حوارات

عشرة أسئلة مع الدكتور رولاند مارشال، أستاذ العلوم السياسية: عن السودان في مساره المعقد

منذ استقلاله، ظلّ السودان أسير دوّامة من الأزمات، إذ تعاقبت الحكومات المدنية والعسكرية، لكن لم تنجح أيٌّ منها في بناء نظام مستقرّ قادر على استيعاب التنوّع الجغرافي والإثني والسياسي: بعد فترات وجيزة من الديمقراطية تلت انتفاضات وثورات حقَّقَتْها الجماهير في 1964 و1985 و2019، سُرعان ما عادت المؤسسة العسكرية لتَستولي على السلطة، إما بانقلابات مُباشرة أو بتحالفاتٍ مع قوى سياسية مُسانِدة. هذه الحلقة المُفرَغة أعادت إنتاج الفشل في بناء دولة حديثة، وجعلت السودان ساحةً لتكرار الصراع المُسلَّح.

ما يُميِّز الحالة السودانية، أنّ جذور الأزمة ليست في الخرطوم فقط، ولا هي في صراعٍ على السلطة بين النُّخب، إنما تمتدُّ إلى علاقة المركز بالأطراف، وإلى فشل مُتكرِّر في دمج الريف والمناطق المُهمَّشة ضمن مشروع وطني جامع. منذ حروب الجنوب الأولى، مروراً بمأساة دارفور، ووصولاً إلى النزاع الحالي بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ ظلّ الريف هو المسرح الأساسي للعنف، بينما ظلَّت العاصمة تُمثِّل مركز القرار السياسي والاقتصادي.

وإذا وضعنا السودان في سياق إقليمي، سنَجد أن مساره يتقاطع مع تجارب دول أخرى. فالصومال مثلاً انهارت دولته المركزية عام 1991، وتحوّل إلى نموذج لتَفكُّك السُّلطة وانتشار المليشيات، مع غياب مؤسّساتٍ قادرةٍ على ضبط الفوضى. إثيوبيا بدَورها تُواجه منذ سنوات تحدّيات عميقةً بعد حرب تيقراي، وما صاحبها من استقطاب إثنيّ يُهدِّد تماسك الدولة الفيدرالية. في تشاد، ورث محمد إدريس ديبي سلطةً هشَّةً بعد اغتيال والده عام 2021، ويَعتمد على موازنة دقيقة بين القبائل وعلى الدعم الخارجي. أما الكونغو الديمقراطية، فتتجلّى مثالاً على دولة واسعة وغنية بالموارد، لكنَّها عاجزةٌ عن بسطِ سيادتها بسبب الحروب المُزمِنة في الأطراف والتدخّلات الإقليمية.

هذه المقارنات، تكشف أن ما يجري في السودان ليس استثناءً، إنما هو جزء من مشهد أوسع تعيشه منطقة القرن الأفريقي ووسط وغرب القارة، حيث تتداخل صراعات الهوية مع تنافسٍ على الموارد فضلاً عن التدخلات الخارجية. غير أنّ خصوصية السودان تَكمن في تكرار مُحاولات الانتقال الديمقراطي وفشلها. فانتفاضات الجماهير أظهرت قدرة السودانيين على الحراك الشعبي وإسقاط الأنظمة السلطوية، لكنها في كُلِّ مرَّةٍ تَصطدم بضعف الأحزاب، وتدخُّل الجيش، وغياب مشروع متكامل لبناء دولة عادلة.

في ظلّ هذه الخلفية المُعقّدة، اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع. حرب فاجأت المراقبين بقدر ما فجعت السودانيين، ليس فقط لأنها دمَّرت ما تبقى من مؤسّسات الدولة، إنما لأنها حوَّلت الخرطوم إلى ساحة معركة، وفتحت الباب واسعاً أمام التدخّلات الإقليمية والدولية. اليوم، بعد أكثر من سنتَيْن على اندلاعها، لا تبدو ملامح النهاية قريبة، وهو ما يَجعل النقاش مع خبراء مُقارِنين مثل الدكتور رولاند مارشال (Roland Marchal) ضرورياً لفهم جذور الأزمة واستشراف مآلاتها.

