هل إثيوبيا مستعدة جيواستراتيجياً لتداعيات الحرب الأهلية في السودان؟

قبل انفصال جنوب السودان عام 2011، كان السودان أكبر دولة في إفريقيا من حيث المساحة، ممتداً على نحو 1.886 مليون كيلومتر مربع، ويضم تنوعاً جغرافياً وثقافياً واسعاً. وتقع عاصمته الخرطوم في ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، ما جعل السودان تاريخياً جسراً بين إفريقيا والشرق الأوسط العربي.
هذا الإرث التاريخي العميق شهد صعود وسقوط حضارات معقدة، كالنوبيين المسيحيين والممالك الكوشية القديمة، ما أنتج تمازجاً ثقافياً أفريقياً-عربياً-متوسطياً. لكنه أيضاً خلق هويات متباينة وانقسامات سياسية عميقة انفجرت لاحقاً، لتقود إلى أزمات السودان المعاصرة.
سقوط الفاشر وتحوّل ميزان القوى
أدى سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع إلى نقطة تحوّل خطيرة في مسار النزاع. فقد غيّر هذا التطور التوازن بين طرفي الحرب، وفتح طريقاً أمام الدعم السريع لتوسيع نفوذه نحو كردفان وغيرها من المناطق، بل ومنح الميليشيا موقعاً استراتيجياً يمكن أن يُستخدم لتقسيم السودان إلى دولتين أو أكثر، خاصة أن دارفور نفسها تحمل أسئلة هوية وسياسة متراكمة عبر العقود.
تدير قوات الدعم السريع دارفور فعلياً كسلطة مستقلة، مع ظهور مؤشرات تقسيم فعلي للسودان إلى ثلاث مناطق متنازَع عليها:
•دارفور والمناطق الغربية تحت سيطرة الدعم السريع،
•الوسط والشرق تحت سيطرة الجيش،
•مناطق حدودية متقلبة تشهد فراغاً أمنياً.
وبعد سيطرتها على الفاشر، أنشأت قوات الدعم السريع إدارة موازية سُمّيت “حكومة السلام والوحدة” تتخذ من الفاشر مقراً لها، وتدير دارفور وأجزاء من غرب كردفان، مما خلق مركز حكم موازياً ينازع سلطة الخرطوم.
خطر التفكك: تداعيات إقليمية عميقة
إن احتمال تفكك السودان يمثل تهديداً استراتيجياً خطيراً يتجاوز حدوده. فحدود إفريقيا الموروثة من الاستعمار، رغم عيوبها، حافظت على إطار عام للدولة الوطنية. لكن نشوء دول جديدة هشة عبر الانقسام العنيف يفجّر موجات عدم استقرار تمتد خارج السودان، خصوصاً أن معظم دول القرن الإفريقي تعاني أصلاً من هشاشة داخلية وضعف مؤسساتي.
ثروة السودان من الذهب والنفط والموانئ البحرية على البحر الأحمر تُغري قوى إقليمية ودولية بالتدخل. كما أن اشتداد الحرب وظهور مزيد من الوكلاء يزيد خطر توسع الإرهاب عبر الحدود ويهدد الأمن الإقليمي كله.
بالنسبة لإثيوبيا، يمثل تفكك السودان تحدياً جيوسياسياً مباشراً، إذ تهدد مناطق غرب السودان المحاذية لإقليم بني شنقول-قمز بإيجاد حدود رخوة يمكن أن تتسلل منها الجماعات المسلحة وتجار السلاح والعنف الأهلي، مما يزيد مشاكل إثيوبيا الداخلية.
كما قد تلهم المطالبات الذاتية للحكم في جبال النوبة والنيل الأزرق حركات انفصالية موازية داخل إثيوبيا.
مصر ومعركة النفوذ على النيل
نهج مصر في التعامل مع الأزمة السودانية استراتيجي واستباقي. فخلاف سد النهضة جعل أمن مياه النيل مسألة وجودية للقاهرة. ولهذا، ترى مصر أن السودان الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى في توازنات النيل.
تتحالف القاهرة مع الجيش السوداني بقيادة البرهان، وتستخدم مجموعات شبه عسكرية للضغط السياسي والعسكري على إثيوبيا. كما تدعم فصائل معارضة إثيوبية، وتستغل الاضطرابات داخل إثيوبيا، خاصة في مناطق الحدود الشمالية مثل الفشقة. وهكذا يصبح الصراع السوداني جزءاً من تنافس إقليمي أكبر حول النيل والبحر الأحمر.
الدبلوماسية الإثيوبية… والواقعية الصعبة
اتبعت إثيوبيا منذ بداية الحرب السودانية سياسة دبلوماسية نشطة، داعية إلى الحوار، والتنسيق الإقليمي، ومبادرات السلام عبر الاتحاد الإفريقي والإيقاد. كما زار رئيس الوزراء آبي أحمد البرهان في بورتسودان في العام الماضي لبحث جهود السلام.
لكن واقع الحرب يجعل الدبلوماسية وحدها غير كافية. ولذلك تحتاج إثيوبيا إلى التحرك وفق سيناريوهات واقعية تشمل:
•دعم غير معلن ومقنن للفصائل التي تتوافق مصالحها مع أمن إثيوبيا،
•تعزيز حدودها الغربية،
•مواجهة دعم مصر أو إريتريا لأي مجموعات معادية لإثيوبيا،
•استخدام أدوات استخباراتية ولوجستية لحماية مصالحها الاستراتيجية.
فإذا استقر الدعم السريع في الفاشر ولم يُهزم عسكرياً، فإن احتمالات تفكك السودان ستتعاظم، مما يضغط بشدة على إثيوبيا.
الأمن القومي الإثيوبي في قلب العاصفة
التدهور في السودان أدى إلى زيادة تدفقات السلاح واللاجئين والاشتباكات على حدود إثيوبيا.
كما شهدت مناطق غرب إثيوبيا اشتباكات بين القوات الإثيوبية وميليشيات جنوب السودان، إضافة إلى هجمات انتقامية وانقسامات داخلية إثيوبية.
يمثل هذا الوضع “حريقاً ينتشر عبر الحدود”، يهدد بامتداد النزاعات وإضعاف السيطرة الحكومية.
استراتيجية إثيوبيا: بين المبادئ والبراغماتية
تعتمد إثيوبيا استراتيجية مزدوجة:
•المحافظة على صورتها كوسيط سلام،
•الاستعداد الفعلي للدفاع عن مصالحها الأساسية: وحدة الأراضي، أمن الحدود، واستقرار منابع النيل.
وتلخّص الحكمة الإثيوبية التقليدية هذا النهج:
“البحر الهادئ لا يصنع بحّاراً ماهراً.”
فالدبلوماسية أداة مفضّلة، لكن الواقعية تحكم الاستعداد للمواجهة. إذ تشير التحركات المصرية والإريترية إلى تنافس محموم يهدد مصالح إثيوبيا في النيل والبحر الأحمر.
خاتمة
إن تفكك السودان ليس مجرد مأساة محلية، بل أزمة إقليمية ذات تداعيات عميقة على الأمن والحوكمة وتوازنات القوة في القرن الإفريقي.
دور إثيوبيا سيكون محورياً، إذ يتطلب مزيجاً من الحكمة الدبلوماسية والاستعداد الجاد. فمصير السودان وإثيوبيا أصبحا مرتبطين ارتباطاً لا ينفصل، ويحتاجان إلى يقظة ورؤية واستعداد لمواجهة المستقبل غير المستقر.



