتصاعد دعوات خطيرة تستهدف اتفاقية جوبا للسلام، إما بتقويضها أو باتهام الأطراف الموقعة عليها بالتواطؤ والمصلحة. هذه الحملات لا تبدو بريئة، ولا يمكن فصلها عن السياق العسكري والسياسي الذي يحاول خصوم الدولة – في الداخل والخارج – استغلاله لتفكيك ما تبقى من جبهة وطنية متماسكة.
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، اتخذت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا مواقف وطنية واضحة، وانخرطت بعض وحداتها ضمن القوات المشتركة المساندة للجيش، خاصة في مناطق مثل الخرطوم والفاشر. لم تكن تلك المواقف مجرد اصطفاف رمزي، بل تجسدت في التزام فعلي بالدفاع عن الدولة ضد تمرد مسلح قادته قوات الدعم السريع بتغطية خارجية، ومهدت له خلايا نائمة ومصالح إقليمية وأجندات فوضوية. في المقابل، لم تسجل أي مشاركة لقوات جوبا في القتال إلى جانب الدعم السريع، ما يثبت – بحده الأدنى – حيادها الوطني، إن لم يكن انحيازًا كاملاً للشرعية.
لكن بالرغم من هذا الموقف، لم تسلم تلك القوات من سهام التخوين، بل بدا أن هناك من يسعى عمدًا إلى نسف ثقة الشارع والجيش فيها، عبر حملات تشويه منهجية تضع الحركات في خانة المتربص بالسلطة، المتحايل على الدولة، المتواطئ في الخفاء. وهو منطق يعكس اضطرابًا سياسيًا ونفسيًا في فهم تعقيدات المرحلة، ويكشف عن أن بعض الفاعلين في المشهد السياسي لا يزالون حبيسي عقلية الإقصاء والصراع الصفري.
ما يدعو للقلق أكثر هو أن هذه الحملات تتزامن مع تصعيد عسكري حاسم في دارفور وكردفان، حيث تحاول قوات الدعم السريع تثبيت نفوذها، وتوسيع نطاق السيطرة عبر تجنيد المرتزقة، ونهب المدن، وزرع الفوضى. في هذا السياق، يصبح أي تشكيك في الحركات المقاتلة إلى جانب الجيش خدمة مجانية للمشروع المعادي، سواء أدرك مطلقو هذه الحملات ذلك أم لا. فخلق فتنة داخل الصف الوطني، خاصة بين القوات المسلحة وقوات الكفاح المسلح، يُضعف الجبهة الداخلية ويمهد لانهيارات ميدانية قد لا تُعالج بسهولة.
اتفاقية جوبا لم تكن حلاً نهائيًا، لكنها مثّلت تحولًا نوعيًا في مسار النزاع السوداني. لأول مرة منذ سنوات، تم إدماج الحركات المسلحة في هياكل الدولة بصورة رسمية، ووجد المقاتلون طريقًا للمؤسسة العسكرية لا للحرب الأبدية. وهذه المكاسب – على محدوديتها – ساهمت في تهدئة النزاع في مناطق واسعة، وأعطت أملاً بإمكانية بناء سودان جديد يضم كل الأطراف. غير أن عدم استكمال تنفيذ بنود الاتفاق، والاضطرابات اللاحقة، واستيلاء الدعم السريع على السلطة، جميعها ساهمت في عرقلة الاتفاق وشحن الأجواء ضده.
ورغم أن النقد الموضوعي للاتفاقية مشروع، إلا أن توقيت الهجوم الحالي عليها غير بريء. فالحرب لا تزال قائمة، والمعركة لم تُحسم، وأي انقسام في هذه اللحظة سيُترجم عسكريًا على الأرض، لا سياسيًا في القاعات. الأسوأ من ذلك أن بعض الجهات – في الداخل والخارج – تستثمر في تفجير هذا الاتفاق لأهداف تتجاوز السودان ذاته، في إطار صراع إقليمي على النفوذ والممرات والثروات.
الهجوم على القوات المشتركة، وهي قوات تابعة للدولة وفق نصوص الاتفاق، لا يستهدف فقط الحركات المسلحة، بل يشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة المؤسسة العسكرية في ظل أخطر حرب تمر بها البلاد. إن تخوين قادة هذه القوات، أو التلميح إلى أنهم “أصحاب مصالح فقط”، لا يراعي طبيعة المعركة، ولا يحترم دماء الشهداء الذين سقطوا في صفوف هذه القوات، ولا يأخذ في الاعتبار أن البديل ليس أفضل، بل قد يكون الفوضى والتمزق.
ما لا يجب أن يُنسى هنا أن الدعم السريع – بخطابه وسلوكه – يسعى لتفكيك الجيش من الداخل، وتفتيت الحلفاء المحيطين به، واستقطاب أي طرف يبتعد عن الصف الوطني. ومن ثم فإن شيطنة الحركات المسلحة في هذا التوقيت تصب تمامًا في مصلحة العدو، وتحقق له ما عجز عنه بالسلاح.
أما الحديث عن إعادة هيكلة الاتفاق الآن، فهو ضرب من الغفلة أو السذاجة السياسية. فليست هذه لحظة تعديل اتفاقيات أو محاسبة شركاء، بل لحظة حماية ما تبقى من جبهة وطنية موحدة. الدولة لم تنهض بعد من أنقاضها، والجبهات مشتعلة، والنزيف مستمر، والانشغال بالتجريح السياسي الآن ليس فقط مضيعة للوقت، بل تهديد وجودي لبقاء الدولة نفسها.
تخيل سيناريو انهيار اتفاق جوبا أو إخراج الحركات الموقعة عليه من المعادلة الوطنية، سيعني ذلك ببساطة تفكيك آخر جبهة مسلحة تقاتل إلى جانب الجيش، وترك القوات المسلحة في مواجهة وحيدة مع مليشيا تمتلك إسنادًا خارجيًا وتسليحًا متقدّمًا وغطاءً إعلاميًا وإقليميًا واسعًا. فالاتفاق لم يكن فقط وثيقة سياسية، بل أصبح واقعًا عسكريًا ميدانيًا يتجسّد في آلاف الجنود المنتشرين في جبهات القتال.
لقد كنت خلال الأسابيع الماضية على تواصل مباشر مع عدد من قيادات القوات المشتركة من الحركات المسلحة، وجميعهم أكدوا بلا استثناء أن معركتهم ضد قوات الدعم السريع مستمرة، وأن هذا القتال ليس مرتبطًا باتفاق أو مكاسب سياسية، بل هو التزام أخلاقي ووطني تجاه السودان. قال لي أحدهم: “لن نغادر الميدان حتى تُهزم هذه الفتنة بالكامل، ولو لم يُبْقِ لنا أحدٌ منصبًا أو سطرًا في الاتفاق”.
هذا الموقف يعكس أن القوى الموقعة على اتفاق جوبا لم تعد أسيرة للنصوص، بل انخرطت فعليًا في معركة الدفاع عن بقاء الدولة، وترى أن استمرار دعم القوات المسلحة واجب لا مساومة عليه. وبالتالي فإن أي محاولة لتحييدها أو ضربها سياسيًا في هذا التوقيت، تعني تسليم الجبهة لأعداء الوطن، وضرب التوازن الاستراتيجي الذي صمد حتى الآن رغم شراسة المعركة.
من المهم أيضًا التذكير بأن اتفاق جوبا لم يكن وليد تسوية محلية فقط، بل جاء برعاية إقليمية ودولية ضمن مسار تدعمه الإيقاد، وبإشراف مباشر من شركاء دوليين مثل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة. وبالتالي فإن نسفه أو تفكيكه لا يمس فقط الوضع الداخلي، بل يُضعف مصداقية السودان أمام المجتمع الدولي كشريك في مسارات السلام والتنمية. كما أن القوات المسلحة السودانية لم تُعلن حتى اللحظة عن أي موقف رسمي بسحب الاعتراف بالاتفاق، ما يعني أن الحملة ضده تستبق حتى مؤسسات الدولة، وتضرب التوازن الهش في لحظة لا تحتمل المزيد من التفكك.
لقد أدركت قيادة التمرد أن أول خطوة نحو الانتصار لا تكون بالقوة الميدانية فقط، بل بتمزيق الصف الوطني من الداخل. فإضعاف جبهة القوات المسلحة وحلفائها من القوى المقاتلة هو الهدف الأول للدعم السريع، ومن يشارك في ضرب هذه الجبهة – عن قصد أو جهل – فإنه يقدم خدمة مجانية للعدو. السودان في حاجة إلى التماسك، لا إلى توزيع الاتهامات. وإعادة بناء الدولة تبدأ بالحفاظ على ما تبقى من جسدها.