مارشال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة «ساينس بو» بباريس، وقد كرّس معظم أبحاثه لدراسة النزاعات والحروب الأهلية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لا سيما علاقتها بتكوين الدولة. يُعد من أهم المُنادين بضرورة وجود سوسيولوجيا خاصة بالحركات المُسلَّحة. وشارك في تأسيس «مرصد شرق أفريقيا»، وهو برنامج بحثي يُنسّقه مركز الدراسات الدولية لعلوم السياسة (CEDEJ) في الخرطوم ومركز الدراسات الدولية لعلوم السياسة (CERI). في هذا الحوار، يُقدِّم قراءةً مُقارنةً تُساعد على فهم ما فاتنا في التحليل، وإدارك الدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب الإقليم، وما الذي ينتظر السودان في مساره الغامض.

1. بوصفك باحثاً ذا خبرة في الشأن السوداني والإقليمي، هل فاجَأك اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023؟ هل شعرت أنها لحظة كان يمكن تفاديها؟
نعم، لقد باغتَتْني الحرب، لأنني أؤمن بوجود بدائل دائمة تمنع الانزلاق إلى العنف. ففي ذلك اليوم، كان الانطباع العام أن الأزمة تحت السيطرة. حمَلَتْ الاجتماعات السابقة مؤشراتٍ إيجابية، وارتفعت آمال السودانيين والمجتمع الدولي بانخفاض التوترات واستمرار المرحلة الانتقالية. صحيح أنّ انقلاب أكتوبر 2021 كان دليلاً على أزمة، لكن لم يكن مُتوقّعاً أن ينتهي إلى مواجهة مُسلَّحة. أما المُبرّرات المتعلقة بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، فإنها لم تكن كافية لإشعال حرب. ما أدهش المراقبين أنّ القتال استمر أياماً، ثم أسابيعَ، ثم شهوراً، والآن سنوات. كان الاعتقاد السائد أن الخلاف مُرتَبط بالقيادة فقط، وأنّ وجود الطرفين داخل الخرطوم سيُعجّل بإيقاف القتال، لكن ذلك لم يحدث. كما ظهرت روايات تتحدَّث عن دَور بعض الإسلاميين داخل الجيش وخارجه في إشعال الشرارة الأولى بمرَوي والخرطوم. غير أن هذا يبقى من مهام المؤرّخين: جمع الشهادات، والتحقُّق من صدقية هذه الروايات، وما إذا كانت تفسيراً حقيقياً أم مجرد سردية جديدة لتبرير الصراع.

2. بالنّظر إلى صراعات أخرى مثلما هي الحال في الصومال، هل وُجدت مؤشرات مُبكِّرة على أن النزاع سيطول؟ ومن طريقة اندلاع الحرب وطبيعة قيادتها هل يمكن الاستنتاج بأنها لن تُحلّ سريعاً؟
نعم، كان واضحاً أنّ المرحلة الانتقالية تعثّرت بسبب انقلاب أكتوبر 2021، لكنّ هذا الانقلاب نفسه جاء نتيجةً لفشل أسبق. وهنا نحتاج إلى نقاش جادّ: ماذا جرى فعلياً بين أغسطس 2019 وأكتوبر 2021؟ هل مثّلت الفترة الانتقالية فرصةً حقيقيةً لإعادة بناء الدولة أم عانت مساراً مسدوداً منذ البداية؟ يرى كثيرون في الانقلاب محاولةً أخيرة من الجيش والدعم السريع لمنع قيام نظام ديمقراطي، غير أنني أراه تفسيراً مُتسرِّعاً يستوجب تفكيراً أعمق. جذور الأزمة طويلة، ولا ترتبط فقط بأشخاص مثل حميدتي أو البرهان، بل بتاريخ الدولة السودانية وكيفية دمج الريف في بنيتها المركزية ومعالجة خلل السياسات المُتّبعة منذ الاستقلال. علينا التوقّف عند لحظات فارقة مثل تجربة نميري عام 1971، حين حاول بعض الإداريين الحداثيين تغيير قواعد اللعبة في الريف وفشلوا، ومع كلّ فشل لم تُطرح الأسئلة الضرورية: لماذا أخفقنا؟ فرغم وضوح أهداف التحديث والانفتاح ومنح الناس مساحة للتعبير، لم يتحقَّق النجاح. وكذلك الحال في أزمة دارفور 1987 قبيل انقلاب 1989. وفي العقد الأول من الألفية، طغى انفصال الجنوب والأزمة الاقتصادية على المشهد، بينما عاش الناس على أمل أن يحدث تغيير تلقائي، وهو وهمٌ غذّاه نظام الإنقاذ طويلاً، لكن الانتظار وحده لا يصنع تحوُّلاً.

هنا نصل إلى مسألة جديرة بالتأمل الأكاديمي: كيف تحوّلت احتجاجات أواخر 2018 إلى إحدى أكثر الحركات السياسية وعياً وطالبت بإسقاط نظام البشير؟ هل كان ذلك تطوّراً طبيعياً، أم أن جهاتٍ ما ساعدت في تحويل المطالب المعيشية إلى دعوات لتغيير النظام؟ هذا سؤال محوريّ يكشف تحوّلاً في نمط الحراك. فقد بدأ في مدن متوسّطة وانتقل إلى العاصمة، ثم استقرّ في الخرطوم على حساب بقية المناطق، وهو نمط مُتكرِّر في تاريخ السودان مع بعض الاستثناءات. أرى أن ذلك يُبرز خطأً جوهرياً ارتكبته الحكومة الانتقالية، حين تجاهلت الريف وركّزت على المدن، وخاصة العاصمة. من منظور البقاء، قد يقول البعض إن حماية العاصمة تعني حماية الدولة، كما حدث في الصومال والكونغو الديمقراطية، لكنّ الانتقال الناجح يتطلَّب إشراك الأقاليم والتعامل مع أزماتها. سكّان الريف جزء أساسي من النظام، وقد دفعوا ثمناً باهظاً في عهد الإنقاذ، بينما لم يحصلوا من النظام الجديد على شيء. أرى أنّ الاكتفاء بحظر حزب المؤتمر الوطني، والاعتقاد بأنّ الشعب كله يقف خلف الحكومة الجديدة، كان خطأً فادحاً. لا أقول إن ما نشهده اليوم هو انتفاضة من الريف ضد المدن، لكن لو وُجدت إرادة حقيقية للتواصل مع تلك المجتمعات، لكان مسار الصراع بين الجيش والدعم السريع مُختَلفاً تماماً.

3. في لحظة 2019 الانتقالية، لم يكن واضحاً الهدف الاستراتيجي للنظام الجديد ولا ملامحه. شعر الجميع بالارتباك، لذا من المفيد النظر في تجارب الأمم الأخرى. لماذا نجحت بعض التجارب في الانتقال السياسي بينما فشلت أخرى منذ البداية؟
عند مقارنة تحوّلات السودان في أعوام 1964 و1985 و2019، نلحظ فروقاً كبيرة في قوة الأحزاب التقليدية. حتى الحزب الشيوعي، رغم عدم تصنيفه حزباً تقليدياً، كان آنذاك جزءاً محورياً من المشهد. أما في 2019، فقد كانت القوى السياسية داخل الحكومة الانتقالية تَعيش حالةً من الاحتواء المُتبادَل؛ احتواء ذاتي جماعي لم تُدركه هي نفسها، وكانت شعبيتها غامضة بالنسبة لها وللشعب. فإذا كنتَ مُواطناً في الفاشر مثلاً ستسأل: من هم هؤلاء القادة؟ ولماذا أثق بهم؟ حتى في الخرطوم كان كثير منهم من المهجر، وأسماؤهم مألوفة فقط بحكم انتمائهم لعائلات بارزة في الثمانينيات. لم يعرِف الشعب ماذا يمثّلون، ولا ما هي توجّهاتهم، هل هم شيوعيون؟ مستقلون؟ أم يعملون لمصلحة جهات خارجية؟ كان يُفترض أن يُخصَّص وقتٌ كافٍ لتوضيح الصورة للمواطنين، وضمان أن تكون فترة الغموض قصيرة، لكن ذلك لم يحدث بفعل اتفاق جوبا وعوامل أخرى طال أمدها أكثر من اللازم.

ومن هنا أرى أنّ على المدنيين استخلاص درس بالغ الأهمية: إذا لم تكن مُستعدَّاً لتحمُّل المسؤولية أمام الشعب، فإنّ الجيش سيتولَّى زمام الأمور. أقول هذا بصفتي مدنياً مُدرِكاً أنني سأكسب أعداء بهذا القول، لكن الحقيقة أن المدنيين كانوا يُكثِرون من انتقاد حلفائهم العسكريين رغم أنّ وجودهم في السلطة كان بفضلهم. أن تعلن أنك مدنيّ تطمح لنظام ديمقراطيّ أمر، لكن أن تكون جزءاً من سلطة انتقالية يُهيمن عليها الجيش والدعم السريع أمر مختلف. ولإبعادهم من المشهد، كان يجب التعامل معهم كزملاء في القارب ذاته وكخصوم سياسيين في آن واحد، لا أن تُوجَّه إليهم الإهانات. ذلك الموقف المُتعجْرِف وغير البنّاء أسهم في انهيار الشراكة، وكان انقلاب أكتوبر 2021 النتيجة الطبيعية له. غياب الانضباط السياسي لدى بعض المدنيين كان إشارة واضحة لغياب القيادة الحقيقية، وأنّ السفينة كانت تتجه نحو مسارٍ مشكوك فيه.

4. إذا حاولنا تحليل الوضع في 2019، كانت للنظام الحاكم آنذاك عدة أذرع: الجيش، قوات الدعم السريع، جهاز الأمن، وحزب المؤتمر الوطني. هل كان التحالف مع الجيش خياراً يَتماشى مع بناء نظام ديمقراطي؟
من السهل دائماً أن نُلقي اللوم على المدنيّين، لكن الأجدى هو دفعهم للتفكير في أخطائهم لا لتبرئة الجيش أو الدفاع عن الدعم السريع. أنا أؤمن بأن السودان يستحقُّ نظاماً مدنياً ديمقراطياً، غير أن ذلك لا يجعل جميع السياسيين المدنيين على صواب. شخصيّاً رأيت أن دَور الجيش كان مهماً كمؤسسة، لكن ليس كقوة عسكرية فعّالة. وهذا ما ظهر جلياً مع اندلاع الحرب؛ فقد اتضح أنّ الجيش عاجز عن خوض مواجهة حقيقية من دون مليشيات. أقصى ما يملكه هو القصف المدفعي، جمع المعلومات، والتلاعب بالقبائل عبر تسليح بعض السكّان ضد آخرين، وهو ما حدث بالفعل. هذه الممارسات تكشف عن مأزق كبير لأنها مرتبطة بتاريخ بناء الدولة السودانية نفسه. فمنذ عقود طويلة اتبعت السُّلطات نهج تسليح مجموعات محلية بدلاً من بناء جيش وطني، بدءاً من البريطانيين قبل الاستقلال، مروراً بميليشيات الجنوب في مواجهة الجيش الشعبي، وصولاً إلى الجنجويد وقوات الدعم السريع. هذه الحلقة المُفرَغة لا يمكن أن تستمرّ، لأنها تُبقي جزءاً من المجتمع في موقع الاستهداف الدائم. كيف يُعقل أن يُقبَل بذلك بعد 2019.

ما أثار غضبي تحديداً هو غياب القوى المدنية عن النقاشات حول دمج الجيش والدعم السريع. ففي أي دولة طبيعية يُعدُّ الجيش مؤسّسة وطنية يُناقَش أمرها من قِبل القوى السياسية، لا أن يُترك القرار للضباط وحدهم بحجة أنه «موضوع فني». هذا تخلٍّ خطير عن المسؤولية. لم تحضر القوى المدنية الورش المتعلقة بالإصلاح الأمني، وكأنّ الجيش ليس جزءاً من المجتمع الذي يفترض أنهم يمثلونه. في تجارب سابقة كان للأحزاب وجود داخل المؤسسة العسكرية نفسها؛ الحزب الشيوعي في 1969 والإسلاميون في 1989. أما بعد 2019، فقد غابت القوى السياسية تماماً، ما جعل النقاشات تدور بمعزل عنها. لذلك، أرى أنّ أحد أبرز مؤشّرات ضعف المدنيين كان غيابهم عن هذا الملف الحيوي، بينما انشغلوا بملفّات ثانوية مثل التفاوض مع المانحين أو خفض الديون. لكن أي انتقال حقيقي لا يمكن أن يتجاهل شكل المؤسسة العسكرية ودَورها.

