جيفري إبستين… عندما يتحول المال والسلطة إلى سم قاتل للمجتمع

بقلم: عبدالعزيز يعقوب
في دهاليز النفوذ السياسي والمال، تظهر قضية جيفري إبستين كقصةٍ مأساوية عن سقوط القيم، حيث تتشابك الجريمة مع السلطة، وتصبح الطفولة سلعة، والبراءة مفلسة أمام جشع النخبة. لم يكن إبستين مجرد ملياردير غامض، بل كان لاعبًا محوريًا في شبكة اتجار جنسي منظمة للقاصرات، محمية بعلاقات واسعة مع كبار السياسيين ورجال المال، ممتدة من القصور الفخمة إلى مقصورات الطائرات الخاصة، مرورًا بمكاتب القضاة والمسؤولين.
في عام 2005، تقدمت فتاة في الرابعة عشرة ببلاغ ضد إبستين لدى شرطة “بالم بيتش” في فلوريدا، متهمةً إياه بالاعتداء الجنسي خلال جلسة “تدليك” مدفوعة الأجر. وما إن بدأ التحقيق، حتى انكشفت شبكة متكاملة من الاستغلال، تستهدف الفتيات الفقيرات بوهم المال والشهرة والتعليم. ورغم وجود عشرات الضحايا، انتهت القضية بتسوية قضائية منحته حصانة شبه كاملة، وحكم بالسجن 18 شهرًا قضى منها 13 فقط، مع إذن بالخروج يوميًا للعمل، وهو ما جعل القانون يبدو عاجزًا أمام قوة المال والنفوذ.
في يوليو 2019، أعادت السلطات فتح القضية، واعتُقل إبستين فور عودته من باريس إلى مطار تيتربورو بنيوجيرسي، ووجهت إليه تهم إدارة شبكة اتجار جنسي عبر خطوط الولاية، واستغلال عشرات القاصرات بين عامي 2002 و2005. تم ضبط مواد مصورة وسجلات دقيقة بأسماء الضحايا والمبالغ المدفوعة، وتفاصيل “الزيارات” التي نظمها لضيوفه في منازله الفاخرة بنيويورك وفلوريدا. كما تم تتبع طائرته الخاصة، المعروفة إعلاميًا بـ”لوليتا إكسبريس”، التي نقلت شخصيات بارزة إلى جزيرته في الكاريبي، حيث ارتُكبت بحسب شهادات الضحايا ممارسات جنسية غير قانونية.
في 10 أغسطس 2019، عُثر على إبستين ميتًا في زنزانته بمركز الاحتجاز الفيدرالي في نيويورك. الرواية الرسمية قالت إنه انتحر، لكن الغموض كان سيد المشهد: تعطلت كاميرات المراقبة، غاب الحراس، وتلفت سجلات المراقبة. التقرير الطبي أشار إلى أن كسور عنقه “تشير إلى احتمالية القتل أكثر من الانتحار”. اختفى الرجل الذي كان على وشك كشف شبكة عالمية تضم رجال سلطة ومال من كل الاتجاهات، تاركًا خلفه أسئلة أكبر من إجاباته.
أثارت القضية أسماء شخصيات نافذة، الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الذي سافر على متن طائرة إبستين أكثر من مرة، وقد استُدعي للإدلاء بشهادته في 14 أكتوبر 2025 ضمن تحقيقات لجنة الرقابة والإصلاح في مجلس النواب الأمريكي، بينما استُدعيت زوجته هيلاري كلينتون في 9 أكتوبر 2025، لفحص سجلات إبستين وعلاقاته بالنخبة السياسية. هذه الاستدعاءات أطلقت شرارة إجراءات الطلاق بين بيل وهيلاري تحت ضغط الإعلام والقضاء. أما دونالد ترمب، فقد دعا صراحة إلى فتح الملف فورًا، معتبرًا القضية اختبارًا حقيقيًا للعدالة، فيما سبق له أن صرح عام 2002 بأن إبستين “يحب الفتيات الصغيرات إلى حد غير معقول”، قبل أن ينفي أي علاقة به لاحقًا.
برز أيضًا الأمير أندرو، دوق يورك، الذي اتهمته إحدى الضحايا، فرجينيا جيوفري، بالاعتداء عليها حين كانت قاصرة، وقد توصّل إلى تسوية معها دون اعتراف قضائي. وظهر ضمن الوثائق أعداد من أساتذة جامعات وساسة وحكام ولايات، دون توجيه تهم رسمية لهم، لكن أسماؤهم ارتبطت بشكل مباشر بالملفات والشهادات المتعلقة بإبستين.
بعد وفاته، تحولت شريكته العاطفية والمساعدة في إدارة الشبكة، غيسلين ماكسويل، إلى محور التحقيق، وأُدينت في ديسمبر 2021 بخمس تهم من بينها الاتجار بالقاصرات وتسهيل استغلالهن، وحُكم عليها بالسجن عشرين عامًا. ومع ذلك، بقيت غالبية ملفات الشبكة طي الكتمان، ما يجعل القضية رمزًا مؤلمًا لفشل العدالة حين تتقاطع السياسة مع المال والسلطة.
هذه القضية لم تعد مجرد ملف جنائي، بل أصبحت مرآة قاتمة، حين يمتد المال إلى السياسة، ويتشابك النفوذ مع القضاء، يصبح المجتمع كله معرضًا للفساد والانحلال. البراءة تُباع، والصمت يُشترى، والأطفال يُستباحون باسم السلطة والمال. وما حدث في الولايات المتحدة ليس مجرد استثناء، بل انعكاس لواقع عالمي مشابه، حيث تتلاشى العدالة تحت وطأة المصالح، ويضيع الحق، وتنهار الثقة في المؤسسات.
هكذا، تظل قضية إبستين جرحًا مفتوحًا في وجه العدالة، وعبرة للعالم بأسره بأن فساد النخبة لا يقتصر على سقوط الأفراد، بل اثره على سقوط الثقة بالمجتمع، وضياع الحقوق، وانحلال القيم. العبرة النهائية واضحة ما يقوم به الفرد في خصوصيته فذلك شأنه، لكن حين يمتد أثره إلى المجتمع، يمكن أن يتحول إلى سم قاتل سياسي واجتماعي ومالي، ويصبح مادة للتقييم والتحليل من أجل تقويم قيادات المجتمع والحفاظ على القيم، وحماية الأبرياء من استباحة الحقوق.



