أين أنت يا سوخوي؟

صباح مكي
بينما تتعرض الفاشر لهجومٍ غادرٍ من المليشيا، وبلغت القلوب الحناجر، وتغلي الأسافير بالإشاعات، وضجّت القنوات بالأخبار المضللة، يغيب صوت الدولة في أخطر معارك الوعي والإعلام. تتكلم الميادين ويصمت الإعلام، فتتحول وزارة الإعلام إلى ظلٍّ باهتٍ في زمنٍ يحتاج إلى الكلمة بقدر ما يحتاج إلى البندقية. أين “السوخوي” قائد وزارة الإعلام؟
‐—————————————————-
في الوقت الذي تتعرض فيه مدينة الفاشر لهجومها رقم 266 منذ اندلاع الحرب، وفيما يقدّم أبناؤها أروع صور الصمود، ينكشف أمام أعيننا عجزٌ إعلامي يندى له جبين الوطن، وتتكشف معه كارثةٌ إعلامية تُعرّي غياب الدولة عن جبهتها الأولى: جبهة الوعي.
وزارة الإعلام صامتة، ووكالة سونا الرسمية غائبة.
تتكلم الميادين، ويصمت الإعلام… وتلك هي المأساة الحقيقية.
أين الوزارة من معركة الفاشر؟ وأين الوزير من جبهات الوعي؟ أين البيانات والخطة والردّ؟
أين الصوت الرسمي الذي يُفنّد أكاذيب المليشيا، ويقود الجبهة الدولية، ويُعزّز الجبهة الداخلية، ويبعث برسائل الوحدة والثبات إلى الشعب في مواجهة سيل الأكاذيب، والطوفان الإعلامي المسموم، وأمواج التضليل المنظَّم، والحملات الدعائية المأجورة التي تُغرق الفضاء بالزيف؟
وأين هي الوزارة من وسائل الإعلام الأجنبية التي تُمارس الدعاية للمليشيا من داخل الخرطوم، وتبث سمومها تحت أنفها بلا رقيبٍ ولا ردّ، بينما تملأ دعاية نظام أبوظبي وواجهاته من بقايا قحت و”صمود” وعملاء الداخل وأذياله الفضاء ضجيجًا وزيفًا؟
من المعيب أن تكون الحقيقة اليوم تُروى من مقاطع المقاتلين في الميدان، ومنشورات الإعلاميين الوطنيين، بينما مؤسسات الدولة التي يُفترض أن تقود الوعي غارقة في صمتٍ يُثير الريبة. ولولا تلك الأصوات الشريفة، لابتلع الناس الدعايات المغرضة والإشاعات المسمومة الصادرة عن ماكينة الدعاية التابعة لنظام أبوظبي وواجهاته التي تُتاجر باسم الثورة والوطن.
يا سوخوي، ذلك اللقب الذي منحتك إيّاه الناس يوم كنت تصرخ بالحق وتتكلم كالصاروخ. أين أنت الآن؟ كنت وعدت أن تكون درع الكلمة، فإذا بك تتحول إلى ظلٍّ باهتٍ في سماءٍ تغمرها الأكاذيب.
نعلم أنك لست الناطق الرسمي باسم الدولة، لكنك تُدير وزارة الإعلام، ومسؤوليتك أن تنظّم تدفّق المعلومات وتُنسّق بين المؤسسات وتوحد الرسالة. لا شيء على شاشة التلفزيون، ولا بيان على سونا، ولا منشور في صفحة الوزارة. البلاد تُغرقها أمواج التضليل، والإعلام الرسمي يراقب بصمتٍ كأنّ الكارثة شأنٌ لا يعنيه.
لقد تحوّل الفضاء الإعلامي إلى ساحةٍ تُدار فيها الأكاذيب بالأقمار الصناعية، بينما الوزارة غارقة في فتورٍ مريبٍ وانفصالٍ تام عن نبض الشعب.. المواطنون في المناطق المحرومة من الإنترنت لا يجدون شيئًا على شاشة التلفزيون الرسمي، بينما تنهال عليهم الدعايات المغرضة عبر القنوات الأجنبية، والسودانيون في الخارج يسمعون الرواية نفسها من أبواقٍ دولية تصوغ الأكاذيب بلهجةٍ منمقة. تُضخ ملايين الدولارات لتمويل ماكينة التضليل التابعة للمليشيا، فيما الدولة التي تملك الشرعية تدير معركتها بالصمت، وكأن الوعي رفاهية لا ضرورة وطنية. وهكذا صار صمت الداخل يُغذّي ضجيج الخارج، حتى باتت الأكاذيب تتكلم باسم الوطن.
هل يُعقل أن تكون الصفحات الوطنية والشباب على فيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي أسرع في نقل الحقيقة من وزارةٍ كاملة؟ إذا كنت لا تملك غرفة عملياتٍ إعلامية، ولا خطة طوارئ، ولا فريق أزمة، فهل تنتظر من فيسبوك ومنصّات التواصل الاجتماعي أن يقوموا بمهام وزارة الإعلام؟ انظر حولك يا سوخوي، ففي مثل هذه المواقف تتوحّد القنوات الوطنية في بثٍّ موحّد، تُلغى خلاله كل البرامج والترفيه والدراما، ويُخصّص الأثير بأكمله لنقل الحدث أولًا بأول.
هكذا تفعل الدول حين تواجه الخطر: تحشد إعلامها كما تحشد جيوشها. أمّا نحن، فكل وسيلة تبثّ على هواها، والوزارة التي يفترض أن تقود الجبهة الإعلامية تكتفي بالمشاهدة من خلف الزجاج، كأنّها ضيفٌ لا صاحب بيت.
الحرب الحديثة لا تُخاض بالرصاص وحده، بل بالكلمة والرواية. من لا يدرك أن الإعلام جبهة النصر الأولى، فقد خسر قبل أن تبدأ المعركة. لقد تُرك المقاتلون يقاتلون بالسلاح، والمواطنون بالكلمة، بينما الوزارة تخوض معركتها بالصمت، كأنها اختارت الغياب سلاحًا واستراتيجية.
اليوم، الشعب هو من يقود الوعي. من المقاتل الذي يوثّق من قلب النار، إلى الإعلامي الوطني الذي يواجه الكذب بالحقيقة، إلى الشباب الذين جعلوا من هواتفهم جبهة للدفاع عن الوعي. هؤلاء هم “السوخوي” الحقيقيون. أما الوزارة، فقد آثرت الصمت على المواجهة، فغاب صوتها وغابت معها هيبة الدولة في الفضاء الإعلامي.
يا سيادة الوزير، إنّ الفاشر تنزف، والبلاد تُقاتل، والناس تنتظر من وزارتك موقفًا لا صورة. من يختبئ وقت الحرب لا يستحق شرف الوزارة، ومن يصمت وقت التضليل يشارك في الجريمة بصمته.
الإعلام ليس زينة الدولة ولا ملحقها، بل درعها الأول وسلاحها الأخير. الفاشر تصمد، والشعب يفضح، وإعلام الدولة يتلعثم.فمن يقود الوعي إذًا؟ الشعب… لا الوزارة. ومن يكتب التاريخ؟ الواقع… لا البيانات الغائبة.
وإلى أن تعود “السوخوي” الذي وعدت الناس أن تكون، سيبقى السؤال عالقًا في الذاكرة كسيفٍ في الهواء:
هل خمد محركك… أم آثرت التحليق فوق الغبار، في سماءٍ بلا اتجاه، لتتفادى رؤية الحقيقة، تاركًا الأرض لخصومها؟



