سودان ما بعد الحرب 3: إعادة إعمار التعليم
الصاوي يوسف
يتوقف تطور ونمو أي بلد على التعليم، قبل كل شئ. ويزداد دور التعليم أهميةً في ظلّ التطوّراتِ المتسارعةِ التي يشهدها العالم في مختلفِ المجالات، خاصةً المجالات التقنيةِ والعلمية. فهذه المجالات تشكل عصبَ الاقتصادِ الحديث، وتُؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على نموّ الأعمالِ وازدهارِها. فنهضة التعليم ضرورة لا غنى عنها، خاصةً في مجالِ التعليمِ التقنيِّ والعلمي. فمن خلالِه يمكننا تأهيلُ جيلٍ من الشبابِ المؤهّلِ والمبدع، القادرِ على مواكبةِ التطوّراتِ العالميةِ وقيادةِ مسيرةِ إعادة الإعمار والتنميةِ في بلادِنا.
ولإصلاح التعليمِ وتطويره نحتاج أولاً إلى عودة التلاميذ لمدارسهم واستئناف ما انقطع من العملية التعليمية، فالانتظام في الدراسة هو أهم المطلوبات، وذلك وفق مواقيت ومواعيد محددة مسبقاً ومعروفة وثابتة. وبجانب توفير المقر (الفصول الدراسية) والكتاب المدرسي والإجلاس وبقية المعينات والوسائل، فإن أهم عناصر التعليم هو المعلم المؤهل. فالمعلم هو أُس العملية كلها، ويستطيع المعلم المقتدر أن يقدم للتلاميذ تعليماً جيداً حتى دون وجود المباني والكتب والأدوات، كما هو الحال في أغلب مدارسنا في الأرياف ومدارس الرُّحَّل، التي يتلقى فيها التلاميذ حصصهم الدراسية في ظل شجرة أو تحت عريشة مفتوحة من القش والحطب! وتجد أيها القارئ الكريم حكايات مشوقة لهذه المدارس في كتاب حسن نجيلة “ذكرياتي في البادية”. والاهتمام بالمعلم يشمل اختياره عند التعيين، وفحص مؤهلاته ليس الأكاديمية فحسب بل الشخصية والنفسية ومواهبه الفطرية واستعداده وميوله، وتدريبه وتأهيله، ومتابعة تطوره المهني وتقييم مهاراته التي يكتسبها عبر الخبرة والممارسة والاحتكاك، والتدريب أثناء الخدمة.
وبعد المعلم نحتاج إلى مراجعة المناهج والمقررات والسلم التعليمي نفسه. ولا يهم كثيراً إذا كان السلم التعليمي هو 6-3-3 أو 4-4-4 أو 8-4 فالمهم هو عدد سنوات الدراسة وطول العام الدراسي. وليتنا نترك “الشفقة” التي جعلتنا في فترة من الفترات البلد الوحيد في العالم الذي سنوات التعليم فيه 11 فقط بدلاً من 12 أو أكثر. وليتنا، بعكس ذلك، نتعلم من دول أوروبا (ألمانيا وهولندا وبلجيكا مثلاً) التي لديها مرحلة أساس 8 سنوات، ثم مرحلة ثانوية متعددة الأطوال، فالثانوية “العامة” طولها 4 سنوات، وبها ينتهي التعليم الإلزامي، والطالب الذي يترك الدراسة بعد هذه المرحلة يمكنه إما دخول سوق العمل كعامل غير ماهر، وإما الالتحاق بالمعاهد الحرفية وكليات المجتمع، التي تؤهل الطلاب خلال عامين في مجالات مثل المباني والنجارة والحدادة والكهرباء والتبريد والتكييف وميكانيكا السيارات والسباكة ومسك الدفاتر (الكتبة) والسكرتارية وغيرها. أما الطالب الذي يواصل للسنة الخامسة، وتسمى الثانوي “العالي”، فهو يتأهل حينئذ للدخول للمعاهد العليا (المعاهد الفنية والتقنية) التي تؤهل المهندس التقني في مختلف مجالات الهندسة والإنشاءات والحاسوب، والمحاسبة والإدارة والأعمال، وهي تماثل معهد الكليات التكنولوجية سابقاً عندنا، وهي في ألمانيا وهولندا أكثر كثيراً من الجامعات، ويدخلها حوالي 35 إلى 40 في المائة من الطلاب، بينما يدخل الجامعات حوالي 5 إلى 10 في المائة فقط. ثم هناك المسار الأخير وهو الثانوي “العلمي” والذي يستمر إلى السنة السادسة، يتأهل بعدها الطلاب لدخول الجامعات لدراسة القانون والاقتصاد والهندسة والطب وغيرها. وهذا يماثل النظام البريطاني، حيث أن الشهادة العامة (GCSE-O-level) لا تؤهل للدخول للجامعات، ولابد من سنة إضافية في “الكلية” للحصول على ما يعرف بال (A-level) لمن يرغب في التنافس على القبول الجامعي.
وعندنا في السودان، ونسبة للنقص الكبير في المعلمين المؤهلين، خاصة في مجالات مهمة جداً مثل الرياضيات واللغة الانقليزية والعلوم، إضافة لنقص الكتب واضطراب العام الدراسي، فإننا بحاجة ملحة إلى زيادة سنوات الدراسة الثانوية، حتى يتحسن مستوى الطلاب عند تخرجهم منها، ويصبحوا أكثر تأهيلاً للدراسة العليا في الجامعات والمعاهد، وقد اشتكى أساتذة الجامعات كثيراً من تدني مستوى طلاب التعليم العام، ما يجعلهم يعانون كثيراً في سنوات الدراسة الجامعية، وكثيرٌ منهم لا يستطيع المواصلة رغم درجاته العالية في شهادة الثانوي.
أما المناهج فإنها تحتاج للتطوير والتنقيح والتعديل، ليس لحذف سورة الزلزلة كما كان يحاول بعض المتنطعين، وإنما لتواكب التطور العلمي في العالم، واحتياجات الطلاب في هذا العصر، سواء لإعدادهم للدراسة الجامعية أو لسوق العمل أو لحياتهم اليومية العادية، مثل استخدام مختلف صور الحاسوب (اللوح، الهاتف الذكي، والحاسب، والأجهزة الذكية والمكتبية الأخرى). ولذا فإن على خبراء التربية والمناهج العكوف في شكل لجان وورش عمل متخصصة، ووفقاً لموجهات كلية يتم التوافق عليها في مؤتمرات قومية، على تطوير مناهج التعليم، خاصة في مجالات الرياضيات والعلوم واللغة الانجليزية والتقنية والحاسوب، وهي المجالات التي ينبغي التركيز عليها بنسبةٍ كبيرة في كل المراحل ومنذ مستوى الروضة والمدارس الصغرى. كما يجب الاهتمام بالعلوم الإنسانية والمعارف الأساسية في مجالات الاقتصاد والإدارة وعلم الاجتماع، بجانب الفنون كالرسم والتصوير والموسيقى والمسرح والفيديو، حيث أن جميع الشباب الآن يستعملون هواتفهم للتصوير الفوتوغرافي والفيديو. ويجب الالتفات للتنوع اللغوي والبيئي، بحيث تسمح المناهج باستخدام اللغات المحلية في سنوات الدراسة الأولى، كما في تجربة إريتريا، التي تسمح باستخدام لغات قومياتها التسعة في سنوات الدراسة الأربعة الأولى، قبل الانتقال للدراسة بالتقرينية والانجليزية لبقية السنوات. ويمكن السماح ببعض التعديل والتحوير في المناهج على مستوى الإقليم أو الولاية، حتى تلائم البيئة واللغة والثقافة المحلية.
هناك العديد من التحديات التي ستواجه تطوير التعليم، فبجانب شح المال وقلة الموارد المتاحة للصرف على التعليم، خاصة في مجال الإنشاءات والمباني، وطباعة الكتاب، وتوفير الإجلاس، واستيعاب العدد الكافي من المعلمين المؤهلين، والصرف على تدريبهم، فإن من التحديات الكبيرة التي ستواجه العملية، هو عدم الاستقرار، حيث تسود عقلية الاحتجاج لدى القوى السياسية الصغيرة، والتي تلجأ لاستخدام الأطفال كسلاح في معركتها مع الدولة، فيقومون بالتوقف عن الدراسة والإضراب والاعتصام والتظاهر، وحرق الإطارات وإغلاق الطرق، وتكسير المدارس وضرب المعلمين، فتضطر السلطات إلى إغلاق المدارس وتتوقف الدراسة لفترات طويلة، خصماً من تقويم العام الدراسي، والمحدد بالمقررات والحصص والمواد الدراسية. ومن التحديات أيضاً استخدام القوى السياسية للمعلم كحصان طروادة لتحقيق أجنداتها في معارضة الدولة، واستغلال وسرقة واختطاف الجسم النقابي الكبير للمعلمين، وهم أكبر فئة من العاملين في الخدمة العامة، تحت مسميات وهمية مثل “لجنة المعلمين” وغيرها لتعلن الإضرابات الشاملة والممتدة ذات المطالب السياسية المستحيلة. ومن التحديات أيضاً التدخل السياسي في تحديد السلم التعليمي والمناهج والمقررات، والتي ينبغي إبعادها تماماً عن لعبة السياسة والصراعات العدمية، التي دمرت البلاد وعطلت النهضة والتنمية، وأوصلتنا إلى الحرب والاضطراب الشامل.
ونخلص في الختام إلى الخطوات المطلوبة لتحسين جودة التعليم العام وتطويره، أهمها عقد مؤتمر عاجل بمشاركة المختصين في مجالات التربية والتعليم، وعلماء الاجتماع والاقتصاد والقانون، وممثلي المجتمع من آباء وأمهات، ومعلمين وطلاب، ورجال الدين والإدارة، وقيادات العمل العام والمجتمع الأهلي، وذلك لوضع موجهات عامة حول تطوير التعليم، خاصة فيما يتعلق بالسلم التعليمي والمناهج، والأهداف الكلية للعملية التعليمية: وهي تخريج كادر قادر على التفكير المستقل الخلاق، وعلى ملء وظائف المستقبل في أي مكان في العالم. ووضع موجهات حول دور القطاعين العام والخاص في التعليم. ويلي ذلك تكوين اللجان المختصة لتطوير المناهج ووضع المقررات، ورسم خارطة طريق للنهضة بالتعليم، تشمل إعطاء الأولوية للمواد العلمية والرياضيات واللغة الانجليزية، ومناهج تدريب المعلم، بل شروط استيعابه في كلية التربية ثم في المهنة، والمقترح الأفضل هو تحديد حد أدنى للقبول بكليات التربية لا يقل عن 75 في المية، علماً أن مهنة المعلم أخطر بمراحل من مهنة الطب والهندسة التي نضع لها عادة حداً أدنى، ويزداد عليها التنافس. ويقتضي ذلك بالطبع جعل المهنة جاذبة ومخصصاتها من أعلى المخصصات في الخدمة العامة.
أما التعليم العالي، فبالرغم من أن الجامعات مؤسسات مستقلة تماماً بحكم قوانينها، إلا أننا نستطيع، عبر المجلس القومي للتعليم العالي، أو أي جسم تنسيقي آخر، أن نُحدث تحولاً مهماً مطلوباً، وهو التوجه نحو التعليم التقني والمهني، لتخريج كوادر ذات مستوى عالي من التأهيل، في مجالات مثل التمريض والمهن الطبية المساعدة الأخرى، والحاسوب والبرمجة، والهندسة بمختلف تخصصاتها، والتصميم، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والفيزياء والكيمياء، واللغات خاصة اللغة الإنجليزية، ومختلف التخصصات في العلوم والتقنية، وغيرها من مطلوبات أسواق العمل العالمية والمحلية، تلك التي تختصر ب (STEM).
ولنتذكر دوماً أن التعليم مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين الجميع، حكومةً ومجتمعاً وأفراداً. ولذا نحتاج إلى نشر الوعي بقيمة التعليم التقني والمهني والحرفي، وبمطلوبات سوق العمل المستقبلي، لتغيير قناعات بعض الأسر التي لا ترى في التعليم سوى الجامعة، ولا ترى في الجامعة سوى كلية الطب. والانتقال من عقلية “الفشخرة” والنظر إلى التعليم باعتباره شهادةً أو ورقةً مبروزة يعلقها الطالب في بيته، ثم يظل عاطلاً عن العمل لعدم ملاءمة تعليمه للسوق، وتغييرها إلى عقليةٍ عمليةٍ وبراغماتية، توجّه كل طالب للمساق الذي يناسب قدراته ورغباته وسوق العمل، وتركز على الانفتاح على العالم كله والتفاعل مع تطوراته ومطلوباته في هذا العصر سريع الإيقاع وسريع التغيير، وقد حوّل أبناء الفلبين العاملين في الخارج حوالي 34 ونصف مليار دولار لبلادهم في العام الماضي، بينما بلغت تحويلات المصريين حوالي 22 مليار، أما الهنود فقد حولوا لبلادهم 125 مليار دولار.