كيف غيرت السعودية مفهوم ترامب لحرب السودان: ثلاثين دقيقة غيرت السياسة الامريكية باتجاه السودان

امجد فريد الطيب
في 19 نوفمبر 2025، وفي ختام منتدى الاستثمار الأمريكي-السعودي في مركز جون كينيدي بواشنطن، أعلن الرئيس دونالد ترامب علناً أن ملف السودان صار موضع اهتمامه المباشر بعد ان طلب منه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ايلاء الكارثة السودانية اهتمامه. تصريحات ترامب في منتدى الاستثمار جاءت في ختام زيارة بن سلمان لواشنطون والتي وصفت على اصعدة كثيرة بانها تاريخية وظهر ذلك الاحتفاء البرتوكولي الكبير الذي وجده الزائر السعودي من الادارة الامريكية. الا ان تصريحات ترامب بخصوص السودان عكست بوضوح مدى التأثير والنفوذ الدبلوماسي الذي تتمتع به السعودية والامير بن سلمان تحديدا في الولايات المتحدة.
قال ترامب بأن السودان “لم يكن ضمن أولوياته الرئيسية” في البداية (قال حرفياً: “السودان لم يكن ضمن اولوياتي” “not on my charts”)، لكنه أكد أنه بدأ العمل على الملف فوراً، حيث قال إنه شرع في التحرك “بعد 30 دقيقة فقط” من طلب الأمير محمد بن سلمان. واشار الي انه لم يكن يفهم ما يجري في السودان وكان يظن ان الوضع فوضوي وانه لا توجد حكومة، لكن بن سلمان شرح له السياق بشكل جعله يغير نظرته للامر ويبدأ العمل فيه.
هذا التحول في الفهم الذي عكسته تصريحات ترامب ليس مجرد تعبير بلاغي بل هو لحظة تحول سياسية مفصلية في اعادة تأطير الازمة بشكل صحيح بما يساعد على معالجتها. فهو يعكس انتهاء وافول سيادة سردية المساواة بين الحكومة السودانية ومليشيا الدعم السريع، وهي سردية سادت في الأوساط الدبلوماسية منذ بداية الحرب وساهمت في اطالة امدها حتى الان. وقد شكلت هذه السردية أحد أخطر تشويهات التعامل مع النزاع في السودان على مستويين: نظري وعملي. فنظريا، تختزل سردية المساواة طبيعة النزاع في انه محض فوضى لا حاكم فيها وتتجاهل الفرق القانوني والسياسي والواقعي في التصرفات والمسئوليات بين الطرفين وبالتالي تنظر اليه من منظور الوصاية ولا تضع اعتبارا للسيادة الوطنية. عملياً، تمنح هذه السردية ميليشيا غير حكومية شرعية رمزية ومساحة للتموضع السياسي كفاعل طبيعي يتم التعامل معه كأمر واقع وتتجاهل طبيعتها كاختلال هيكلي في بناء الدولة، مما يتيح لها مساحات اكبر للتحرك في العالم والاقليم. وقد ساهمت هذه السردية على إضعاف المساءلة الدولية تجاه عناصر واضحة لخروقات القانون الدولي ومنحت المنتهكين من عناصر المليشيا حصانة مؤسسية للاستمرار في ارتكاب الانتهاكات. فقد حاولت نزع الشرعية عن الدولة السودانية، فعندما يُقال إنّ الحكومة «طرف» مثل بقية الأطراف، فإنّ ذلك يلغي حقيقتها كجهاز سيادي، ويجعل شرعيتها موضوع تفاوض وليس واقعاً قانونياً. وكما حاولت منح الدعم السريع مقعداً قسرياً في المشهد الدولي و اخفاء طابع التورط الخارجي في الحرب. وفي كل هذا انتهاك للشرعية القانونية الدولية، وانتهاك للواقع الميداني الذي ترتكب فيه المليشيا الجرائم بينما تجتهد فيه الحكومة لتقديم الخدمات، وانتهاك للأخلاق والحد الأدنى من المنطق حين يُقتل آلاف في دارفور، وتُرمى جثث المدنيون بالجملة في شوارع الخرطوم، وتُحرق القرى في كردفان، لا يمكن للسياسة أن تتصرف كما لو أنّ القاتل والضحية «طرفان متساويان»
التصوّر الأمريكي السابق ليس معزولاً عن ميراث طويل من عدم الاهتمام الأميركي بالقارة الافريقية، وتراكم معرفي مشوه مصدره تقارير سياسية سطحية، وقراءة نمطية تفترض أنّ كل نزاع إفريقي هو نسخة أخرى من صراعات بدائية متخلفة. قراءة الإمبراطورية الكسولة لم تكلّف نفسها جهد التمييز بين دولة مؤسسات قائمة وعاملة – رغم كل ضعفها – وبين مليشيا انفجرت شهوتها للسلطة والثروة. في تلك اللحظة، وجد ترامب والادارة الامريكية السابقة موظفيها يقدّمون رواية مريحة: «لا توجد حكومة حقيقية في السودان»، وبالتالي فكل الأطراف سواء، ويمكن التعامل مع المليشيا بوصفها شريكاً سياسياً قابلاً للمساومة. وهذه رؤية سطحية لا يمكن ان يتفق معها جيران السودان في الاقليم وخصوصا الدول ذات الوزن الاقليمي مثل السعودية ومصر والتي تتشارك محيط جيوسياسي واحد مع السودان. بالاضافة الي ذلك، في لحظة ما، كان العالم مستعداً أن يقبل هذه الرواية لأنّ رواية الدولة السودانية نفسها كانت ضعيفة، ومتقطعة، ومشوشة بالتاريخ المتقلب لما بعد الثورة ثم انقلاب اكتوبر 2021، مما هز فيها الثقة. لكن مع تراكم الأدلة الميدانية – من الخرطوم إلى الجزيرة الي كردفان والفاشر – بدأ هذا التوازن المتخيّل ينهار. قامت المليشيا بارتكاب جرائم وانتهاكات بشعة تُشبه أفعال الجيوش الغازية لا الفصائل المحلية، واقترفت مجازر تُذكّر برواندا وبوسنيا أكثر مما تُذكّر بأي نزاع داخلي. وعند تلك النقطة سقطت سردية «التكافؤ» سقوطاً مدوياً، إذ لم يعد بالإمكان تغطية جبل من الدماء بخطاب العلاقات العامة. وهنا تاتي اهمية رسالة بن سلمان، على الأقل كما نقلت تصريحات ترامب، في إعادة تأطير المشكلة. بدلاً من اعتبار السودان مجرد ساحة فوضى بلا قيادة يمكن التعامل معها بطريقة تكتيكية فردية ومساومات سياسية، طرحت الرياض قراءتها لأهمية الاستقرار الدولة السودانية كقضية استراتيجية إقليمية مهمة قي الاولويات الدبلوماسية للمملكة.
التوجهات السعودية متعددة الدوافع، وليس ترفاً دبلوماسياً. فغير حرص المملكة على استقرار الوضع الانساني والامني والسياسي في دولة عربية شقيقة، فاستقرار السودان ذو اهمية استراتيجية للمملكة. فأمن البحر الأحمر ليس قضية هامشية بالنسبة لأمن المملكة، بل هو أحد أعمدة رؤيتها الاقتصادية والجيوسياسية في العقدين القادمين. والأطماع الإقليمية والدولية حول البحر الأحمر لم تكن مجرد خلفية للصراع السوداني، بل كانت أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اشتعال الحرب من الأساس.
ومع صعود مشروع “رؤية 2030” وانتقال السعودية من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد قائم على الاستثمار والمشاريع العملاقة، تحوّل البحر الأحمر من ممر ملاحي إلى قاعدة استراتيجية ترتكز عليها مشاريع التنويع الاقتصادي — وعلى رأسها نيوم، الكتلة الجغرافية الممتدة على ساحل طويل يعتمد في أمنه وبيئته واستدامته على استقرار الممر المائي نفسه. وهنا فان السودان ليس مجرد دولة جارة، بل هي الدولة ذات الحدود البحرية الأطول في البحر الاحمر مع السعودية وصاحب المنطقة البحرية التجارية الاكبر بعد المملكة السعودية في هذا الممر المائي الهام. يشكل السودان الضفة الغربية الموازية للسعودية، والعمق الذي يحدد بشكل مباشر سلامة الملاحة، وتوازن القوى الإقليمية، ومنع تمدد النفوذ الخارجي المعادي. لذلك، فإن انهيار الدولة السودانية أمام ميليشيا عابرة للحدود مدعومة بالمرتزقة وشبكات التهريب لا يهدد السودان فحسب، بل يخلق منطقة فوضى على مسافة قريبة من المشاريع السعودية الأكثر حساسية. فالتنمية — كما يدرك صانع القرار في الرياض — لا يمكن حمايتها في ظل بحار مضطربة وحدود رخوة ودول هشة.
