مع ثمانينية الدكتور جعفر ميرغني

بقلم: د. خالد محمد فرح
يبلغ الدكتور جعفر مرغني، أستاذ اللغة العربية وآدابها، والترجمة والتعريب وفنونهما بجامعة الخرطوم، والعضو المؤسس بمجمع اللغة العربية السوداني، ومدير معهد حضارة السودان سابقاً، والرمز الثقافي والاكاديمي والعلمي المعروف، ذو المشاركات المشهودة، تأليفاً وتدريساً وتحدثاً من خلال الندوات، والبرامج الإذاعية، والمحاضرات العامة، يبلغ هذا العام، عامه الثمانين من عمره المبارك بإذن الله.
ولكوني قد ظللت أحد تلاميذ الدكتور جعفر بكل فخر ، منذ نحو أربعة عقود من الزمان، فلقد آليت على نفسي أن أدوّن هذه السطور في حقه بهذه المناسبة، على سبيل الوفاء والعرفان أولاً، وكذلك لأن الدكتور جعفر ميرغني شخصية علمية وأكاديمية وثقافية فذة ومرموقة في السودان، تستحق التنويه بها وبعطائها ومنجزاتها ، وبأسلوبها الفريد في الدأب على تحصيل مختلف ضروب المعرفة والعلم، وخصوصاً التفاعل الواعي والناقد والخصب، مع محصلة اطلاعه الواسع جداً ، ونظره العميق في مختلف المعارف بصفة عامة، وخصوصاً علوم التراث العربي والإسلامي، فضلاً عن غيرها من العلوم الإنسانية مطلقا، مثل علوم اللغة والتاريخ والأديان والآثار والفولكلور والأنثربولوجيا وغيرها.
الدكتور جعفر مرغني عالم لغة في الأساس، وأستاذ جامعي متخصص في علم أصوات اللغة العربية بالتحديد، حصل فيها على درجة. الدكتوراة من جامعة الخرطوم، تحت إشراف أستاذه الذي كان أثيراً لديه، العلامة الراحل البروفيسور عبد الله الطيب. وقد قاده بحثه من اجل جمع مادة أطروحته في سبعينيات القرن الماضي، للسفر في رحلات علمية ميدانية، إلى المملكة العربية السعودية، ومصر وبريطانيا. ثم عاد بعد نيله الدكتوراه، محاضراً بكلية الاداب، وبوحدة الترجمة والتعريب بالجامعة على التوالي.
إن الدكتور جعفر مرغني رجل ذكي ذكاء حاداً، وليس ذكاؤه محصوراً في العلوم الإنسانية فحسب، التي يُظن عادةً ، أن النبوغ والتميز فيها، يعتمد بالدرجة الاولى على الحفظ ، حفظ المتون والمعلومات فقط، دون الفهم والتحليل والاستنتاج التي تتطلبها العلوم البحتة، كما قد يتوهم البعض، وإنما يشمل ذكاؤه وذهنه الوقاد سائر العلوم التطبيقية أيضا. والدليل على ذلك، أنه كان قد أحرز الدرجة الاولى Grade one في امتحان الشهادة الثانوية في المساق العلمي، وقبل طالباً بكلية الهندسة أولاً، ولكنه آثر بمحض إرادته، الانتقال منها إلى كلية الآداب، في منتصف ستينيات القرن الماضي.
والدكتور جعفر ميرغني عالم متبحّرٌ وواسع المعرفة بلا ريب، من شاكلة أولئك العلماء ذوي المعرفة الموسوعية، الذين يعرفون في اللغة الإنجليزية بال erudite scholars ، ولا سيما في العلوم الإنسانية بمختلف ضروبها.
وفي اعتقادنا أن تخصصه الاكاديمي في علم اللغة، وشغفه الفطري باللغات وفقهها، والوقوف على أسرارها بصفة عامة، حتى أضحى عاشقاً مغرماً بهذا الفن Philology ، قد صار أداة مطواعة لديه، يستخدمها في مقاربة سائر العلوم الإنسانية خاصةً، وتذوقها، وسبر موضوعاتها المختلفة ببصيرة نافذة، وجرأة محمودة، بعيدة عن التمحل والشطط، ومنهج فريد ومثير للإعجاب. ذلك بأن الكلمات والأسماء عموماً، هي مفاتيح أسرار كافة العلوم، إذ أنه في البدء كانت الكلمة كما جاء في الانجيل، مثلما جاء في الذكر الحكيم: وعلّم آدم الأسماء كلها.. الآية.
فإلى جانب تمكنه من اللغتين العربية والإنجليزية، فان للدكتور جعفر مرغني اطلاعاً حسناً على اللغات اللاتينية والأغريقية والفرنسية والألمانية والإسبانية ، إلى جانب اللغة النوبية والبجاوية ( التبداوية ) ، والأمهرية بل والجئرية ( الحبشية القديمة )، كما أن له معرفة متقدمة باللغة المروية نفسها، التي ما تزال معاني ألفاظها غائبة، بسبب عدم التوصل حتى الآن إلى فك شفرتها، وله في خطها خاصةً، مساهمات مثيرة للاهتمام وغير مسبوقة.
أما وصفنا للدكتور جعفر ميرغني بأنه رائد الدراسات الكلاسيكية في السودان، فلأنه قمينٌ بأن يكون كذلك بالفعل. ذلك بأنّ المقصود بالدراسات الكلاسيكية من وجهة النظر الاكاديمية البحتة في الاساس، هي الدراسات التي تتناول الحضارتين الاغريقية والرومانية القديمتين، من خلال منظور متداخل ومتعدد الحقول المعرفية، بالتركيز على مجالات اللغة، والأدب، والتاريخ، والفن، والفلسفة، والآثار، والعقائد، والأساطير.
وإذ ذاك، فإننا لا نعرف عالماً وباحثاً سودانياً انتهج حتى الآن، نهج الدكتور جعفر في دراسة الاداب الكلاسيكية لمختلف الشعوب والحضارات العالمية القديمة، واجتهد في بيان موقع الحضارة السودانية منها عبر تاريخها الطويل.
فعلى سبيل المثال، استبصر الدكتور جعفر مرغني، ربما لاول مرة في التاريخ المعاصر، فيما نعلم، صلة بين نقش لقصة مصورة عثر عليها على أحد أعمدة بهو بمبنى مصورات الصفراء الأثري المروي، الذي يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد وفقاً لعلماء الاثار، والأسطورة الإغريقيّة الخاصة بالأميرة أندروميدا ابنة ملك إثيوبيا ” كوش أو السودان القديم ” ، التي أنقذها خطيبها ” بيرسيوس ” من غول مفترس. وقد نشر الدكتور جعفر مقالاً حول كشفه ذاك، في أحد أعداد مجلة ” بلادي “، قبل عقدين أو أكثر قليلا.
إن هذه الأسطورة الاغريقية على سبيل المثال، ذات الصلة الوثيقة بارض السودان حصرياً، وغيرها من القصص والحكايات المثيرة، مما له صلة بحضارة السودان وتاريخه القديم، قد عمد إليها الدكتور جعفر مرغني، وضمنها في أسلوب مشوق وجذاب، في برنامجه الاذاعي الشهير ” أضواء على الحضارة السودانية “، ذلك البرنامج الذي كان يبث لبضعة أعوام، خصوصاً خلال العشرية الاولى من هذه الألفية، وحظي بمتابعة وشعبية مذهلة، داخل السودان وخارجه.
لقد عنّ لكاتب هذه السطور في الواقع، من خلال متابعته لبرنامج الدكتور جعفر مرغني الاذاعي آنف الذكر، ومعارف ومعلومات أخرى جمّة، استقاها منه في مناسبات مختلفة، عن له تساؤل مُلح هو: لماذا لم تهتم مؤسسات التعليم العالي في السودان، بالدراسات الكلاسيكية عموماً، مثل دراسة اللغتين الاغريقية واللاتينية، إلى جانب لغات الشرق القديم، مثل المصرية القديمة، والعبرانية والآرامية والفارسية، انطلاقا من ذلك إلى دراسة حضارات الشعوب المتحدثة بتلك اللغات، واستقصاء صلة السودان والسودانيين بهم وبحضاراتهم بصفة عامة. علماً بأن السودان بلد قديم وأمة عريقة، كان لها اسمها وصيتها الذائع بين حضارات العالم القديم. ويكفي للتدليل على ذلك مثلاً، ان كوش مذكورة في الكتاب المقدس في أكثر من عشرين موضعاً، مثلما أن اسمها مذكور باستفاضة في كثير من مصنفات الكتاب الكلاسيكيين الإغريق والرومان من لدن هوميروس صاحب الإلياذة. ولا يهولنّك أن السودان اليوم ، ضعيف مستضعف، هان على أبنائه وهان على الناس، فتكالبوا عليه، يريدون أن يجعلوه أثراً بعد عين.
وبالطبع فإنه ليس أنسب من الدكتور جعفر لكي يعهد اليه بوضع منهج للدراسات الكلاسيكية في المرحلة الجامعية، أو استشارته في ذلك على أقل تقدير.
حيّا الله أستاذنا الدكتور جعفر ميرغني، ومتعه بالصحة والعافية، وأطال عمره في الصالحات، وأبقاه نبراساً منيراً للعلم والمعرفة.



