تقارير

عمرو منير دهب يكتب: ماذا لو فاتك هذا المقال؟

nasdahab@gmail.com

لن يرتبك مسار الحياة ولن يحدث أي مكروه وسيمضي كل شيء بشكل طبيعي وتلقائي على عكس ما يحب أن يخال الكاتب.

وخيالات الكُتاب لا حدود لها على هذا الصعيد، فالكاتب يظن أن المطابع لن تدور إذا لم يصلها مقال الغد في الموعد المعتاد فتظل تنتظره متحرِّقة، وهو خيال يدعو إلى شفقة كبيرة لأن المسؤولين عن التحرير وهم من لحم ودم – دع عنك المطبعة – لا يفعلون أمراً من ذلك القبيل من حيث تلهُّف انتظار بنات أفكار كاتب بعينه فيؤخرون إصدار صحيفة يومية من أجله، وهو صنيع حكيم ليس دافعه الغيرة من كاتب ذائع في كل الأحوال.

كذلك فإن ذات الاعتيادية التي تــَـسِم حياة الناس ستستمر لو أن كاتباً توقف عن الكتابة برمّتها لا عن كتابة مقال يومي أو أسبوعي مرة، بل إن السماء لن تذرف دمعة لو أن ذلك الواهم توقف عن الحياة كلِّها وانتقل إلى عالم آخر.

ولكن إذا كان الإنسان بصفة عامة يظل في حالة إنكار عنيد في أعماقه النفسية لفكرة زواله ويظل كما قيل يعيش على أمل أنه المخلَّد الأول في هذا العالم فلا غرو أن يتلبّس الكاتبَ الوهمُ نفسه فيخال أنه سيكتب للأبد أو على الأقل سيحدث خطب جلل إذا هو توقف عن الكتابة أو توقف عن الحياة.

مقابل ذلك فإن القارئ ليس بريئاً في كل الأحوال، فقد يتعمد تخطِّي عمود بعينه لأن الكاتب لا يعجبه إن حقاً أو باطلاً، و”حقاً” تعني أن مصدر عدم الإعجاب تقييم فني لا ضير من الخلاف حوله، بينما “باطلاً” تعويل على مسائل شخصية كشكل الكاتب أو اسمه أو أقاويل تلف سيرته الذاتية، أيضاً بالحق أو الباطل.

غير أنني أستدرك فأقول إن كل تجاوز لكاتب بعينه من قارئ – بعينه كذلك – هو حق محض لذلك القارئ سواءٌ عوّل الأخير على مقاييس موضوعية أو أخرى شخصية.

ولكن الباطل أن يظن قارئ مغرم بتجاوز الكُتــَّـاب أن كاتباً سيختفي من الوجود لأنه قرر تجاوزه، وقد تقع تلك الأوهام بين الكُتاب أنفسهم عندما يقرأ (أو لا يقرأ) بعضهم لبعض، وإذا كان صنيع تجاوز الكُتاب حقاً مشروعاً للقارئ فلا أظنه كذلك للكاتب عندما يتابع غيره من الكُتاب، فالمتابعة التي يعقبها تقييم موضوعي بين المحترفين من زملاء المهنة مهمة مهما يحتفظ الكاتب من المشاعر إن سلباً أو إيجاباً تجاه زميله.

غير أن الواقع يشهد بأن الكُتــَّـاب ليسوا أقسط حكماً أو أقوم مشاعرَ من قارئ نزِق متواضع الثقافة عندما يتعلّق الأمر بالغيرة أو حتى ما دونها من المشاعر الشخصية في متابعة زملاء العمل، وقلّما يخلو الأمر من تلك المشاعر خلال متابعات رفقاء الصنعة، فالكُتــَّاب آخر الأمر بشر من لحم ومشاعر، والقرّاء أحق بذلك الوصف الذي يجيز التراخي في الأحكام (والأفعال) الموضوعية.

ومثلما أن فوات متابعة مقال لا يعني نهاية الدنيا أو حتى نهاية ما دونها بكثير بالنسبة للقارئ، فإن كاتباً لن يجلس بلا عمل أو معجبين لأن قارئاً منزعجاً أو زميلاً غيوراً قرّر أن يكفَّ عن متابعته، الأمر يشبه أن يضع أحدهم أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع متحدِّثاً أمامه، فذلك لا يعني أن الرجل كف عن الحديث أو أن الآخرين كفوا عن الإنصات إليه.

ولكننا لا نستطيع أن نقاوم خيالاً يقضي بأن ما لا تسمعه آذاننا أو تراه أعيننا لم يقع حتى إذا كان قد خرق آذان الآخرين واقتحم عيونهم. ذلك خيال يكاد ينزل منزلة الحقيقة في خواطرنا عندما يتعلّق الأمر بإدراكنا للوجود من حولنا، فنحن نقتنع فقط نزولاً على حكم المنطق بأن ما لا تدركه حواسنا موجود على الطرف الآخر من العالم، وربما على الطرف الآخر من الكون، ولكن حواسنا نفسها تكذب ذلك، فالمقالات والكتب والمشتغلون بها كتابة وقراءة ليسوا إذن بدعاً في تلك الأوهام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى