عمرو منير دهب يكتب: ذكريات العجايز والعولمة
nasdahab@gmail.com
“بالإفادة من خيرات التكنولوجيا الحديثة ممثلة في الإنترنت وطفلها المدلّل الـفيس بوك، بادر الأكثرُ نشاطاً من زملاء الجامعة إلى تنظيم لقاء لتجديد الذكريات”. كان ذلك قبل خمسة أعوام، وقبل خمسة أيام تجدّد اللقاء، هذه المرة أيضاً بالإفادة من خيرات التكنولوجيا ولكن بعد أن شبّ “الفيس بوك” عن طور الدلال وتخطّت الهواتفُ المتحركة الذكية الإنترنت في حداثة التكنولوجيا وحُظوتها. وعليه فإن ما حمل عبء التواصل لترتيب اللقاء هذه المرة كانت مجموعة (قروب) على “الواتس آب”، أما من حمل عبء ترتيب اللقاء ولذة المشاركة فيه فكانت زمرة من رفقاء الأمس الموصوف صدقاً بالجمال (في مقام لا يجب أن نثقل فيه على الماضي في التقييم بقدر كبير من الفلسفة).
في الحديث نفسه المقتطف منه عن ذكرياتنا بعد عقدين قلت: “لم تدع التكنولوجيا الحديثة إذن باباً إلا أغلقته في وجه الحانقين عليها ممن يكثرون البكاء على الماضي الجميل، فها هي ذكريات الماضي الجميل أيسر التقاطاً كما لم يحدث من قبل – وكما لم يكن متخيّلاً – مع التكنولوجيا الحديثة التي باتت تتحف مرضى النستالجيا بكل ما من شأنه أن يبلّ ظمأهم إلى الماضي على أكمل وجه”. خلال خمسة أعوام تقريباً هي الفاصل بين لقائنا الأول وبين الثاني تسارعت خيرات التكنولوجيا في الانهمار على البشر بما يفوق خيال من كان يحسب نفسه قبل سنوات معدودة قد بلغ الغاية في توقُّع عجائب هذا الزمان الرقمية.
العجيبة التي استأثرت بالإعداد لهذا اللقاء وتسهيل تنفيذه وتدوينه لحدّ النقل المباشر على الهواء كانت “الآي فون” وتابعه “جالاكسي” (بالنظر إلى أسبقية الاختراع وليس أيّة اعتبارات تراتبية أخرى)، ولم يكن الهاتف الذكي من ذلك الطراز وتطبيقاته السحرية قد حظيا بعدُ بانتشار جماهيري معتبر عند لقائنا الأول.
مضى لقاؤنا الثاني بفضل الله متجاوزاً في الألفة والبهجة توقعاتِ الأصدقاء الذين خرّوا جميعاً صرعى الحنين إلى الماضي حتى من كان منهم أيام الجامعة عمليّاً بامتياز، فإذا عرف القارئ أن اللقاء كان لقدامى المحاربين من خريجي كلية الهندسة بات مؤكداً أن النستالجيا مرض لا يقاومه أحد من “العجايز” كائناً من كان، فلو أن الأمر معلّق بالميول التي تعكسها طبيعة الدراسة كان خريجو كلية الهندسة آخرَ المنجذبين إلى الماضي والذكريات، وكما أن هذا دليل على سطوة الحنين إلى ما مضى فهو مما يصلح في المقابل حجةً على بطلان الكثير من بديهيّات التنميط بشأن قراءة مشاعر الناس وتدوين الانطباعات عنهم على وجه العموم.
أثق أنني في مأمن تام من غضب أيٍّ من الأعزاء أبطال لقاء الذكريات الأخير لوصفهم بـ”العجايز”، فبعد حوالى ربع القرن من التخرج يتنافس الأتراب عادةً على لقب الأصغر سناً أو الأكثر محافظة على علامات الشباب، ولكن ضمن زمرة “العجايز”، إمّا إقراراً صريحاً بالكبر أو استسلاماً لا مناص منه على مضض.
بدا من لقائنا الثاني أن الذكريات – على عكس ما يشي به المنطق – مخزونٌ لا ينضب، فالأصل في الذكريات أنها وقعت وانتهت، غير أن ما نمارسه معها لعبة بسيطة تتمثل في الاستعادة بتلذذ مدارُه الاستعادة نفسها وليس البحث عن أي جديد بطبيعة الحال.
خمسة أعوام كافية لتجديد لعبة الاستعادة مع الذكريات دون ملل، ولكن عشاق الماضي من “العجايز” يعلمون تماماً أن يومين لا يلتقون خلالهما يكفيان لاستعادةٍ لا يُكدِّر صفوَها ضجرٌ لذكريات السنين الماضية. وبطبيعة الأحداث وحجم ذاكرة الإنسان – مهما تفوّقت على المعالجات الرقمية الجبّارة كما يبشرنا بالتذكير كل يوم علماء تشريح الأعضاء – فإن ما يستعيده “العجايز” من ذكرياتهم خلال أي لقاء لا يتعدّى مجموعة محدودة من النوادر والأحداث لو أنها اجتمعت متتابعة – على سبيل الافتراض – لما زادت على اليوم الواحد على أسخى تقدير. هذا مُوافِق لمنطق الدراما التي تُعنى كما في قولٍ معروف لبعض نقّادها بحذف أزمنة الحياة الضعيفة. ذكرياتنا كالدراما محكمة الصنع تصطفي الأزمنة القوية من ماضينا مهما تكاثرت سنواته إلى الوراء بحيث تبقى مما يبهجنا منه ساعاتٌ نعيد تكرارها بالتذكٌّر الباعث على النشوة كأننا في كلّ مرة نستعيدها لأول مرة. وإن كنا مع ذكرياتنا أكثر اصطفاءً من الدراما بحيث لا نختار الأقوى فحسب وإنما الأجمل من الأقوى، أمّا تجاربنا المُرّة فإننا نختصّها عمداً بالاستبعاد ولا نحشرها في زمرة اللقب الأثير “ذكريات”.
مع كل صفعة بيد التكنولوجيا لعشاق الماضي طمساً لبعض ملامحه فإنها باليد الأخرى غالباً ما تسدي معروفاً لذات العشاق، فالسينما والراديو والتلفزيون على سبيل المثال كانت مما اختزن في أحشائه أغلى الذكريات من الأحداث والفنون في حين عدّها البعض بحق إبّان ظهورها أدوات صريحة لاغتيال أنماط عيشهم التي رأوها لاحقاً جميلة، إن حقاً أو بالمفعول السحري لعقّار الذكريات.
ومع الإنترنت وأطفالها المدللين من تطبيقات التواصل الاجتماعي تحديداً، ثم الهواتف الذكية من فصيلة “آي فون” و”جالاكسي” و”بلاك بيري” وأمثالها مما قفز بالتواصل على كل صعيد قفزات يصدُق وصفُها بالنوعية، مع كل ذلك – باعتباره ذروة تجسيد العولمة – كانت الصفعة لأنماط عيشنا القديمة من يد التكنولوجيا أشبه بضربة قاضية، أما عشاق الذكريات من “العجايز” فقد كانت يدُ التكنولوجيا الأخرى أكثر حنوّاً معهم هذه المرة وهي تتيح لهم الذكريات استعادةً لها وتواصلاً مع أبطالها من الأعزاء المقرّبين على نمط أشبه بالأحلام.