لماذا أفلح العسكر وخاب المدنيون؟(2/2)
فيما أرى
عادل الباز
1
بعد أن رأينا استلام الجيش للسلطة كاملة بعد فترة 25 اكتوبر ٢٠٢٢، تساءلت في ختام المقال الأول (ترى كيف استطاع العسكر استرجاع السلطة، فبدلاً من عودتهم للثكنات بأمر المدنيين، عادت السلطة إلى ثكناتهم تامة غير منقوصة وهاجر المدنيون الثوريون إلى منافيهم البعيدة والقريبة، وبدلاً من أن ينحل الجنجويد تم تدميرهم. كيف حدث ذلك؟).
اتخذ العسكر طرائق ذكية جداً ساعدهم في ذلك ضعف الكوادر المدنية التي صعدت لسدة الحكم بلا سابق خبرات ولا قدرات تؤهلهم للتعامل مع تعقيدات أوضاع شائكة لم يتأهلوا ليتعاملوا معها.
2
حكى لي أحد القادة العسكريين الذين تولوا ملف التفاوض مع كوادر قحت قصة كافية أن تشرح الكيفية التي تعامل بها العسكريين مع ناشطين هواة بلا أدنى خبرات، لماذا أفلحوا. قال لي قبل المفاوضات بفترة درسنا تاريخ كل قادة الحرية والتغيير، دراستهم ومؤهلاتهم، نوع التدريب الذي تلقوه، حتى هواياتهم.. لاحظنا أنه لا أحد لديه خبرة بالمفاوضات، إذ لم يدرس أيّاً منهم كورساً واحداً عن الاستراتيجيات أو تكتيكات المفاوضات، بالطبع نحن ندرس ذلك في الكلية الحربية، وكنا ضمن وفود كثيرة للمفاوضات في أبوجا ونيفاشا والدوحة ولسنوات طويلة، فتوفرت لنا خبرات متراكمة تعلمنا منها الكثير في فن إدارة المفاوضات.
وقال: عندما شرعنا في أولى جلسات المفاوضات مع الجانب المدني لاحظنا أنهم يدخلون قاعة المفاوضات بدون أي ورقة أو نوته بأيديهم لتدوين الأفكار والوقائع، وكأنهم مقبلون على ركن نقاش.. في حين كنا نجهز أنفسنا جيداً ونوزع الأدوار ونستعين بتيم مساعد فيه كل التخصصات للرصد والمتابعة لما يجري في قاعة التفاوض وخارجها. وهكذا لم يكن صعباً علينا الوصول إلى ما نريد بيسر، إذ أدركنا أننا أمام جماعة هواة همها الوصول لكرسي السلطة بأقصر الطرق، وفرنا لهم ذلك، مما ساعدنا في تحقيق كل أهدافنا وكان أهمها إبعادهم من التدخل في الشئون الأمنية كافة وتلك كانت استراتيجيتنا.
3
بمهارة، استطاع العسكريون مِن لعب لعبة فرق تسد بإجادة تامة، وخاصة أن التناقضات بين قوى الحرية والتغيير لم تكن خافية على أحد وهي القوى التي قادت الثورة، إذ لم يجمعها إلا هدف إسقاط النظام، وبعد أن تحقق ذلك الهدف برزت تناقضاتها وأجنداتها المتعارضة، وسرعان ما تفجرت خلافاتها، وهنا استثمر العساكر في تلك التناقضات بذكاء، وساهموا في تعميقها واستقطاب بعض النافذين في الأحزاب والمجتمع المدني وكان للدعم السريع القدح المعلى آنذاك في الاستقطاب بما توفر له من موارد مكنته من شراء وبيع كثير من الناشطين، بل ومن قادة الأحزاب نفسها وهم ذات الناشطين والقادة الذين يسبّحون بحمد التمرد الجنجويدي اليوم.
تمكن العسكر في أقل من عامين من تفتيت وحدة قوى المعارضة، فتسيدوا المشهد السياسي والعسكري، وكل ما يريدونه كانوا يفعلونه بينما انزوت قوى الحرية والتغيير وخسرت جماهيرها بفشلها وترددها وأصبحت مجرد خيال مآتة، كومبارس في نظام لا يملكون فيه إلا حرية الكلام الفارغ والهتاف.
4
استطاع العسكر بتكتيكات (الحفر بالإبرة) وغيرها أن يمارسوا لعبة التقية مع العالم الخارجي فيبذلون للعالم وعوداً لا تتحقق ويسلمونهم حبال بلا بقر ويذهبون بهم إلى البحر ويرجعوهم عطشانين… يا لهم من ماكرين.. أنظر كيف تعاملوا مع المنظمات الأفريقية، يقبلون مشاريعها ومقترحاتها ثم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يفشلونها لأنهم يعرفون أن تلك المنظمات هي الداعم الرئيس لأعدائهم المتمردين. انسحبوا من الإيقاد بعد أن دوخوها، طردوا البعثة الأممية التي كانت ظهيراً لأعدائهم بالقطاعي، سعوا دائماً لخلخلة المواقف الإقليمية والدولية بمكر سياسي يحسدون عليه. سياستهم دائماً الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية مبدئياً وامتصاص صدمتها الأولى، ثم العمل على تدمير كل ما يتعارض مع سياستهم، خططهم ورؤاهم. فعلوا ذلك مع الوثيقة الدستورية ثم مزقوها لاحقاً ومع البعثة الأممية وطردوها بعد حين وجدوا فرصتهم فى الإطاري بعد حرب الخيانة فقبروه ومعه ثلة الخائنين.
إذا رغب المدنيون في الفلاح في مستقبل أيامهم ومهما كانت مواقعهم ومواقفهم فإن عليهم أن يتعلموا الدروس القريبة والبعيدة في التعامل مع العسكر، إذ ليس صدفة ولا تآمراً أن يحكم العسكر 57 عاماً من جملة 64 عاماً هي سني الاستقلال، وليس صدفة أن كل الانجازات التي يفتخر بها الآن السودانيون كانت في عهودهم، عليهم أن يتعلموا أنهم يتعاملون مع أناس أذكياء تخرجوا من مؤسسة عريقة لها تاريخ، تعلموا فيها فنون الحرب والسياسة والاستراتيجيات، وليسوا مجموعة عساكر متواضعين انقلابيين، لا هم لهم سوى السلطة، إن هذا التحليل الساذج والاستهانة بمقدرات العسكريين هو الذي استدام حكمهم لعشرات السنوات، بل أصبح هم من يتلاعبون بالمدنيين ويستخدمونهم فى مشاريعهم السلطوية، وحتى تلك الأحزاب التي جاءت بهم إلى السلطة خضعوا في النهاية لسلطة العسكر ولا يزال المدنيون يعتقدون أنهم أذكى من العسكريين، وإنهم لا يستحقون أن يكونوا شركاء في الحكم.. هم للثكنات فقط، للحراسة. والمدنيين للسلطة والامتيازات وتلك محض أوهام ثبت زيفها عبر السنين والتجارب ولكن من يقنع ديوك السياسة السودانية؟!!.
الدرس الأول هو لابد من احترام المؤسسة العسكرية واتخاذها شريكة فعلية في السلطة وليس مجرد أداة حراسة.
على المدنيين أن يتذكروا أن الذي يفتح الطريق للعسكر هو تنازعهم وصراعاتهم المزمنة والعبثية وفكرة الإقصاء والإقصاء المضاد بتعبير أستاذنا الواثق كمير، وإذا أرادوا أن يحدوا من تدخلات العسكر عليهم إصلاح أنفسهم وأحزابهم وسياساتهم ويتخلوا نهائياً عن فكرة الإقصاء لبعضهم البعض.
عليهم أن يتحدوا حول برنامج ودستور يحرسونه جميعاً ضد أي تدخلات أو انتهاكات من العسكر وأنفسهم، فالمدنيون صاغوا دساتيرَ ووثائقَ سرعان ما داسوها بأقدامهم في أول منعطف حاد (دستور 56 أطاح به انقلاب عبود بالتآمر مع حزب الأمة/ دستور 56 مرة أخرى أطاح به النميري في 25 مايو 1969 بالتآمر مع الشيوعيين كما تمت الإطاحة بدستور 1973 بواسطة ثورة أبريل 1985، ثم تم تمزيق دستور 56 للمرة الثالثة بعد انقلاب الإسلاميين في 1989، دستور 1998 جرى تمزيقه عقب مفاصلة الإسلاميين ونفس المصير، حصده دستور 2005 الذي اشترك الجميع في صياغته ووضعه، حيث تم إلغاؤه بعد التغيير في 2019 واستبدل بالوثيقة الدستورية التي جرى تزويرها أولاً بأيدي من كتبوها ثم تم تجميدها بانقلاب 25 أكتوبر 2022، وهاهي الآن في مهب الريح.).
وضع دائري في غاية السيولة، فما لم يتم احترام المؤسسة العسكرية والاعتراف والاتفاق على أدوارها، وما لم يجري الاتفاق على دستور يٌحترم من قبل الجميع ليقي البلاد من الإقصاء والإقصاء المضاد، فسيحصد العسكر السلطة في كل منعطف ويترك للمدنيين الهتاف والثرثرة الفارغة في الأسافير وإن أنجزوا مائة ثورة أخرى.