أبو القاسم قور .. رحيل فيلسوف السلام

طارق عبد الفتاح المحامي
ما رأيت إنساناً عاش السلام حقيقةً ومجازاً ، يقظةً ومناماً ، معنى ومبنى ، مثل الراحل البروفسور أبوالقاسم قور حامد ، الذي إنتقل الأربعاء العشرين من أغسطس الجاري إلى جوار ربه بمدينة القاهرة، ولقد تتبعت ذلك في حياته منذ أن عرفته في الثمانينات حين عملنا في مجلة “سنابل” الأسبوعية محررين في أقسام الشؤون السياسية والثقافية والتحقيقات الصحفية، وأذكر يوم جاءنا خبر توقيع إتفاقية الميرغني _ قرنق للسلام ، وأرسل إلينا رئيس التحرير الدكتور محمد محجوب هارون لإجتماع عاجل لنرسم خط المجلة إزاء الحدث التاريخي ، ودارت عجلة النقاش ، تعلو حيناً وتخبو أخرى ، وكان الدكتور محمد محجوب من أكثر المؤيدين للإتفاقية ، ويرى فيها خلاص البلد من رحى الحرب وويلاتها ولم يبد المرحوم قور معارضةً تذكر كما كان بعضنا يرى فيها الفتنة الكبرى . كان أكثرنا هدوءاً ورزانة ، رغم حرارة دماء الشباب التي غلت في العروق من فوران الأحداث وإنتشار حرارتها في الأرجاء.
لم ينقطع عشق المرحوم قور للسلام وفكر السلام والدعوة إليه ، منذ عهد سنابل في الثمانينات حتى إلتحق بالمفوضية القومية لحقوق الإنسان عضواً مفوضاً سنة 2016م ، وعدنا حينها نعمل سوياً نعالج ملفات الحقوق والحريات ، والمرحوم قور يعمل بجد ووله وعشق ظاهر حتى في مداولات مجلس المفوضية برئاسة الأستاذة إيمان نمر ، التي نشهد لها أنها برهنت على إلتزامها الجاد بحماية وتعزيز وترقية أوضاع حقوق الإنسان في البلاد ، ولم تكن تداهن السلطة أو تداري سوءات الإنتهاكات هنا وهناك، وكان المرحوم ساعِد المفوضية الأيمن في التعاون الدولي إلى جانب الراحل السفير أبو القاسم عبد الواحد رحمه الله رحمة واسعة.. وقد كنت شاهداً على الطريقة الرائعة التي أدار بها المرحوم قور ملف مقتل الدبلوماسي الأمريكي قرانفيل. لقد كان شائكاً مستعصياً إلا على رجل مثل قور يتمتع بخبرات كشكولية في التفاوض والإلمام التام بقواعد الصلح في الديانات الإسلامية والمسيحية، وأعراف مجتمعات القاتل والمقتول ، هذا إلى جانب لغته الإنجليزية القوية الرصينة.
المرحوم قور مخلوقٌ من طينة السلام رغم أنه ولد وترعرع في بيئة تعتز بـ (الدواس) وتنتشر فيها ثقافة الحرب وشِعر الحكامات الحماسي ، كما تنتشر فيها أعراف الصلح والراكوبة . وقد نذر عمره ،كما كتب في مؤلفاته، ليسود السلام ويغمر بضوئه الساطع ربوع السودان. وكان يعلم رحمه الله أن طريقه هذا شاق وشائك ومكلف ويحتاج للتضحيات الجسام من أجل السلام تماماً كما تكلف الحرب والدفاع عن الوطن . فالحرب تكلفة عظيمة والسلام تكلفة أعظم . وكان ، كما قال ، يرد على منتقدي مشروعه للسلام ، أن الحرب عارضٌ في الثقافة السودانية، وسوف يجيئ يومٌ يعم فيه السلام .
كان في الفلسفة نجماً يتجلى، لكل شيءٍ عنده فلسفة ، للسلام ، للمسرح ، لحقوق الإنسان ، كل الحياة ، حتى أكله وشرابه وتسوقه وتجوله في الأسواق، حيث تسود لغة الحساب وجدول الضرب وسعر الصرف. كنا مرة في جنيف نشارك في إجتماعات التحالف الدولي للهيئات الوطنية لحقوق الإنسان، وخرجنا من فندق (دريك) في شارع (رودو لوزان) نقصد سوبرماركت صغير تديره إمرأة مغربية مهاجرة ، نسينا ما قصدنا أن نشتريه من فرط النقاش الذي إبتدره المرحوم قور مع المغربية وأولادها حول الحياة الأوروبية وقضايا الإندماج المجتمعي وغربة الهوية الإسلامية، ونحو ذلك من الأمور العالية، وكأنه سقراط الذي أحبه، وهو يدير حوارات الحياة مع تلاميذه وشباب أثينا حتى انتهى به الحال إلى المقصلة مداناً بتهمة الهرطقة !
