عمرو منير دهب يكتب.. تاريخ صلاحية الأعضاء
nasdahab@gmail.com
تتداعى أعضاء الجسد بداعي الكبر إلى أن تمرض، وربما تعطب أو حتى تفسد.
وكنت قد نظرت إلى زميل قديم في العمل التقيته بعد غياب طويل فهالتني ملامحه التي اختلط فيها الكِبَر بالمرض، وانتابني إحساس – ليس في إمكاني تجاهله – بالتعالي والضيق لمجرّد أن صاحبي ذاك لم يعد نضراً وقويّاً كما كان، فبدوتُ بذلك كأنني أبحث عن ذريعة أحمِّله بها مسؤولية ما حدث.
وما حدث لا يتجاوز أن رجلاً كبر كما يكبر سائر الناس، ولكن من يبحث عن الذرائع يجدها، فمن الممكن تحميله مسؤولية فعلتِه على اعتبار أن الفعلة ليست الكبر مطلقاً وإنما ظهور علاماته تحديداً بوضوح لعدم الاكتراث لصحة الجسد وقلّة الاعتناء بمظهره. وإذا كانت تلك الذريعة لا تخلو من منطق فإن نقيضها أيضاً لا يخلو من المنطق، فالاعتناء بالمظهر والمراقبة اللصيقة لتعليمات الأطباء لا ينجيان عجوزاً من استبداد علامات الكِبَر به إذا كانت العلّة الصحية قويّة ومزمنة أو داهمت أحداً على حين غرّة في شدّة وقسوة.
بدا إذن ذلك الصديق العزيز لأول وهلة كما لو أمسى في ناظري شيئاً قديماً، ولا أنكر أنني لاحظت أن إحساساً مماثلاً ينتاب صديقاً لي أكثر شباباً وهو يرمقني مؤخراً. من الحكمة ألّا ننظر إلى أمثال تلك المشاعر فقط بوصفها نزغاً شيطانياً من باب التعالي، فهي بالأحرى أقرب إلى الجزع والفزع على النفس والمقرّبين من حقيقة الكِبَر وما وراءه من مصير محتوم.
الراجح أن إحساساً عميقاً وخفيّاً بالهلع – قبل الأسى – يتملّك من يدهمه الشعور بالكبر، سواءٌ لظهور علاماته باختلاف أشكالها على غرّة أو لتزايد تلك العلامات بحيث تفضح أيّ تجاهل كان ممكناً قبلها. وبرغم أن مردّ ذلك الهلع هو الشعور بالاقتراب النسبي للنهاية المحتومة فإن شعوراً موازياً عميقاً (ولكن أكثر ظهوراً) يتملّك المرء مع الكبر ممثّلاً في الخشية من القدرة المتخاذلة – حتى التلاشي – على الاستمتاع بملذات الحياة.
ولكن المفارقة الكبرى مع علامات الكبر تحديداً تتجلّى في أن أظهر وأشهر تلك العلامات هو الشيب الذي لا يحمل في ذاته أية آثار عضوية على الجسد، فنقسو على ذلك الضيف (غير الثقيل؟) وهو يطرقنا مستأذناً في أدب جمّ، وذلك فعل غير منطقي إلا إذا أُخِذ على أنه البغض الحقيق بكل نذير سوء حتى إذا كان النذير نفسه بريئاً من السوء.
ولكننا لا ننظر إلى الشيب على ذاك النحو بل نحمِّله من الذنب فوق ذلك بكثير، حتى إذا كان ذلك مناقضاً لطبيعة الألوان كما يحب أن يفاضل بينها البشر، وفي ذلك قال المتنبي:
تُسَوِّدُ الشَمسُ مِنّا بيضَ أَوجُهِنا ** وَلا تُسَوِّدُ بيضَ العُذرِ واللِمَمِ
وَكانَ حالُهُما في الحُكمِ واحِدَةً ** لَوِ اِحتَكَمنا مِنَ الدُنيا إِلى حَكَمِ
وقد أُخِذ على حافظ إبراهيم الشاعر المصري الشهير أنه مدح أميرة مصرية عجوز بالبياض يكسو شعرها ليزيدها وقاراً، فالشيب كما قال نقّاد حافظ لا يسرّ امرأة (هل يفعل مع الرجال؟) مهما تجاهد في إظهار تجاهلها له، دع عنك أن “تُمَوسَق” تلك الإشارة في قصيدة تُتلى على الملأ.
وكان منظر الشيب متناثراً على الكرسي قد منحني شعوراً بأن صديقي الذي فرغ للتوّ من الحلاقة بات “قديماً”، وقد كان نفس الإحساس يعتريني مراراً دون أن أتبيّن كُنْهَه كلما هممت بالصعود إلى كرسي الحلّاق وأنا أراقبه ينفض شعراً أبيض لـ”عجوز” سبقني إلى كرسي الحلاقة.
ولكن تاريخ انتهاء صلاحية الشعر لا يكون بظهور الشيب، فتلك مجرد مشاكسة لتاريخ صلاحية رونقه، وقد تكون في أحوال نادرة بداية لتاريخ صلاحية جديد يجمع إلى الوقار رونقاً من نوع خاص. تاريخ انتهاء صلاحية الشعر يبدأ مع الضعف الشديد ثم الذبول المصحوب بتساقط كثيف (بعيداً عن الصلع الوراثي المبكر)، وحتى هذه وإنْ بدت عرضاً دالّاً على الإيغال في الكبر ليست مما يقف في وجه حياة العجوز العملية كما هو الحال مع غير ذلك من تواريخ انتهاء صلاحية أعضاء الجسد.
إذا كانت إرادة الحياة تتباين من عجوز إلى آخر، فإن أهمية أعضاء الجسد بالنسبة للعجوز نفسه تتباين حتى ليغدو أثر العضو منتهي الصلاحية على العجوز مرتبطاً بأهميّة ذلك العضو لديه بعيداً (إلى حدّ ما) عن تصنيف اختصاصيّي التأمين على أعضاء الجسد، فالكاتب المصري عباس العقاد – فيما يُروى – أحسّ لمجرّد أن أصابعه لم تعد تقوى على الإمساك بالقلم بدنوّ أجله، وقد كان.