قضايا الإعمار والعودة، وأهمية تنسيق جهود الشركاء لإعادة دوران عجلة الاقتصاد وتأمين سلة المعاش

بروفيسور أحمد مجذوب أحمد
فى مستهل هذا المقال لابد من الإشادة بالجهود التى يبذلها والي الخرطوم وحكومته من أجل تهيئة البيئة لتشجيع المواطنين للعودة إلى الخرطوم ، فقد ظلت حكومة الخرطوم ساهرة من أجل إعادة خدمات المياه والكهرباء وتحقيق الأمن وهي بلا شك متطلبات أساسية لا تستقيم الحياة بدونها.
ولابد من شكر جهود القائمين على الملف الاقتصادي خلال الفترة السابقة رغم التحديات الجسام التي تواجه الاقتصاد السوداني عامة واقتصاديات ولاية الخرطوم بصفة خاصة.
فقد أوقفت هذه الحرب عجلة الانتاج والتشغيل وفاقمت مشكلة البطالة وتدهور الدخل بسبب تدمير البنى التحتية و القدرات الإنتاجية، وما تبعها من تدهور فى مناخ الاستثمار وخلل فى علاقات الانتاج ، وهروب الاستثمار الوطني وتوقف الاستثمار الأجنبي وتراجع الإنتاج وضعف الصادر. وانعكس كل ذلك في تراجع متوسط الدخل وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة وتزايد عجز الموازنة ، فازداد تدهور مستوى المعيشة حتى لمن لهم مصادر دخل.
وبعد انتصار القوات المسلحة وهزيمة التمرد وداعميه وكسر شوكته، حرصت الحكومة على تطبيع الحياة فى الخرطوم وتشجيع المواطنين للعودة إلى ديارهم، فكون رئيس مجلس السيادة لجنة برئاسة الفريق إبراهيم جابر لتشرف على هذا الملف وتدعم جهود ولاية الخرطوم حتى تتم تهيئة البيئة لعودة المواطنين ،
رغم هذه الجهود والأعمال التي تمت ؛ فإني أود التذكر بأن التحدي الرئيس الذى لا يقل أهمية عن قضايا الأمن والخدمات الأساسية، والذي يمكن أن نعتبره الآن التحدي الأكبر هو: فقدان معظم المواطنين لفرص العمل في القطاعين الحكومي والخاص وتبعها فقدان دخلهم.
ومعلوم أن مصادر خلق فرص التشغيل واستيعاب المواطنين هي في القطاع الاقتصادي الخاص ، الذى تتجاوز نسبة مساهمته فى الناتج المحلي الاجمالي %80 (GDP ) ، وتبين الاحصائيات ما قبل الحرب أن ولاية الخرطوم تستوعب نسبة لا تقل عن %20 من إجمالي السكان ، كما أنها تمثل مركزاً اقتصادياً تتجاوز حصته %40 من النشاط التجاري والمالي والصناعي والزراعي والخدمي فى الاقتصاد السوداني ، وهذا يوضح أن المخدم الأساسي للعاملين هو القطاع الخاص، وبصفة خاصة فى ولاية الخرطوم.
وقد أدت الحرب إلى تراجع القطاع الخاص الإنتاجي في ولاية الخرطوم بنسبة كبيرة (إن لم نقل إنه كاد أن يختفي) بسبب التدمير المقصود الذي ألحقه التمرد بالقطاعات الانتاجية، وانعكس هذا على إيقاف النشاط الإنتاجي وشيوع البطالة ، يضاف إلى ذلك فقدان وزارة المالية لنسبة تتجاوز %80 من إيراداتها.
مما سبق يتبين أن أكثر ما يفكر فيه المواطن وهو يحزم أمتعته للعودة، هو الحصول على فرصة عمل حكومي أو فرصة عمل في القطاع الخاص ، أو عمل حر مباشر ، وكل هذه المصادر لم تسلم من التدمير وفقدت قدرتها على خلق الوظائف وتوليد الدخل.
هذا هو التحدي الحقيقي الذي ينبغي أن تتضافر جهود الجميع لمواجهته … كيف تنشئ لجنة الإعمار ولجان العودة الطوعية فرص العمل وتعمل على توسيعها، ماهى آلياتها لتحريك عجلة الانتاج حتى يجد كل مواطن فرصة عمل تدر عليه دخلاً متجدداً ومستمراً، فالذين قرروا العودة هم بحاجة لتوفر مصدر دخل مستمر ومتجدد يقابل به نفقات المعيشة.
وهذا التحدي لا تقف مسؤوليته عند الوالي ولا الفريق إبراهيم جابر وإنما تمتد لتشمل وزارات القطاع الاقتصادي والبنك المركزي والجهاز المصرفي، لأن التحدي يستلزم حزمة سياسات اقتصادية ومالية ونقدية وتمويلية تعمل مجتمعة على بعث الروح فى النشاط الإنتاجي فى ولاية الخرطوم والولايات المتضررة الأخرى.
قد يقول قائل إن أم درمان ظلت محتفظة بحيويّتها ، صحيح أن النشاط التجاري متحرك جزئيا، لكن معظم مؤسسات القطاع الصناعي والزراعي متوقفة ، ولا زالت التكايا مستمرة فى أم درمان ولازالت بعض منظمات الإغاثة تباشر نشاطها فى تقديم الطعام والرعاية الصحية المجانية.
كل هذه التحديات تمثل أهم أسباب تردد البعض في اتخاذ قرار العودة للخرطوم ، فالدخل المستمر المتجدد هو مصدر الأمان للعائد، والتفكير والتخطيط والتنفيذ لإيجاد فرص العمل هو مفتاح معالجة تحدى العودة.
ومواجهة هذه التحديات تستلزم تنسيق جهود كل الشركاء، لتنفيذ برامج عاجلة من الموارد الداخلية أو الخارجية ، حيث يقتضي ذلك إجراء الاتى:
أولاً: أن توجه سياسات الدولة الاقتصادية لإعادة الثقة في الاقتصاد الوطني وأن تقدم حزمة تسهيلات وحوافز تطمئن القطاع الخاص المحلي للانطلاق ، وتشجع الاستثمار الأجنبي للعودة.
ثانياً: أن تركز السياسات التمويلية والنقدية على تمويل قطاع الإنتاج (الصغير والمتوسط) خاصة الذين تضرروا من الحرب، لتمكينهم من تعويض الفقدان فى وسائل الانتاج، وتوفير رأسمال التشغيل، وأن يتم بشروط ضمان ميسرة وبآجال سداد مناسبة تبدأ بعد دوران عجلة الانتاج ومباشرة النشاط حتى توفر فرص العمل المباشر وغير المباشر .
ثالثاً: أن تنفذ الحكومة وبصفة عاجلة برامج شراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي لاٍعادة تأهيل القطاع الإنتاجي ، فى مجال البنى التحتية ومصادر توفير الطاقة والمياه وتأهيل الطرق الضرورية في مناطق الانتاج عن طريق نظام البوت (BOOT) أو أى صيغة يتفق عليها لسد النقص في مصادر التمويل.
رابعاُ: أن تؤسس الحكومة مراكز دعم فني ومالي واقتصادي للعاملين وأصحاب العمل لمساعدتهم على تحديد أولويات مباشرة النشاط الإنتاجي ومواجهة تحديات بدء العمل.
خامساً: أن يتزامن مع كل ما ذكر أعلاه إعداد ملفات مشروعات تأهيل القطاعات الإنتاجية، وتقديمها بواسطة منظمات القطاع الخاص الإنتاجية بتوصية من الحكومة لنوافذ تمويل القطاع الخاص بمؤسسات التمويل الإقليمية والعالمية IDB) (ADB) ) أو الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة مثل: منظمة التنمية الصناعية (UNIDO) و منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) المتخصص فى دعم التنمية الزراعية في الدول النامية وغيرها من المنظمات، لإدراج هذه المشروعات ضمن محافظها التمويلية أو برامج المسؤولية الإجتماعية.
سادساً: أهم معالم التغيير التي أحدثتها الحرب أنها أعادت كثيراً من المجموعات السكانية إلى مناطق الجذور، مناطق الإنتاج ، حيث وجدوا الواقع مختلفاً عما تركوه أو تركه الآباء ، فاختاروا توفيق أوضاعهم مع البيئة الجديدة، بصيانة مساكنهم القديمة أو بناء أخرى جديدة ، كما باشر بعضهم أو غالبهم صورا متعددة من النشاط الإنتاجي أو التجاري ، وأدخلوا أبناءهم في مؤسسات التعليم ، ولا شك أن عودة هذه المجموعات لمناطق الإنتاج لها أثر إيجابي، يتطلب من الحكومة تبني حزمة سياسات تضمن استمرار هذه المجموعات فى مناطقها الجديدة ، مثل استيعابهم في الخطط الإسكانية أو الأراضي الزراعية أو الصناعية، بما يساعدهم على الاستمرار والمشاركة الفعالة حيث انتهى بهم المقام.
وهكذا ستظل سلسة وبرامج ومشروعات الإعمار مستمرة ومتجددة، بصورة تستدعي من السلطات الاتحادية والولائية والمحلية مراعاتها فى الأجل القصير والمتوسط .
ولنا عودة إن شاء الله فحق الوطن لا منتهى له .