5. يُبرِّر المدنيّون بأنهم ورثوا مشكلات بالغة التعقيد من النظام السابق. هل تراها حُجَّة مُقنعة؟
لا أنكر أن المدنيين ورثوا تركة ثقيلة، لكن هذا لا يُبرِّر فشلهم. كان لديهم القدرة على إحداث تغيير، لكنهم افتقروا إلى المعلومات والخبرة التاريخية الكافية. لم يشاركوا من قَبل في بناء مؤسسة عسكرية وطنية، ولهذا بدوا عاجزين عن التعامل مع القضايا الجوهرية. ومع مرور الوقت ازدادت التعقيدات حتى صار اتخاذ القرار الصحيح أصعب. المشكلة أنهم عوّلوا كثيراً على المجتمع الدولي، مُعتقدين أن الغرب سيكون الحليف الذي يقودهم لعبور المرحلة الانتقالية. بالفعل شارك البريطانيون والأمريكيون وغيرهم في ورش إصلاح القطاع الأمني، لكنهم لم يفعلوا شيئاً ملموساً لأن القيادة السودانية لم تكن تملك رؤية أو خطة واضحة للخروج من المأزق.

لا أريد الانخراط في لعبة اللوم تجاه الغرب أو الخليج، رغم وجود أسباب وجيهة لذلك، لأنّ القضية الأساسية تبقى سودانية. كسوداني، عليك أن تسأل نفسك: ما مسؤوليتي كسياسي؟ وما هو طموحي؟ الإصلاح لا يعني الاستماع فقط إلى الخارج، بل صياغة مشروع داخلي وتنفيذه. الاستعانة بالخبراء أمر ممكن، والمانحون سيدفعون التكاليف، لكن المطلوب أكثر من خبرة تقنية: المطلوب خيارات سياسية شجاعة. وهنا تكمن مسؤولية القوى المدنية التي فشلت في إدراك طبيعة المعضلة.

لقد شعرتُ بالمرارة لأنّ السودان كان يواجه قضية مألوفة وليست جديدة. في عام 1989، كنتُ في الخرطوم وقت الانقلاب، وكانت النقاشات مع المثقفين، ومع الصادق المهدي، تدور حول سؤال: هل هو انقلاب عسكري؟ أم انقلاب إسلامي؟ وكانت هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأنه أحدهما، وكان من المهم اتخاذ موقف واضح. في عام 2019، لم نكن أمام هذا النوع من المعضلات. مسألة كيفية تغيير الجيش، وكيف أصبح منخرطاً في المجال الاقتصادي، كانت معلومة معروفة للجميع، ليس فقط للمانحين، بل حتى للصحفيين، وللجمهور السوداني نفسه. كان الجميع يتحدّثون عن البنوك الإسلامية، وكانت هناك العديد من المنشورات، بالعربية والإنجليزية، تتناول كيف أعاد الجيش تشكيل نفسه تحت هذا النظام. أما قوات الدعم السريع فلم تكن مجهولة، فقد كُتِبَ عنها كثيراً في الصحافة الدولية بسبب دَورها في اليمن وليبيا. ومع ذلك لم يَطرح السياسيون تصوّراً واضحاً للتعامل مع هذه التحديات. الجهل هنا غير مقبول: قد أعذر جهلي أنا كمراقب خارجي، لكن لا أعذر جهل سياسيين يطمحون لحكم بلادهم. لقد كان عليهم القيام بواجبهم، لا الاكتفاء بالانتظار بينما تتسارع الأحداث. من أغسطس 2019 إلى أغسطس 2021، كم من الوقت تحتاج لتتخذ قرارك؟ سنوات؟ عقود؟ قرون؟ عليك أن تُخبرنا، لأننا حينها لن نُصوِّت لك.

6. في سياق بناء الدول بعد النزاعات أو الحروب الأهلية الطويلة، نجح بعضها في التحوّل إلى نماذج مختلفة، ليست بالضرورة خالية من الفساد أو ديمقراطية بالكامل، لكنها وصلت إلى نقطة يمكن فيها بدء التقدُّم والتنمية. لكنّ تدخّل الجيش يعيدنا إلى سؤال آخر، ففي أفريقيا أو في دول أخرى خرجت من حقبة الاستعمار البريطاني، ما هو التحوّل الحاسم الذي يجعل تدخّل الجيش جزءاً من العملية السياسية، بدلاً من أن يكتفي بالاستيلاء على السلطة؟
هذا سؤال جوهري. وأود أن أوضح أن انتقادي للنخب السياسية الجديدة ليس لإدانتهم، بل لتحفيز النقاش. ما نشهده اليوم، ليس في إفريقيا فقط، بل أيضاً في أوروبا والولايات المتحدة: إن الديمقراطية لم تعد تُحقِّق النتائج المرجوّة. يجب أن نُدرك أنّ الديمقراطية ليست حالة مستقرة، بل عملية هشّة تتطلّب صيانةً دائمة، حتى في الدول التي تُوصف بأنها ذات مؤسسات ديمقراطية عريقة. السؤال دائماً: من هم الرابحون ومن هم الخاسرون؟

عندما ننظر إلى مالي والنيجر وبوركينا فاسو، نجد أن الانقلابات الثلاثة مختلفة في أسلوبها. في مالي كان الانقلاب الأول ذا طابع مدني أكثر منه عسكرياً، أما في النيجر فقد استولى قائد الحرس الرئاسي على السلطة بأسلوب تقليدي قديم. لكن ما يثير الانتباه هو: لماذا دعم كثيرٌ من المواطنين هذه الانقلابات رغم أنهم لا يهتمون بالجيش أو بأحزابه؟ الجواب أن الديمقراطية بدت لهم مُكلفة ومُعقّدة، بينما بدا الحكم العسكري خياراً أسرع وأقلّ كلفة.

وهذا يعيدنا إلى سؤال حسّاس في السودان: ماذا عن قاعدة المؤتمر الوطني الشعبية؟ قد تحظر الحزب، لكن ماذا عن جماهيره؟ هل يُمنعون من التعبير عن آرائهم أو من تأسيس قيادات جديدة؟ إنّ تجاهل هذه القاعدة يُهدِّد أيَّ مشروع ديمقراطي. الديمقراطية صعبة البناء، وقد يُفضِّل الناس خيارات بديلة إذا رأوا أنها أكثر استقراراً أو أقل كلفة؛ لذا يرفع العسكريون شعار «نحن نبني السيادة من جديد». في السودان يزداد الأمر صعوبة بسبب التدخّل الواسع للقوى الأجنبية في الحرب، لكن الدرس واحد: لا بدّ من تقديم إجابات سياسية حقيقية لهذه المُعضلات، وإلا فإن الفراغ سيملؤه الجيش أو قوى أخرى.

7. في الآونة الأخيرة التقيتُ شخصاً من الفاشر من قبيلة الزغاوة، كان يُدافع عن مدينته في الخطوط الأمامية. قال إنّ القائد الذي يُهاجم المدينة من قوات الدعم السريع هو ابن عمِّه من نفس القبيلة والعائلة. هل يعكس ذلك أنّ الصراع قد تغيَّر جذرياً، ولم يعد محض مواجهة بين جنرالَيْن كما بدا في 2023؟ كيف ترى ذلك الآن، خاصة في ظلّ غياب أي مؤشرات على إيقاف إطلاق النار أو مفاوضات قريبة؟
تشكّلت قوات الدعم السريع بفضل وجود عددٍ كبيرٍ من ضبّاط الجيش داخلها، وظلّ الأمر كذلك حتى قبل اندلاع الحرب بأيّام، رغم الموارد الضخمة التي ضخّها حميدتي. لكن مع بدء القتال، غادر معظم الضباط وعادوا إلى الجيش، فاضطرّت قوات الدعم السريع إلى خوض الحرب بطُرق مُكلفة، تعتمد على المشاة والقتال المباشر، وهو ما لا يُجيده الجيش بالكفاءة نفسها. وقد خسرت الدعم السريع أعداداً كبيرة من المقاتلين، بينما اتبع الجيش سياسة استهداف القادة بالقصف أو عبر القناصة، ما أدَّى إلى سقوط عددٍ كبيرٍ منهم خلال سنتين ونصف من الحرب. وبهذا ضعفت سلسلة القيادة داخل الدعم السريع وأصبح التجنيد أكثر صعوبة.

اليوم تحوّلت هذه القوة من جيش شبه نظامي إلى اتحاد فضفاض من الجماعات المُسلّحة. أقول اتحاداً لا كونفدرالية، لأنّ حميدتي لا يزال هو الوحيد القادر على توفير السلاح والذخيرة والوقود، وبالتالي يحتفظ ببعض النفوذ على القيادات المحلية والأهلية. لكن القيادة المركزية أضعف كثيراً، والسيطرة على الأرض أقل إحكاماً، ونرى ذلك بوضوح في الميدان. حميدتي معروف بمرونته وقدرته على المصالحة، لكنه أيضاً أسير لقواته بقدر ما يظنّ أنه يسيطر عليها.

من جهة أخرى، برزت قضية المساعدات الإنسانية. الدعم السريع أنشأت نظاماً خاصاً للتصاريح، وعلى الرغم من بساطته مقارنة بالحكومة، فإن المليشيات المحلية لا تكترث به، ما يضطر القوافل والمنظّمات للتفاوض مراراً بتكلفة إضافية. أما الحكومة، فما زالت لديها سلسلة قيادة أوضح، لكنها أيضاً سمحت بظهور مليشيات جديدة في ود مدني والخرطوم وغيرها، ما أضعف قبضتها.

نتيجة لهذه التحوّلات، فإن الحرب التي بدأت سياسيّة في الخرطوم تحوّلت منذ أكثر من سنة إلى حرب أهلية ذات طابع قبَلي. في دارفور يشعر الزغاوة بأنهم مستهدفون من العرب، بينما يرى العرب أنهم أيضاً ضحايا. بلغ الاستقطاب درجة خطيرة، وعلى الباحثين تفكيك السرديات لمعرفة ما هو حقيقي وما هو دعاية. لذلك يجب مراقبة تشاد عن قرب، فالزغاوة هناك يُتابعون ما يجري في دارفور، وقد يُؤثّر تضامنهم مع أقاربهم على استقرار تشاد في الحاضر أو المستقبل.

8. هذا يقودنا إلى سؤال عن تشاد. عند اندلاع الحرب في السودان، توقّع كثيرون أن تكون تشاد أقرب إلى الزغاوة منها إلى العرب أو الدعم السريع. كيف تبدو ديناميكيات الصراع هناك؟ وماذا عن مستقبل محمد كاكا في السّلطة؟
قُتل الرئيس إدريس ديبي في أبريل 2021، فانتقل الحكم إلى ابنه محمد المعروف بـ«كاكا»، الذي تولّى قيادة المرحلة الانتقالية ثم انتُخب رئيساً في مايو 2024. بخلاف والده الذي استند إلى دعم قويّ من الزغاوة السودانيين عام 1990 للوصول إلى السلطة، حاول كاكا إعادة التوازن داخل المجتمع بالتركيز على الزغاوة التشاديين وعلى قبيلة والدته «القرعان». هذه السياسة وسَّعت الفجوة بين دارفور والساحة التشادية، إذ شعر كثيرٌ من الزغاوة السودانيين الذين استقروا في تشاد منذ التسعينيات بأنهم لم يعودوا في موقع النفوذ ذاته.

اعتمد محمد كاكا أيضاً على دعم مالي كبير من الإمارات، استخدمه لإعادة شراء ولاء شخصيات نافذة، وللسماح لآخرين بالخروج إلى المنفى ومعهم ما يكفي من المال، ما خفَّفَ من حدّة التناقضات الداخلية. ومع ذلك لا تزال التوترات قائمة. فبعض فروع الزغاوة مثل «الكوبي» تُعاني شعوراً بالاغتراب؛ فهي تُهمَّش في تشاد لأن أفرادها يُنظر إليهم على أنهم سودانيون، وفي دارفور تميل موازين القوى إلى مجموعات أخرى أكثر نفوذاً. هذا الواقع يخلق إحساساً بعدم الرضا قد يتحوّل إلى أزمة في أي وقت.

إلى الآن، ساهم المال الإماراتي، وتراجُع دَور تشاد مركزاً لوجستياً للدعم السريع في الأشهر الأخيرة، في تأجيل الانفجار الداخلي. لكن تظلّ هشاشة الوضع قائمة، وتكفي شرارة واحدة من دارفور أو من الداخل التشادي لإعادة خلط الأوراق السياسية، وهو ما قد يُهدِّد مستقبل كاكا نفسه.

9. هناك تصور شائع أنّ الإسلاميين هم من يقودون الحرب في السودان. هل تراهم قادرين على العودة إلى السّلطة وأداء دَور في المستقبل؟ وهل يمثلون تهديداً للعملية الديمقراطية؟ وهل تعلّم الإسلاميون من تجربتهم؟
الإسلاميون اليوم ليسوا تنظيماً واحداً بل طيف واسع، رغم أن علي كرتي ومجموعته الأكثر نفوذاً، لكن لا ينبغي مساواة الجيش بالإسلاميين. فالبرهان ليس إسلامياً، وياسر العطا أبعد من ذلك، وحتى كباشي في نهاية الأمر سيختار هويته العسكرية قبل الأيديولوجية. نعم، للإسلاميين نفوذ داخل الجيش، لكن بعضهم شارك أيضاً في التظاهرات ضد البشير، ما يُوضّح أنهم ليسوا كتلة واحدة. علينا التمييز بين من يسعى للحفاظ على امتيازاته الاقتصادية، وبين من لا يزال يؤمن بمشروع سياسي أيديولوجي.

أرى بعض القوى المدنية ترفض أيّ انخراط مع الإسلاميين بدعوى أنهم بارعون في التلاعب، لكن أقول إنّ الانخراط لا يعني بالضرورة التفاوض. تدفع الإمارات مثلاً نحو انتقال مدني بلا جيش ولا دعم سريع، والسعودية لن تعارض، بينما مصر وحدها ستقف ضد ذلك بسبب نظامها العسكري وروابط جيشها التاريخية مع الجيش السوداني. أما قطر وتركيا فقد لا تمانعان لأنّ تسلُّم المدنيين للسلطة قد يعني ضمناً عودة الإسلاميين. المسألة إذن قرار سوداني خالص: ما هي الشروط التي تسمح بإعادة إدماج بعض الإسلاميين في حوار وطني؟

يجب تذكّر أن نظام البشير في 2019 لم يكن مثلما كان عليه في 1999، والإسلاميون مرّوا بتجارب عديدة؛ فبعضهم ما زال مرتبطاً بأفكار سلطوية، لكن كثيرين غيّروا مواقفهم. مثال ذلك إبراهيم غندور الذي لا يُصنّف ضمن التيار المتشدد. وأعتقد أن التنظيمات قادرة على التعلّم والتطور، لكن السؤال الأهم لا يخصّ الإسلاميين وحدهم، بل قدرة القوى المدنية نفسها على مواجهة الانقسامات الداخلية وإقناع المواطن السوداني بأنها قادرة على بناء نظام جديد. هذا ما فشل فيه حمدوك لأنه انطلق من موقع ضعف.

10. إذا انعدمت الثقة بين السياسيِّين، فهل يُمكن بناء نظام يستند إلى المؤسّسات بدلاً من الأشخاص؟
اليوم يُنظر إلى الإسلاميين بوصفهم قوةً تسعى للعودة إلى السيطرة مُنفردة، من دون شراكة مع الآخرين. وهذا يتعارض مع أهمّ درس من ثلاثين سنة من الاستبداد: لا بدّ من تعلّم تقاسم السلطة في إطار نظام تنافسي حقيقي. في الصومال مثلاً، ورغم الثمن الباهظ للحرب، ما زالت هناك حرية للتنظيم السياسي. حتى الجماعات السلفية التي ساعدت حركة الشباب، مثل تنظيم «الاعتصام»، يُذكّرها الناس دوماً بماضيها، ويُجبرونها على مواجهة مسؤوليتها.

السؤال المطروح أمام القوى السياسية السودانية هو: هل أنتم قادرون على القيام بالمثل؟ هل أنتم أقوياء بما يكفي لتذكير الإسلاميين بما ارتكبوه، ثمّ إشراكهم ضمن قواعد لعبة واحدة للجميع؟ في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية كان الشعار واضحاً: ليس لأنك كنت جزءاً من جهاز الاستخبارات في العهد الشيوعي يحقّ لك أن تحكمنا من جديد. عليك أن تُثبت أنك انتقلت إلى زمن جديد. وهذا بالضبط ما يحتاج إليه السودان اليوم: بناء دولة يشترك فيها الجميع، لكن وفق قواعد مختلفة عن الماضي، قائمة على المؤسّسات لا على الولاءات الشخصية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى