رأي

مصطفى سعيد.. لعنةُ اللهِ عليك”! (2)

فيما أرى

عادل الباز

منذ أوَّل يوم لوصولي لندن، استعرضتُ قائمة الكتب التي جلبتُها معي، فجأة أطلَّ من بينها “موسم الهجرة إلى الشمال”، فلم أعرف أي قَدَرٍ جاء به في هذا الزمان وهذا المكان.. قرَّرتُ أن أترُك كل الكتب جانباً وأبدأ به.. لا أعرفُ السبب.. يبدو أنَّ إحساساً ما بداخلي قادني لإعادة قراءته.. لعلَّه الإحساس بالمكان.. كُنتُ قد قرأتُ كتاباً للدكتور عبدالله علي إبراهيم أسماه “عبير الأمكنة”.. حكى فيه قصة عجوز يجلس مساء كل يوم في نادي الخريجين بأم درمان، يستنشق عبير وأصداء الذكريات التي كان هذا المكان مسرحاً لها.. كنتُ في مسرح الأحداث تماماً.. لندن هي لندن، مسرحها، شوارعها، الأسماء والتقاليد والملكة.. لندن نفس المدينة التي وصفها الطيِّب صالح: «تموت من البرد حيتانها»..

 

أمضيتُ سحابة نهار أوَّل يوم في لندن برفقة الطيِّب صالح ورائعته “موسم الهجرة إلى الشمال”.. لم تكن هناك أفكارٌ جديدة يمكن أن تثيرها الرِّواية لديَّ، كنتُ دائماً أقولُ إنَّ هذه الرواية قد أحييناها بحثاً، كنتُ باحثاً عن متعة خاصة في طريقة الحكي والأجواء، وربما كنتُ أبحث عن أصداء ذكرى لزمن الجدل الجميل حول الرِّواية ومناخاتها وشُخُوصها.. ربما كانت أجواء لندن هي التي أغرتني مرَّة أخرى لإعادة القراءة.. المهم، أنهيتُ قراءة الرواية خلال ذلك اليوم، وكنتُ سعيداً لأنني نفذتُ برنامجي كما تصوَّرته بأن أقرأ كتاباً كل يوم.

 

غادرت في الصباح غرفتي مسرعاً للحاق بـ“التيوب” (القطر)، وكان أوَّل شيء وقعت عيني عليه هو اسم الشارع الذي أسكن فيه، والذي يُسمى “قريت دوفر استريت”.. تأمَّلتُ هذا الاسم وتذكرتُ تلك المنطقة التي ذكرها مصطفى سعيد فيما يُسمَّى بـ“ساحل دفر”، فهل سُمِّي هذا الشارع على اسم ذلك الساحل؟!  على العموم، لم تستوقفني هذه الفكرة طويلاً.

 

أخبرنا المُنظمون لبرنامج الزمالة في جامعة لندن باتخاذ مبنى وقاعات “استان هوب” مقراً للبرنامج.. يقع هذا المقر على بُعد مائة متر من “الهايد بارك كورنا”.. كانت القاعة الرئيسيَّة التي ندرس بها تطل مباشرة على “الهايد بارك”.. يا له من مشهد بديع.. في اليوم الثاني للمحاضرات، وأنا سارحٌ في خُضرة “الهايد بارك”، أطلَّ مصطفى سعيد في خيالي من ذات الزاوية.. كان يقف تماماً خلف مسز روبنسون ويمارس حركاته الفاحشة تلك، وبعدها سرحتُ معهُما.. عُدتُ إلى المحاضرة بعد أن قالت مسز روبنسون لمصطفى سعيد: «لعنةُ الله عليك».. قال لي المحاضر: لقد كنت خارج المحاضرة تماماً.. قلتُ: نعم، كنتُ مع مصطفى سعيد.. لم يسألني عمَّا قلت.. ولكن بعد المحاضرة سألتني مديرة البرنامج الآنسة نيكول عمَّن هو مصطفى سعيد؟!  قلتُ لها: هو صديقٌ قديم يهوى الصيد في “الهايد بارك”..!!

 

هكذا بدأ مصطفى سعيد يطاردني في أزقة وأحياء لندن.. قرَّرتُ ذات مساء أن أتسكَّع “أنصاص” الليالي في شارع “إدجوار رود” في انتظار صديقي الشاعر خالد فتح الرحمن الدبلوماسي.. خالد شاعر يُحبُّ ليالي لندن الموحية، وأنا أهوى التسكُّع الليلي على أرصفة المدائن.. التقينا أنا وخالد وبدأنا نتجوَّل في طرقات تلك المدينة العجيبة.. لا أعرف أين نحن ولم يخطُر ببالي أن أسأل.. أخذني الضَّحك والأُنس وذكريات قطبي وعبدالله حمدنا الله (الذي لم أفتر عليه حتى الآن لكنني سأفعل).. وذكريات وضحكات ونكات مصطفى البطل وعبدالعزيز الهندي وفيصل الباقر تتردَّد في تلك الأجواء ونحن نمضي دون أن ندري إلى أين؟!  قطعنا مسافات.. فجأة قال لي خالد: «هذه محكمة الـ“أولد بيلي”، ألا تذكرها؟!»..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى