رأي

خيارات تجميد الأزمة الوطنية (1-2)

قرشي عوض

 

الحلول الدولية للازمات الوطنية التي تقدم لأطراف النزاع حين تصل الاوضاع الى حافة الهاوية ويشرف الجميع علي الهلاك قديمة في السياسة الخارجية الغربية خاصة الامريكية. لكنها في الآونة الاخيرة اصبحت علم تشرف عليه مراكز دراسات حولته في النهاية الي (بيزنس). مثل شركة المحاماة الامريكية التي اعدت ملف الترتيبات الامنية في نيفاشا؛ والاتفاق الإطاري بوساطة او سمسرة جنوب افريقية تردد فيها اسم سكرتيرة ثامبو امبيكي. كما ذكر ذلك في وقت سابق الاستاذ صالح محمود المحامي في لقاء بقناة الجزيرة وطلب من مصدر كبير في نقابة المحاميين ان يرد عليه ان كان يشاهد اللقاء في تلك اللحظة، ولكنه لم يرد او يصحح المعلومة لاحقا.   هذه الشركة قامت بأعمال السكرتارية لأحدي الحركات المسلحة في اتفاق جوبا. وذكر مصدر مأذون من داخل المفاوضات وفي لقاء بقناة سودانية ٢٤ بان اثنان من وفد الحكومة ومن المكون المدني كانا قد سافرا اثناء المفاوضات الي اديس ابابا وقابلا تلك الشركة ثم عادا الي جوبا ووافقا على خيار العساكر.

الخبرة الدولية في التعاطي مع ازمات الدول الخارجة من النزاعات تنطلق من ان هذه المجتمعات بدائية وان ازماتها متعاقة بأنظمتها الثقافية والمجتمعية المتخلفة وتنكر عليها انها قد اصبحت جزء من المدنية المعاصرة او انها ترتبط بالسوق العالمي. وذلك بهدف استبعاد المكون السياسي فيها من عملية التغيير. لأن تاريخ الحركة السياسية في تلك البلدان مرتبط بمقارعة الاستعمار الحديث وسياسات السوق الحر التي تسعى التدابير الدولية الحالية للحفاظ عليها. ولهذا السبب فأن هذه الخيارات لا تمكن تلك المجتمعات من تجاوز ازماتها المجتمعية لان الجهات التي تشرف عليها لا تعترف بطبيعة الازمة. وتعيد تعريفها بصورة تلحقها بالتخلف وصراع الحضارات. في حين ان تلك الازمات احوج ما تكون للحلول السياسية التي تنطلق من كون الشعوب مصدر السلطات وهي المالكة للموارد وللجغرافية. وليس احالتها الي مجرد كونها صاحبة مصلحة في التغيير بعد احالته الي مجرد عملية انتقال تعتمد على الخبراء الذين ينتمون او بعضهم الي تلك المراكز. وفي حكومة حمدوك تردد اسم وزير كبير تربطه صلات بشركة المحاماة الامريكية المشار اليها. واخر في مجلس السيادة مرتبط بمجلس الاطلنطي الذي لعب دورا في هندسة اتفاقية سلام الجنوب كما تم تداول صور التقطت لحمدوك نفسه داخل هذا المجلس.

تم التمهيد لهذا السيناريو بحملة كبيرة ضد المنظومات السياسية الوطنية التي ارتبط تاريخها بمكافحة الاستعمار الحديث والوقوف ضد مخططاته في المنطقة مثل المعونة الامريكية. ووصفت حركات التحرر الوطني والافكار المرتبطة بها مثل التخطيط الاقتصادي وتدخل الدولة واشرافها على العملية الاقتصادية بانها حكايات كبرى لأتقدم حلول ملموسة للازمات الاقتصادية في دول العالم الثالث وتم الترويج للأحزاب البرامجية والحكومات الوظيفية بعيدا عن الايديولوجيات حسب زعمهم. وظهرت افكار تدعم هذا الاتجاه تعود الي مدرسة ما بعد الحداثة واليسار الاجتماعي في أوربا وامريكا والتي تماهت كلها في نهاية المطاف مع اطروحات الليبرالية الجديدة التي تدافع عن اقتصاد السوق الحر واعادة هيكلة اقتصاديات الدول النامية بما يخدم المصالح الامريكية وسياستها الخارجية وبما يخلص تلك الدول من لوثة العداء لإسرائيل. فتصاعد تبعا لذلك دور التكنوقراط والخبراء وتراجع دور السياسيين. وتمت اعادة تعريف الازمة الوطنية باعتبارها ازمة ادارة تحتاج الي الطرق الحديثة والمبتكرة والبعيدة عن السياسة. او التجربة السياسية لتلك الدول لكونها تضع الدول الغربية ومؤسساتها المالية في دائرة الاتهام. في حين ان تلك المراكز والخبراء الذين يدورون في فلكها يعلمون جيدا ان السياسة في البلدان التي تدعو الي اعادة هيكلة الاقتصاد والسياسة بعيدا عن اهداف الدول الوطنية على أيدي الخبراء. يقودها سياسيون. وان القرارات فيها حتى وان كانت تعتمد في صناعتها على مراكز الخبرة الا انها تخضع لعملية اختيار سياسية تقوم بها منظمات سياسية. فالقرارات الامريكية إذا لم يجزها الكونغرس فان الادارة الأمريكية لا تستطيع تطبيقها. لكنهم ينطلقون من فرضية ان بلداننا حالة خاصة لا تنطبق عليها قوانين الاجتماع البشري في العالم المتقدم وهي فرضية تخصهم ولا تختلف عن مزاعم اسلافهم التي برروا بها استعمار بلداننا.

لكن هل حقيقة تستطيع الوصفات الدولية المقترحة للدول الخارجة من النزاعات او تلك التي تعيش في اتون الحروب من تجاوز ازماتها؟  قد تستطيع تلك الحلول ان توقف النزاعات موقتا لكن ازمة الحكم ستبقى كأكبر استثمار غربي في الدول التابعة ويتم تحريكها بين الفينة والاخرى لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. لان تجاوز ازمة الحكم ينتظر تغيير جذري في تلك المجتمعات يفرزه في اخر المطاف صراع ممتد في التاريخ بين قوى سياسية واجتماعية تدفع باتجاه التغيير واخرى تسعى لتجميد الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الحالة التي هي عليها. وهو صراع لن يحسم الا بانتصار كاسح للقوى الاجتماعية الديمقراطية وليس عبر التسوية التي في حالة نجاحها فإنها تعمل على اعادة انتاج النظم القديمة.

وإذا نظرنا الي حال السودان سنجد ان الضغوط الدولية الحالية تهدف الي خلق عملية انتقال سياسي مدني عبر التفاوض بين قوات مسلحة ينتظر منها ان توافق على تسليم السلطة للمدنيين وان لا تتدخل في مستقبل الحكم والقيادات المدنية تصدق ذلك. لأنهم خبراء لا سياسيون ويعولون على الضغوط الدولية علها تجبر الجنرالات علي ترك السلطة. لكن السؤال ماهي مصلحة المجتمع الدولي في ذلك واين حدث مثل هذا الانتقال السلس؟

الحكومة التي تتشكل عبر التفاوض ستكون بمشاركة أطراف الحرب والمدنيين وان السلطة الحقيقية ستكون في يد من يحملون السلاح، ولكن بصيغة ملتوية مثل تلك التي وردت في الاتفاق الإطاري الذي وضع السلطة في يد رئيس الوزراء بوصفه القائد العام للقوات النظامية لكنه اشترط عليه اخذ موافقة قادة الجيوش في اتخاذ القرار دون تحديد مما يعني جميع القرارات. فكيف يكون احتكار السلطة ان لم يكن هكذا. واعتقد ان الصيغة القادمة ستكون على هذه الشاكلة. وخطورة مثل هذه الترتيبات في كونها ستجعل السلطة المدنية وكل مؤسسات الدولة بما فيها القضاء شكلية. لان ادوات التنفيذ ستكون في يد قادة الجيوش. وان بعض هؤلاء القادة تحركهم اجندة خارجية اصبحت واضحة وهي ستفقد السودان سيادته الوطنية وتجعله ساحة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية مثل الصراع الماثل الان بين الامارات وإيران والذي ربما يجتذب إليه دول أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى