عمرو منير دهب يكتب: حتى صحة الإنسان موضة
nasdahab@gmail.com
إذا كنا قد ذكرنا في “طريق الحكمة السريع” على سبيل الدعابة أن “الأبحاث العلمية الموثقة تؤكد ما تنفيه الأبحاث العلمية الموثقة الأخرى”، فإن الأمر لم يعد اكتشافاً مزعوماً في قالب مزحة بل أقرب إلى الحقيقة الراسخة بما يدعو إلى الحسرة أو الشفقة في أفضل الأحوال. لقد ملّ الناس التحذيرات التي تسوقها الأبحاث العلمية بخصوص كل لقمة يتناولونها أو حركة يقومون بها، أو حتى كلمة ينبسون بها، بحيث باتوا لا يمنحون تلك الأبحاث ما كانت تحظى به من الهيبة والتقدير خلال عقود خلت، ليس من باب التشكيك بالضرورة وإنما الحيرة في المقام الأول، يتبع ذلك ما سلفت الإشارة إليه منذ برهة من حسرة وشفقة على النفس من بحوث مختبرية معنيّة في ما يبدو بالترهيب أكثر مما هي حمّالة بشائر من شأنها أن تعين على طمأنة الموسوسين أو إبهاج أيٍّ من المتابعين المهتمين بأمر صحتهم بشكل أو آخر.
تأرجُح الأبحاث العلمية المعرَّض به أعلاه بين تأكيد صحة المعلومة/العادة ونفيها يمكن أخذه بارتياح على أنه إشارة واضحة الدلالة إلى أن طريقة الاهتمام بالصحة لا تعدو أن تكون موضة في كثير من نواحيها، فالنمط الصحي يكون متّبعاً في زمان ما ونقيضُه يُتّبع في زمان لاحق ليس بعيداً بحال، بل قد يُتّبع النمط ونقيضه في مكانين متقابلين في الزمان نفسه من باب اختلاف المرجعيات الثقافية التي تنعكس بدورها بصورة أو أخرى على البحوث العلمية، وربما يُتّبع النمطان المتناقضان في زمان واحد ومكان واحد رجوعاً إلى الميول الشخصية في تفضيل كل نمط من كل فرد بما لا يعدم الاستناد إلى مرجعية علمية موثّقة ومحايدة في الحالين، وربما في حالات متعددة من الاختلاف وليس التناقض بالضرورة.
باستثناء نتائج الأبحاث المنحازة لغرض ثقافي بعينه (بدوافع اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية)، فإن الغالب من البحوث العلمية عرضة للاختلاف بشأنه لتداخل وتغيُّر العوامل المؤثرة في النتيجة الأخيرة، ومن قبل لتوالي الجديد من المؤثرات في عصر المعلومات كما يرِد في أحد أشهر أوصاف عصرنا هذا. وعليه فإن نتائج البحوث العلمية لن تكون خاضعة للموضة مع سبق إصرار قدرَ ما تكون متغيرة بما يؤسس تلقائياً للموضة الصحية في أعقاب النتائج المتبدّلة بما يدعو لدهشة المتابعين المنصاعين في ثقة لسطوة العلم الحديث.
إلى ذلك، يحدث أن يؤسِّس المهتمّون بالصحة من الخبراء لموضة صحيّة مع سبق الإصرار ليس في ضوء مفاجآتهم بالنتائج المتقلِّبة لأبحاثهم وأبحاث زملائهم، وإنما من أجل عيون الموضة محضةً ليس إلا، وذلك بما يعني استحداث بِدعة صحية (لن تعدم مؤكداً مرجعية علمية) تلافياً للملل الذي يصيب في الغالب الجماهير جرّاء اتباع نمط صحي واحد، أو حتى أنماط صحية معدودة. وأشهر البدع الصحية التي تتفتّق عنها قرائح خبراء الصحة هو ما يتعلق بالحميات الغذائية، خاصة تلك المصمّمة لإنقاص الوزن بغرض الرشاقة صرفاً وليس لأية دواعٍ عاجلة لمعالجة مرض ماثل أو تلافياً لآخر محتمل.
أضحى “الرجيم” بالفعل أشكالاً وألواناً بما يقارب المعني الحرفي ويكاد ينطبق عليه، فالحميات الغذائية باتت تتكون من أصناف بعينها من الطعام رجوعاً إلى العناصر الغذائية، بحيث تقتصر الحمية على تجنُّب بعض تلك العناصر، وأحياناً على تناول أحد تلك العناصر منفرداً، وفي أحيان لم تعد نادرة ينحصر الطعام المسموح به أطول فترات اليوم في صنف بعينه كما في “رجيم البطيخ” على سبيل المثال لا المزاح.
قد ينظر البعض إلى الحميات الغذائية بما يستدعي التجديد كضرورة في ضوء ما تصل إليه الأبحاث الغذائية (المتطورة بدورها كردة فعل للتقدم التقني المطّرد) وليس من باب الموضة المحسوبة كرفاهية وحسب، غير أنه من الصعب إغفال أن استشراء أشكال وألوان الحميات بات يؤسس لموضات غذائية تطلع بها هذه الشركة وتلك في منافسة مفتوحة على طبيعة الحمية نفسها وليست على الخدمات (التسهيلات/المغريات) التي تحفّ السلعة الأساس نفسها كما هو الحال مثلاً مع المستشفيات الخاصة التي تتبارى في موضة الخدمات المصاحبة للتطبيب في ما يتعلق برفاهية تصميم مكان الإقامة وفخامة الأثاث والسرعة الفائقة لتقديم المساعدة المطلوبة وصولاً إلى خدمة استلام وتوصيل الطلبات من وإلى المنازل (والمقصود بالطلبات هنا الفحوصات المعملية على سبيل المثال الحديث، باعتبار توصيل الأطباء أنفسهم إلى المنازل موضة قديمة كما هو معروف).
نعم للمضاد الحيوي… لا للمضاد الحيوي، نعم لأدوية الكحّة… لا لأدوية الكحة، مضادات الهستامين تصلح بديلاً لأدوية الكحّة، الأسبرين أعظم وأسلم عقار عرفه الطب… يجب الانتباه لتأثيرات الأسبرين السلبية، وهلمّ جراً. كل ذلك على لسان الأطباء المتخصصين وليس تلقّفاً من العوام على طريقة “اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب”. يصعب التشكيك إذن في أن الطب نفسه – وليست صحة الإنسان عموماً – يخضع للموضة، حتى إذا لم يكن الملل وحده هو الدافع إلى تقلّب الأحوال عند حديث الأطباء والمختصين بالصحة عمّا يصح ولا يصحّ فعله في حالَتَي السلامة والمرض من الممارسات في حياتنا اليومية.