تقارير

عادل الباز يكتب: حكايتي مع حمدنا الله (6)

في ما أرى

1
تكاد حكاياتي مع أستاذي حمدنا الله لا تنفد، ولذا اخترت في هذه الحلقات طرفاً منها لأستعيد زمناً مترعاً بالمحبة والثقافة التي ظللنا نتلقاها كفاحاً من علم وتحليلات البروف حمدنا الله، والتي استمتعنا بها طيلة ربع قرن. لعلي هنا في هذه الحلقة أشير إلى لقاءات تعمّقت فيها معرفتي بشخصيات كنا نقرأ آثارها في كتابات الكتاب والمؤرخين، فلا نقرأ سوى في جوانب محدودة من تاريخهم وانتاجهم.

كنت أحد كتاب صحيفة الملتقى، التي أسسها صديقى الأستاذ عبد المنعم قطبي، رحمة الله عليه، وكنت دائماً أبحث عن صيد ثمين أمد به المجلة كل أسبوع، في ذلك اليوم التقيت ببروف حمدنا الله في بيت الثقافة الذي كنت أشغل منصب مديره العام، فقال لي هل تعرف ناصح أمين.. قلت لا؟ أعرف أن هناك شخصية تاريخية اشتهرت بكتابة منشورات يختمها بهذا الاسم (ناصح أمين) ولكن من هو لا أعرف. لم يلبث من ساعتها أن قادني إلى منزل ببري، وحين توقفت العربة قال لي هذا منزل محي الدين جمال أبوسيف، أحد مؤسسي جمعية الإتحاد السوداني، أول تنظيم سياسي عرفه السودانيون وهو التنظيم الذي ناهض الاستعمار الإنجليزي باكراً واستنهض السودانيين لمقاومته ودعاهم لنبذ الطائفية والعنصرية لتحقيق هدفهم الأسمى وهو تحرير بلادهم.
أسس هذا التنظيم إبراهيم بدري وسليمان كشة وتوفيق صالح جبريل وعبيد حاج الأمين وكان من بينهم محي الدين جمال أبوسيف، الذي ظلمه التاريخ السوداني ظلماً كبيراً وكان من أبرزقادة جمعية الاتحاد السواني إلا أن سيرته ظلت مجهولة لدى السودانيين، لأنه كان ذاتاً متجردةً و هو كاتب المنشورات السرية التي أقلقت الإنجليز فطاردته سلطات الإحتلال وسجنته وصادرت كل نشاطات جمعية الإتحاد. السبب الذي جعل أبو سيف الأقل شهرة بين قادة جمعية الإتحاد السوداني هو تفانيه في خدمة العمل الوطني في صمت. كل المنشورات التي كانت تصدر بإسم ناصح أمين، هو من كتبها ووزعها بنفسه وهي المنشورات التي انتشرت بطول البلاد وعرضها وسببت صداعاً دائماً للإنجليز. عرفت بعد ذلك أن حمدنا الله ظل يطارد الحكاية لمعرفة من هو كاتب منشورات
(ناصح أمين) ولم يتوقف حتى عرف اسمه وأسرته ومكان سكنه، وها نحن الآن أمام منزله ببري بالقرب من سوق (4)، وكان ذلك فى أواخر تسعينيات القرن الماضى. طلب مني حمدنا الله إجراء حوار مع محي الدين جمال أبو سيف. وبالفعل قمت بإجراء ذلك الحوار ونشرته في مجلة (الملتقى) وكان حواراً صعبا، إذ رفض محي الدين الإدلاء بأي حوار طيلة حياته التي امتدت إلى نحو تسعين عاماً، وبعد أسابيع من التحنيس ووساطة أولاده، وأحفاده ظفرت بذلك الحوار الذي كشف فيه لأول مرة علناً عن شخصيته، واعترف أنه كاتب منشوارت جمعية الإتحاد السوداني صاحب الامضاء الشهير (ناصح أمين). كانت تلك هي إحدى الأيادي البيضاء التي مدّها حمدنا الله لتاريخ السودان.كانت كتب التاريخ إذ ذكرت تلك المنشورات التي أحيت المقاومة في نفوس السودانيين يذكرون (ناصح أمين) ولم يهتم أحد بمن هو ذلك (الناصح الأمين). رحم الله محي الدين جمال أبو سيف الذي توفي بعد حواري معه بأسبوعين وجعل ما أسداه للسودانيين من خدمات جليلة في سبيل تحررهم في ميزان حسناته.نواصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى