عمرو منير دهب يكتب: تواضعوا معشر الكُتــّـاب
nasdahab@gmail.com
الضربة التي تلقــّاها الفلاسفة مع بدايات النهضة الصناعية في أوروبا كانت قوية حين انصرف الناس إلى تقدير ما يرونه رأي العين ويفيدون منه ماديّاً من منتجات العلم على حساب الكلام الطويل المعقــّـد من ذات المنتجات. وبعد مرور زمان طويل أتحفت فيه تلك النهضةُ الناسَ بكل غريب وعجيب أوشكت الضربة التي تلقاها كلُّ مَن بضاعتـُه الكلام – وعلى رأسهم الفلاسفة – أن تكون قاضية، وأوشك الناس أن لا يلجؤوا إلى الفلسفة وسائر فروع العلوم النظرية والتنظيرية إلا في استراحات عابرة عندما تــُتخمهم خيرات العلوم التطبيقية – وكل ما يمت لها بصلة مباشرة من معارف – يلتمسون في التنظير ما عساه أن يكون تفسيراً غير مؤكد لما حدث وتنبؤاً ينتابه الشك من كل جانب لما يمكن أن يحدث مستقبلاً.
ولعل حال الناس في تلك الاستراحات العابرة يشبه حال من لا يؤمن يقيناً بالتعاويذ لكنه لا يرى بأساً بأن يأتي المعالجين بالرُّقى متبرّكاً بهم درءاً لعِلل محتملة أو حتى داء عُضال واقع حار فيه الأطباء، وهو يحتفظ في قرارة نفسه ببركات أولئك المعالجين كخطة احتياطية على الجانب دون أن يفكّر في المساومة على أولوية الأطباء بحال.
ماذا أخذ الناس من التنظير على امتداد تاريخه في الوجود البشري؟ كلاماً جميلاً، معاني هامة، وربما مبرّراً وحافزاً قويّين من أجل البقاء. ولكن ألم يأخذ الناس من العلوم التطبيقية وكلّ ما انتمى إليها بصلة منذ فجر التاريخ البشري أسبابَ البقاء ذاته؟ ثم عندما تطوّرت تلك العلوم بكل فروعها وروافدها تطوّراً مذهلاً في بضعة عقود أخيرة ألم يكتشف الناس أسباباً جديدة للبقاء ومُتـَعاً بعضـُها كان خيالاً وبعضها سبق فيه العلماءُ بالإنجاز خيالَ كلّ كاتب وفيلسوف؟
لا يزال التنظير يَعِدُ روّادَه من المعجبين فيَـفي مرّة ويخذلهم ألف مرّة، وهو عندما يفي لم يعد يفعل في الواقع أكثر من التنبؤ أو التمهيد لنجاح مُنجَز علمي لم يكن العلماء أصلاً عاجزين عن التنبؤ به أو التمهيد له، وقد يفي التنظير بوعوده من جهة أخرى عندما تتحقق نبوءاته بعواقب الاختراع العلمي السيئة فلا يكون إنجازه حينها أجدر بتقدير أكثر مما يستحقه الشامتون وقد عز عليهم أن يقارعوا اختراعاً باختراع فهرولوا إلى الشماتة مقابل محاولات علمية جادة لم يُكتب لها النجاح بعد.
ألم يكن أحد أفضل حظوظ التنظير والمنظرين في التواجد مؤخراً أن يمتطوا وسائل التعبير الحديثة، التي هي في الأصل تــُحَف تكنولوجية بديعة، ليلعنوا العصر الذي لم يُدلوا دَلْوَهُم فيه بأفضل من هذين: التطفل واللعن.
وإذا كان ذلك حظ التنظير عموماً في هذا العصر فحظ تنظيرنا ومنظــِّـرينا في الدول النامية والأخرى الأقل نموّاً أدعى إلى الرثاء. إنهم يرْثون بكل ثقة إسهام علمائنا المتواضع – أو المنعدم في أغلب الأحوال – في المنجز التقني حديثاً وينسون أن إسهامهم في المنجز التنظيري الحديث بحاجة إلى من يُدبّج في حقه قصائد الرثاء ومقالاته المطوّلة.
ما الذي يعود به التنظير على صاحبه مقابل ما تعود به التكنولوجيا على العاملين في حقولها من أسباب العيش السارّة؟ السؤال في الواقع مباشرة هو: كم يقبض المنظــّر مقابل ما يقبضه نظيره العامل في حقل التقنية أيّاً ما كان مجال ذلك الحقل وأيّاً ما كان موقعه فيه؟
نتحفظ على الإجابة صراحة على السؤال في صورته الأخيرة لأسباب تتعلّق بحفظ ماء الوجه الخاص بالمنظرين من أمثالنا، أو ربما بالأحرى لأن الجميع يعرف الإجابة سلفاً.
من أجل كل ما سبق، ألا يستحق من يصبر على قراءة هذه الكلمات الثناء كله – بوصفه الوجه الأكثر تألقاً في كل ما يمت للتنظير بصلة من صُوَر في أمثال هذه البقع من العالم – وهو لا يزال حريصاً على أن يدفع ليقرأ والمغريات (بالحق والباطل) تناديه من كل صوب: هيت لك؟