إرث كينيا وعلاقتها بقوات الدعم السريع في السودان: كل الضوء الذي لا نراه!

 

د. أمجد فريد الطيب

لطالما كانت كينيا رمزًا للنضال الإفريقي من أجل التحرر، لكنها اليوم تقف عند مفترق طرق يهدد إرثها التاريخي. فمن دولة كانت منارة للتضامن مع حركات الاستقلال، أصبحت تجد نفسها متورطة في تحالف يُعرّض مكانتها الأخلاقية للخطر. تحت قيادة الرئيس ويليام روتو، انحرفت كينيا عن مبادئها الوحدوية الإفريقية بانخراطها مع مليشيا قوات الدعم السريع، ما جعلها تصطف مع الأجندات الاستعمارية الجديدة لدولة الإمارات العربية المتحدة في السودان. هذا التحول لا يقوض فقط سيادة السودان، بل يثير تساؤلات حول مدى التزام كينيا بمبادئ الاتحاد الإفريقي وتحرير القارة.

 

إرث كينيا الوحدوي الإفريقي: المبادئ على المحك

لم تكن مساهمة كينيا في نضالات التحرر الإفريقية مجرد فصل من تاريخها، بل كانت الأساس الذي بُنيت عليه مكانتها في القارة. فمنذ منتصف القرن العشرين، كانت كينيا ملاذًا لمناضلي الاستقلال، ومركزًا للحوار الوحدوي الإفريقي، وقوة فاعلة في مواجهة الاستعمار. وكانت نيروبي بمثابة القلب النابض للفكر الثوري، حيث احتضنت قادة حركات التحرر والمنفيين السياسيين. وكان الرئيس الكيني المؤسس جومو كينياتا مثالًا حيًا لهذا الالتزام، فلم يقتصر دوره على تحقيق استقلال كينيا عام 1963، بل امتد لدعم كفاح شعوب أخرى في إفريقيا لنيل حريتها.

 

عندما شاركت كينيا في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، عززت مكانتها كرائدة في الدفاع عن سيادة الدول الإفريقية. وقد صُمّمت مبادئ المنظمة—والتي تبناها لاحقًا الاتحاد الإفريقي—لحماية القارة من التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية، وهما التهديدان الرئيسيان اللذان يعصفان بالسودان اليوم. ومع ذلك، نجد أن كينيا اليوم تخاطر بخيانة هذا الإرث، بمنحها الشرعية لمليشيا مسؤولة عن فظائع مروعة ضد الشعب السوداني، خدمةً لأجندات أجنبية. فكيف لدولة لطالما دافعت عن استقلال إفريقيا أن تمنح الآن شرعية دبلوماسية لكيان عسكري متورط في جرائم موثقة دوليًا؟

 

قوات الدعم السريع والمشروع الاستعماري الإماراتي في السودان

يمر السودان اليوم بحرب مدمرة بين قواته المسلحة ومليشيا قوات الدعم السريع، التي انطلقت في 15 أبريل 2023، لتشن حملة عنف وحشية امتدت من دارفور إلى الخرطوم، متسببة في مجازر عرقية، وجرائم عنف جنسي ممنهج، وتهجير قسري لملايين السودانيين. وقد اعترفت الحكومة الأمريكية رسميًا في ديسمبر 2024 بأن الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، ما يعكس حجم الجرائم التي تُرتكب.

 

في صميم هذا المشهد الكارثي، تبرز الإمارات كلاعب رئيسي، حيث تقدم دعمًا استراتيجيًا مستمراً لقوات الدعم السريع كجزء من طموحاتها الاستعمارية في السودان. وقد أشار المشرعون الأمريكيون إلى أن استمرار هذا الدعم الاماراتي للمليشيا يعد من العوامل الرئيسية التي تطيل أمد الحرب في السودان. وفي يناير 2024، وثّق تقرير صادر عن لجنة خبراء مستقلة تابعة للأمم المتحدة الدور الإماراتي في تزويد قوات الدعم السريع بالأسلحة، والتمويل، والدعم اللوجستي. كما أكدت تحقيقات إعلامية مستقلة أن الاستراتيجية الإماراتية تهدف إلى ترسيخ هيمنتها الاقتصادية والجيوسياسية على السودان. هذا التدخل ليس مجرد استعراض لنفوذ خارجي؛ بل هو محاولة ممنهجة لانتزاع سيادة السودان، في تكرار لأنماط الاستغلال الاستعماري عبر التاريخ.

 

تحول كينيا الخطير: من رائدة للتحرر إلى أداة للتدخل

تحت قيادة الرئيس روتو، انحرفت السياسة الخارجية الكينية عن مسارها التاريخي في الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان. وبدلًا من إدانة الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع، منحت كينيا هذه المليشيا اعترافًا دبلوماسيًا، وتعاملت معها ككيان سياسي شرعي، متجاهلة سجلها الدموي من التطهير العرقي، والعنف الجنسي الجماعي، والنهب المنهجي.

 

إلا أن أخطر تطور في هذا السياق جاء في 18 فبراير 2025، حين استضافت كينيا الإعلان عن تحالف جديد لقوات الدعم السريع، في خطوة تهدف إلى ترسيخ سيطرة هذه القوات على الأراضي السودانية، ووضع الأساس لحكومة موازية. كان الهدف من هذه الخطوة الالتفاف على الضغوط الدولية المتزايدة التي تواجهها الإمارات بسبب دعمها لهذه المليشيا، من خلال إنشاء كيان صوري يتيح استمرار المساعدات العسكرية واللوجستية، وبالتالي إطالة أمد الحرب. ولإخفاء بصماتها، تجنبت الإمارات إعلان تشكيل هذا الكيان من أبوظبي نفسها ووضعت كينيا في الواجهة.

 

هذا التحرك يمثل انتهاكًا صارخًا لوحدة السودان، ويمهد الطريق لتكرار السيناريو الليبي واليمني، اللذين لعبت الإمارات دورًا رئيسيًا في تفككهما. كما أنه يقوض المبادئ الأساسية للاتحاد الإفريقي، الذي أُنشئ لحماية الدول الإفريقية من التدخلات الخارجية والتفكك الداخلي. وما تفعله كينيا اليوم ليس مجرد خيانة لمبادئها التاريخية، بل هو تواطؤ صريح في تمزيق دولة إفريقية أخرى، مما يهدد استقرار منطقة القرن الإفريقي بأكملها.

 

لحظة فاصلة: بين الاختيار والإرث

تقف كينيا اليوم أمام لحظة تاريخية ستحدد إرثها للأجيال القادمة. فالحكومات تتغير، لكن الشعوب لا تنسى. فهل ستُذكر كينيا كدولة ساهمت في تفكيك السودان، أم كحليف مخلص لشعبه في كفاحه من أجل السلام والسيادة؟

 

إن تداعيات هذا القرار تتجاوز السودان، إذ إن موقف كينيا سيؤثر على مكانتها في القارة الإفريقية، وعلى مصداقيتها داخل الاتحاد الإفريقي. ففي وقت تفشل فيه المنظومات الدولية في مواجهة النزاعات العالمية، يصبح اتخاذ موقف مبدئي ضرورة وليس خيارًا. لأن التركيز على المصالح الآنية على حساب المبادئ لا يؤدي إلا إلى خلق عالم تسوده الفوضى وانعدام الأمن، وهي تداعيات لن تظل بعيدة عن كينيا نفسها. وحدها الشجاعة المبدئية، رغم صعوبتها، قادرة على إضاءة الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدلًا.

 

القيادة الحقيقية تتطلب شجاعة أخلاقية—تلك التي جسدتها كينيا في عهد جومو كينياتا عندما دعمت تحرر إفريقيا. إن كينيا، بتاريخها العريق، هي اكبر مم أن تكون مجرد أداة في يد الإمارات لخدمة مخططاتها الاستعمارية في المنطقة.

 

إن التوقع بأن تلعب كينيا دورًا بناءً في حل أزمة السودان ليس توقعاً عابرًا، بل هو ما يتناسب مع تاريخها. وللحفاظ على هذا التاريخ، يجب عليها أن ترفض بشكل قاطع الأجندة التقسيمية للإمارات وقوات الدعم السريع، وأن تجدد دعمها لوحدة السودان. فمحاولة الاختباء خلف الخطاب الدبلوماسي لن تخفي التكلفة الحقيقية لهذا الانحراف عن المسار الأخلاقي.

 

لن يُحكم التاريخ على كينيا من خلال مصالح قادتها الحاليين، بل من خلال العواقب الدائمة لخياراتهم. فترك القوى الخارجية تستخدم السودان كساحة نفوذ بلا محاسبة، لن يؤدي إلا إلى مستقبل أكثر قتامة، ليس فقط للسودان، بل للقارة الإفريقية والعالم بأسره.

 

الرهانات لم تكن يومًا أعلى مما هي عليه الآن: للسودان، لإفريقيا، ولمكانة كينيا الأخلاقية. فلتختر كينيا بحكمة—وإلا فإنها تخاطر بفقدان الاحترام والمكانة اللذين استحقتهما عبر تاريخها.

 

نقلا عن “Africa Report”

Exit mobile version