عمرو منير دهب يكتب: فكرة لم تخطر ببال كاتب
nasdahab@gmail.com
ما ينتاب الكاتب وهو يجلس أمام الورقة البيضاء أشبه بما ينتاب الرجل وهو يتراوح جيئة وذهاباً خارج غرفة العمليات في انتظار مولود جديد كما في المشهد الشهير في المسلسلات العربية، بعض القلق وكثير من الأمل في مولود رائع وبديع.
الحلم العصيّ على أي كاتب هو فكرة بِكر لم تخطر ببال غيره من قبل، ولأن الإبداع على تلك الشاكلة لا يتنزل على الملهَمين كل يوم وليلة، فإن ما يشغل الكاتب في كل الأحوال عند مواجهة صفحة بيضاء هو معالجة دقائق الكتابة من أجل ابتداع مداخل جديدة على الأقل لتناول فكرة قد تكون مستهلكة. عملية الكتابة ابتكاراً لفكرة جديدة – أو ابتداعاً لمداخل مختلفة لعرض فكرة متداولة – هي ما دَرَج الكُتــّابُ على وصفه بالمخاض، وهو وصف لا يُبارح كثيراً التشبيه الأول سوى في أن المبدع في الحالة الأخيرة هو المرأة التي تعاني المخاض وليس الرجل الذي يقف على الباب لا يطاله من الألم شيء سوى تصنــّع القلق كما ترى المرأة قياساً بما يحيق بها.
دعاني إلى استدعاء الصورة المكرورة أعلاه مبادرة قارئ مهذب بالثناء على مقالاتي لا لشيء سوى التمهيد لموضوع المبادرة الأساس وهو نقد مُلخـّصُه الشكوى من قِصَر المقالات على اعتبار أنه قارئ شرِه لا يُشبع نهمـَه الفكري سوى الكتابات الدسمة طولاً وعرضاً. وكان ذلك القارئ من الوداعة في الجدال بحيث اكتفى (دون أن يقتنع بالضرورة) بردّي الذي مُحصّلته أن فكرتي من قِصر المقالات على ذلك النحو دعوة أكبر عدد من القراء إلى مائدتها مع الأخذ في الاعتبار بعض الإحصائيات الصحافية العالمية التي تشير إلى أن نسبة قرّاء صفحة الرأي إلى قرّاء الصحيفة مجملاً لا تتعدّى 17 إلى 1000. وإذا كانت مواضيع الصفحة المغضوب عليها عاملاً مهماً في تدني نسبة الإقبال عليها فإن في نفــَـس كُتــّابها الطويل عاملاً لا يقلّ أهمية في تفسير إدارة القرّاء أعينهم صوب الصفحات الأولى والأخيرة وما بينهما مما يحوي ما قلّ ودلّ في زمن أُسرِف في وصفه بالسرعة.
وما لبث أن ابتدرني برسالة مماثلة قارئ صديق لا يقلّ تهذيباً عن الأول، غير أنه كان أطول نفسـاً في المُحاجّة. وطولُ نفــَـسه هذا ليس حقاً له عليّ فحسب بل مما يجب أنه أشكره عليه لأنه نبّهني إلى أن إغراء القرّاء على كافة سَعاتهم (من طول النفـَـس في القراءة) بعدم إطالة المقال يبدو متعارضاً مع طريقة عرض الأفكار التي كثيراً ما تتــّسم بالصعوبة مما يستدعي معاودة قراءتها أكثر من مرة للوقوف على المراد بها بوضوح، فتكون المحصلة لدى القارئ مقالاً قصيراً مقروءاً مرتين أو أكثر وهو ما يعني في النهاية مقالاً طويلاً وربما طويلاً جداً بحسب عدد مرات إعادة القراءة بهدف الاستيضاح.
ولأنني كاتب غير قصير النفـَـس في المجادلة، من دون أن أبارح التهذيب والإفادة من ملاحظات القرّاء الثاقبة، لم أشأ أن أستسلم بسهولة فنويت أن أطيل النظر فيما عسى أن يكون وراء صنيعي مع مقالاتي على ذلك النحو من أمرَي القِصر والتعقيد في آن بما يبدو مغرياً بالاتهام بالتناقض، وما لبث أن قطع عليّ الطريق ما أورده البروفيسور عبد الله علي إبراهيم ردّاً على من استبطؤوا برنامجه الانتخابي في أعقاب تصريحه بنيّة الترشيح لرئاسة البلاد.
يقول عبد الله إنه لا يكتب برنامجه الانتخابي بل يورّط الناس فيه. وإذا جاز أن أستعير بلاغة الكاتب البديع أقول إنه من الخير أن تــُـشرِك القارئ (ولا ورطة هذه المرّة) في كتابة المقال بدلاً من أن تقدّمه له جاهزاً لقراءة يسيرة لا تعرقل سلاسةَ الانطلاق فيها معاوداتٌ بهدف الاستيضاح ثم التعقيب نقداً بما يفتح مدارك ثريّة للإضافة. ومعاودات القراءة والاستيضاح والتعقيب النقدي على تلك الشاكلة هي المقصود بإشراك القارئ في كتابة المقال.
الكتابة على ذلك النحو أشبه بالمثل (الصيني؟) الذي يحرّض على تعليم الصيد بدلاً من منح السمكة جاهزة للأكل، وهي أشبه كما في عُرف عبد الله علي إبراهيم بالبرنامج الانتخابي الذي يتورّط الناس في صياغته تبشيراً بالديموقراطية (التي هي إشراك الشعب في الحكم) وتأصيلاً استباقياً لمبادئها.
وإذا جاز مجدداً أن أستعير بلاغة شاعر عظيم وأعقــِّـب على بعضها، فإنني أؤكد أنني لا أجرؤ على أن أنام ملء جفوني عن شوارد مقالاتي، لكنه يسعدني مؤكداً أن يسهر الخلق جرّاها، دون أن يختصموا بالضرورة.