لم يكن يفلسف أي شيء من أجل التفلسف، بل إبتغاءً للحكمة ، ويفعل ذلك بعيداً عن الثرثرة والمراء والسفسطة ، وأعرف عنه أنه كان يكره ، في سماحة بالغة، الجدل العقيم ، وسمعته مرة يصف أحدهم وقد تقعر النقاش معه بـ(الديماغوغي) ، وقد أوحى لي ذلك الوصف في حينه ، أن الديماغوغي من الدماغ الملخبط !!
كان يحمل قلم الفلسفة ليصحح به مبادئ المعارف المختلفة. إحتدم مرةً بيني وبينه نقاش عميق حول “الزمكانية” وعلاقتها بالقانون . لم نصل لنتيجة حاسمة، ولكنا توقفنا عند ما هي الترجمة السليمة لما أصطلح عليه بـ(spacetime) هل هي الزمكانية أم الزمان والمكان أم الزمفضائية أم الزمضائية ؟!!. تلك كانت من نقاشات الفراغ العريض في الثمانينات ونحن ما زلنا لم تحتوينا الهموم الأسرية والمشاغل الدنيوية !!
كان قور في وطنه السودان كزامر الحي الذي لا يطرب. ولو كان غير ذلك لتم منحه أرفع الأوسمة ، ومثله في غير بلده كثيرون تم تكريمهم وهم أحياء . وربما كان ذلك كذلك ، لأن تلك البلدان فيها من الرشد والإدراك مايكفي لتلتفت إلى علمائها ومفكريها وخبرائها المتميزين، فتعمل على رد جمائلهم ، أحياءً أو أمواتا، إلا بلدنا الذي ينتظر يوم شكرك وهو يوم موتك، لقد غاب عن بلدنا ولسنوات خلت ، منح العلماء والمفكرين والأدباء الجوائز والأنواط والأوسمة التشجيعية . لا أذكر تحفيزاً في القريب المنظور إلا اليتيمة جائزة الطيب صالح للأعمال الكتابية وهي إبنة شركة زين للهاتف السيار ، ولا أظن الجيل الحديث في سوداننا يعلم شيئاً عن وسام إبن السودان البار ، والذي تسعفني به الذاكرة الخربة هو أن النميري هو آخر الرؤساء الذين منحوا أحدهم ذلك الوسام !!! ربما صححني أحد القارئين ، فأفادنا، أفاده الله ، أن إبن عوف أو البرهان منح عالماً أو أديباً أو مفكراً وساماً أو حتى وشاحاً أو شهادةً كرتونية !!
أين كان المرحوم قور من كل ذلك ؟؟
لقد طرق الراحل أهم الأبواب ، وأكثرها إلحاحاً في الأجندة الوطنية السودانية ، السلام وحقوق الإنسان، وقدم فيهما مساهمات فكرية عميقة وعظيمة، معلومة ومنشورة ، نالت إعتراف عدد من المؤسسات البحثية العالمية، وعلى وجه الخصوص المؤسسات العلمية الافريقية ، فهو الأستاذ المشارك في البرنامج الأفريقي بجامعة الأمم المتحدة لدراسات السلام وهو أحد مؤسسي الشبكة الأفريقية للسلام بتنزانيا ، وعضو منتدى الكرامة الأفريقي، وعضو مجموعة أماني للسلام و(أماني) في اللغة السواحيلية تعني السلام ، وهي مجموعة مختصة بتوظيف الدراما في فض النزاعات ونشر السلام . وهو إلى هذا وذاك مؤسس ثقافة السلام بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا… سيرة باذخة تعانق السماء ولكن لا كرامة لنبي في قومه !!
ومن العجيب أنه بسط في كتابه الموسوم (ثقافة السلام والمسرح التنموي) قائمة كاملة لمعارفه وعلاقاته الأفريقية في هذا المجال الحيوي ، وكأنه يجري نوعاً من الجرد والتسليم والتسلم ، ربما لإحساسه بدنو أجله ، وتلك من سمات الصالحين ، وظننا اليقيني أنه منهم لما تمتع به من طيب القلب ونقاء السريرة وبياض السيرة .
أسأل الله العلي القدير أن يجعله في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم متعه بالجنة التي فيها ما لا أذنٌ سمعت ولا عينٌ رأت ولا خطر على قلب بشر . اللهم إرفع مقامه في السابقين المقربين، في سدر مخضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. اللهم اجعل علمه الذي ما بخل به على أحدٍ صدقةً جارية ، وبوابةً يعبر بها إلى الفردوس الأعلى . اللهم بارك في عقبه وذريته ، وامنح أسرته وأهله وأصدقاءه وتلاميذه، الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون



