سيكلوجيا التوثيق في زمن الدم حين تتحوّل الكاميرا إلى شريكٍ في الجريمة

عبدالعزيز يعقوب- فلادليفيا
في وجوه الحروب مرايا كثيرة، تعكس الدم أحيانًا، وتكشف سقوط الإنسان في ذاته أحيانًا أخرى. وفي مرآة الحرب السودانية، لم تكن الرصاصة وحدها أداة الموت، بل الكاميرا أيضًا؛ عدسةٌ باردة التقطت لحظات العنف وهي تبتسم، كأنها تحتفل بانطفاء الحياة.
حين رفع أفراد مليشيا الدعم السريع المتمرّدة هواتفهم لتصوير القتل والتعذيب، لم يكونوا يوثّقون الحقيقة، بل كانوا يوثّقون سقوطهم في قاعها. أرادوا أن يُظهروا أنفسهم أقوياء، فانكشفوا عُراة أمام التاريخ والضمير.
في علم النفس الحربي، لا يُعدّ التوثيق فعلًا عشوائيًا، بل يُفسَّر كآلية دفاعية معقّدة. فالتصوير يمنح الجاني وهم السيطرة على الواقع، ويُعيد إليه شعورًا زائفًا بالقوة بعد أن سلبته الحرب إنسانيته.
وفقًا لتحليل “ميكانيزمات الدفاع” في علم النفس التحليلي، يمارس الجاني العقلنة (Rationalization) حين يبرّر فعله بأنه واجب أو انتقام مشروع، ويمارس الإزاحة (Displacement) حين يفرّغ عدوانه على الأضعف منه: نساءً، وأطفالًا، ورجالًا عُزّل. كما يلجأ إلى الإنكار (Denial) لتجنّب مواجهة فظاعة ما ارتكب.
أما فعل التصوير نفسه، فهو تعبير عن نرجسية عدوانية، يتلذذ فيها المجرم برؤية ذاته في موقع القوة المطلقة، حتى وهو يغرق في اللامعنى ويسقط في هاوية الخوف والفراغ.
ومن منظورٍ اجتماعيٍّ نفسي، يوثّق أفراد الجماعات المسلّحة جرائمهم بدافع الولاء للجماعة او الرغبة في الانتماء إليها. فالتوثيق يصبح طقسًا رمزيًا لإثبات الانخراط في “القطيع”، وإعلان الطاعة المطلقة للقائد.
وهنا يتجلّى ما يسمّيه علماء النفس بـ “إلغاء الفردية” (Deindividuation)، أي ذوبان الشخصية الفردية في جماعة تُلغى فيها المسؤولية والذنب، ويُصبح العنف سلوكًا مبرّرًا، بل مُحتفىً به. عندها تتحوّل الكاميرا إلى وسيلة توحِّد الجماعة حول فعل القتل، وتغرس قيم العنف في وجدانها.
لقد تجلّى هذا النمط بوضوح في سلوك مليشيا الدعم السريع. فالتوثيق عندهم لم يكن تسجيلًا عابرًا، بل جزءًا من بنية رمزية للعنف. كانت الصور تُنتج الرعب كما ينتجه السلاح، وتبني أسطورة القوة على أنقاض الأبرياء.
أرادوا من الكاميرا أن تكون شاهدًا على بطولتهم، فإذا بها تتحول إلى شاهدٍ ضدهم. أرادوها أداة لتخويف الآخرين، فإذا بها تُدينهم أمام الإنسانية كلها.
ومن منظور علم النفس الإجرامي، يعكس هذا السلوك حالة من التبلّد الانفعالي (Emotional Numbing)، حيث يفقد الجاني إحساسه الطبيعي بالتعاطف، ويصبح العنف عنده فعلًا آليًا لا يثير داخله أي توتر. وهكذا، يتحوّل القتل من جريمة إلى عادة، ومن استثناء إلى روتينٍ يومي. عندها، يصبح التصوير مجرّد تسجيلٍ لحظةٍ عادية، وسيلةً للتحصّن النفسي ضد الشعور بالذنب.
لكن العدسة التي أُريد بها ترهيب الآخر، لم تفعل سوى أن كشفت العدم في داخل الجاني. فالصورة التي أرادوها إثباتًا للقوة، صارت اعترافًا بالضعف. والصمت الذي أرادوه نسيانًا، صار ذاكرةً لا تُمحى.
لقد فضحته الكاميرا التي خانت ضميره، وأعلنت عن موت الإنسان فيه قبل موت ضحيته.
ومهما طال الليل، يبقى في الذاكرة نورٌ لا ينطفئ. فكل مقطع صُوّر ليُرهب، سيظل شاهدًا على الحقيقة. وكل وجهٍ بريءٍ سقط تحت عدسة الغدر، سيعود يومًا من متحف الذاكرة لا ليذكّر بالعنف، بل ليذكّر بأن الإنسان لا يُمحى بصورة او كليب قصير ، بل يُخلَّد بها.
وحين يُفتح سجلّ الذاكرة، ويُقرأ التاريخ بعين العدالة، سيعلم الذين وثّقوا القتل أنهم لم يُسكتوا الضمير، بل منحوه صوتًا. وأن الكاميرا التي ظنّوها أداة إذلال، كانت في جوهرها عين العدالة المؤجَّلة، تُبصر ما حاولوا طمسه.
وعندما تُستعاد تلك المشاهد في محاكم الوجدان، سيقف الضحايا في صمتٍ مهيب ليقولوا للعالم الذي فهم رسالتهم:
“لقد صوّروا موتنا، فليكن إذن بدايةً لحياةٍ أكثر عدلًا، وأكثر إنسانية يستحقها السودان وشعبه النبيل”.



