مؤتمر أديس.. خطوة إلى الأمام
فيما أرى
عادل الباز
1
أنهى الاجتماع التحضيري لإطلاق عملية الحوار السياسي بين الأطراف السودانية الذي انعقد بأديس أبابا أعماله أمس، وهو الاجتماع الذي شاركت فيه قوى سياسية ومدنية وثورية ومجتمعية ودينية (14 كتلة سودانية)؛ وأصدر الاجتماع في ختام أعماله وثيقتين (الرؤية والبيان الختامي)، وهما أهم وثيقتين صدرتا منذ التغيير.. سنوضح ذلك لاحقاً، ولكن قبل ذلك هناك قصة طويلة حتى وصلت قطار هذا الاجتماع إلى محطته النهائية أمس.
2
بعد اندلاع الحرب طفت الأزمة السودانية على أمواج المصالح المتضاربة، وبدأ الشد والجذب بين المنابر المختلفة وهو الأمر الذي لايزال مستمراً، بدأت بالإيقاد ثم الاتحاد الإفريقي نفسه عبر الآلية الموسعة، ثم مبادرة دول الجوار، ثم أخيراً المبادرة المصرية، فضلاً عن منبر جدة، وصولاً إلى مؤتمر أديس أمس.. فشلت كل تلك الجهود في إحداث أي اختراق على كافة المستويات الإنسانية والسياسية والعسكرية.
طرح السيد ابن شمباس فكرة جديدة وعمل على تقديمها لكل الفرقاء، وهي ببساطة حوار سوداني- سوداني لا يستثني أحداً، ويقوده السودانيون ويديره سودانيون يحددون كل ملامحه من أجندته لتحديد هوية المشاركين فيه.. التقى ابن شمباس بكل الطيف السياسي بمن فيهم (تقدم)، التي وافقت على طرحه، ولكنها جاءت مؤخراً باشتراطات تتعلق بمعرفة المشاركين وكررت ذات اسطوانة الإغراق، التي أغرقت البلاد في بحر من الدماء، فتجاوزها الاتحاد الإفريقي ممثلاً في لجنة الأمن والسلم، وعقد الاجتماع الأخير وحظى بطيف واسع من المشاركة السياسية.. ومن المؤسف أن ابن شمباس رضخ في النهاية للضغوط، واستثنى حزباً واحداً بعد أن تمت دعوته وهو المؤتمر الوطني!
2
ليس في الرؤية التي طرحها المؤتمر جديد سوى الفقرة الرابعة (أطراف الحوار)، وهي الفقرة التي تتعلق بمن يحق لهم المشاركة في الحوار، وهي الفقرة التي تمت دغمستها عمداً لأنها كانت ستفشل المؤتمر، وتم تجاوزها بتلك الدغمسة التي لا تليق بالمجتمعين، ولكنها مثلت مخرجاً لهم.
ما تبقى من الرؤية يتعلق بالقضايا التي يجب أن تبحث في مؤتمر الحوار السوداني السوداني القادم، وهي قضايا مطروحة للنقاش منذ آماد بعيدة، ولكنها لم تحل وتتجدد في كل لقاء أو مؤتمر.
قسّم الاجتماع المناقشات لمرحلتين كل واحدة تحمل تقريباً 17 بنداً بحاجة لحوار عميق وصعب حولها.. ما أعجبنى فى الرؤية أنها غير متعجلة للوصول لنتائج، لأن المؤتمرين ليسوا طلاب سلطة، إنما انتدبوا أنفسهم لحل القضية السودانية بكل تشعباتها، ومنها القضايا العاجلة التي تخص المرحلة الانتقالية، ومنها قضايا تاريخية عويصة، على رأسها الدستور وقضايا الحكم والهوية، تلك التي ظل صداعها يلازمنا منذ أن استقلت هذه البلاد المنكوبة (ولي في ذلك قصة مع نُقُد).. ثم أجَّلت الرؤية ما يسمى بالعملية السياسية لما بعد الحرب، وتلك بصيرة نافذة، كما دعت لتكوين حكومة غير حزبية وأكدت على سودانية الحوار في كل تفاصيله، وأنه سيجري داخل السودان.
3
ما الجديد في هذا الاجتماع التحضيرى الذي يجعلنا نحتفي به برغم الملاحظات هنا وهناك؟
للمرة الأولى يظهر تكتل آخر لقوى مدنية حقيقية، وللمرة الأولى يتعرف المجتمع الدولي على قوى مدنية واسعة ومتنوعة بتمثيل شامل للمجتمع، وليس مجرد كيانات هلامية، فالكيانات التي شاركت لها وجود فاعل على الأرض وليس مجرد عويش بلا جذور.. لقد انتهت إلى الأبد قصة أن هناك جهة واحدة من حقها أن تقرر في مصير السودان سواء بالمزاعم الثورية أم تلك التي تتكيء على عمالتها للأجنبي، وتأمل أن تأتي بفعل مؤامرته وضغوطه.
للمرة تحت قبة الاتحاد الإفريقي تتلقى المليشيا إدانة واضحة، إذ قال بيان المجتمعين (ندين الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها مليشيات الدعم السريع من قتل واغتصاب وتشريد واحتلال للمنازل ونهب وسرقة لممتلكات المواطنين واحتلال الأعيان المدنية وتخريب المنشآت المدنية والخدمية وتعطيل الموسم الزراعي وعجلة الإنتاج، كما ندين القوى الخارجية التي تدعم التمرد)..
وكذلك للمرة الأولى تُحمل القوى المدنية الحقيقة الدعم السريع مسئولية إشعال الحرب، إذا قالت في بيانها أمس (البلاد التي دخلت في حرب منذ الخامس عشر من أبريل 2023 بسبب تمرد قوات الدعم السريع)، إلى جانب الإدانة الواضحة للقوى الخارجية الداعمة للتمرد.
رحب المؤتمرون (بالدور الإنساني الذي تقوم به كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية ومصر ودولة قطر والكويت وإريتريا وجنوب السودان وإثيوبيا وتركيا وأوغندا وروسيا والصين).. متجاوزين الامارات.
4
إن أعظم نص ورد في البيان الختامي ومن المفروض أن يُكتب بماء الذى هو (توافقنا على أن يكون مؤتمر الحوار السياسي السوداني– السوداني داخل السودان، بعد الوصول لوقف إطلاق النار على أن يستمر التشاور والحوار والتنسيق والتحضير الجاد له منذ الآن، بما يفضي إلى تأسيس دولة ديمقراطية موحدة قوامها المواطنة المتساوية والسلام المستدام).. لطامات تهنا وتاهت قضايانا في صحراء المنابر الأجنبية، هنا والآن بإمكاننا أن ننزع سقف الأجنبي، لتستظل جميعا بسقف الوطن.