وفي هذا السياق ايضا جاءت تصريحات السيناتور الامريكي جيم ريتش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الامريكي، والتي اعلن فيها تأييده لتوجهات ترامب الجديدة عن انخراطه الشخصي في معالجة الازمة في السودان، وطرح فيه اهمية عودة الاستقرار للسودان الذي وصفه بالحليف الهام في البحر الاحمر، وهي لغة جديدة على صانعي القرار الامريكي في الاشارة للسودان. هذا التوصيف يمثل تحولاً جذرياً في اللغة المستخدمة من قبل صناع القرار الأمريكيين. بدلاً من النظر إلى السودان كدولة فاشلة أو بؤرة فوضى، يُنظر إليه الآن كحليف استراتيجي محتمل في منطقة حيوية. هذا التغيير في المفردات ليس مجرد شكلي، بل يعكس إعادة تقييم استراتيجي للسودان ودوره في المعادلات الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بأمن الملاحة في البحر الأحمر.
ولعل الفظائع التي ارتكبتها المليشيا في اجتياحها للفاشر في ٢٦ اكتوبر الماضي قد ساهمت في التعجيل بهذه التحولات. فقد سبقت هذه تصريحات ترامب وريتش، تصريحات مماثلة من وزير الخارجية الامريكي ماركو روبيو في ختام قمة الدول السبعة في كندا الاسبوع الماضي. حيث أعلن صراحة أن الولايات المتحدة «تعرف من يزود الدعم السريع بالمال والسلاح»، وأن هذه الدول أُدرجت في الرباعية بالذات «لكي لا يختبئوا خلف العملية ويقولوا إنهم يحاولون الحل»، مؤكداً أن الضغط سيُمارس «على أعلى المستويات الحكومية» لوقف هذا الدعم فوراً، وأن الاستمرار فيه «سينعكس سلباً عليهم وعلى العالم»، وهذه اقوى اشارة مباشرة من الولايات المتحدة لدول حليفة ظلت تقدم الدعم للمليشيا منذ اندلاع الحرب.
من المتوقع في اثر هذه التصريحات ان تُحافظ واشنطون والرياضية على الالية الرباعية في شكلها الظاهري لتجنب إحراج حلفاءها الاقليمين المرتبطين بالمليشيا علناً، لكن قيادة توجهاتها الفعلية ستُسحب إلى الثنائي الأمريكي-السعودي. خصوصا ان تركيبة الالية تعاني من اشكالات متعلقة بمشاركة الامارات فيها وهي تقوم بشكل موثق بدعم المليشيا وتقديم الدعم الذي يطيل امد الحرب لها. وكانت السعودية والولايات المتحدة قد بادرتا بانشاء منبر جدة التفاوضي لمعالجة حرب السودان فور اندلاعها في مايو ٢٠٢٣، وهو المنبر الذي لم يستمر الي نهاياته المأمولة في ظل عدم جدية الادارة الديموقراطية السابقة في التعامل بجدية مع ازمة السودان.ولكن المتوقع الان بعد تصريحات ترامب عن استخدام نفوذ الرئاسة ان تستخدم الولايات المتحدة أدوات الضغط الحقيقية لاجبار المليشيا وداعميها الاماراتيين على وقف الحرب ووقف تدفق الاسلحة غير الشرعية التي تغذي الحرب في السودان.
تصريحات الرئيس ترامب واعترافه بأن فهمه للأزمة قد تغير بفضل شرح الأمير محمد بن سلمان تفتح نافذة أمل حقيقية. النفوذ الدبلوماسي السعودي أثبت قدرته على تغيير القناعات في أعلى مستويات صنع القرار الأمريكي. التنسيق المتجدد بين واشنطن والرياض، المدعوم بموقف واضح من الكونغرس، يمكن أن يشكل قوة دفع حقيقية نحو إنهاء الحرب.
لكن الأمل يجب أن يقترن بالحذر. الطريق إلى السلام في السودان لا يزال محفوفاً بالتحديات، وخاصة ما دامت هناك أطراف إقليمية تستفيد من استمرار الصراع وتغذيه. النجاح في ايقاف الحرب يتطلب ليس فقط تصريحات قوية، بل إجراءات ملموسة على الأرض: الضغط باجراءات صارمة على الدول الداعمة للمليشيات، مراقبة حدود السودان لمنع تهريب السلاح، ودعم مادي ومعنوي للحكومة الشرعية.
الشعب السوداني، الذي عانى الأمرّين خلال عامين من حرب كارثية، يستحق أكثر من مجرد وعود. يستحق سلاماً حقيقياً يعيد بناء بلاده المنهكة ويوقف نزيف الدماء. التحول في الموقف الأمريكي، بقيادة الدبلوماسية السعودية، قد يكون بداية هذا الطريق الطويل نحو الاستقرار والسلام.



