رأي

المؤتمر الاقتصادي هل من جديد (2)

علي عسكوري

*أشرنا في الجزء الأول إلى أن وزارة المالية نظمت اجتماعا لمسؤولين حكوميين من مؤسسات ووزرات وولايات مختلفة و اسمته مؤتمرا اقتصاديا, وذكرنا أن الجميع سمع فجأة بالمؤتمر, وذكرنا ايضا انعدام الشفافية في إدارة المال العام في السنوات الأخيرة (من قبل الحرب)، وذكرنا أن أوراق المؤتمر وتوصياته لم تنشروقلنا إن وزارة المالية (شغالة عزف منفرد) لحالها.
*نواصل في بعض اشكالات وزارة المالية التي اربكتها الحرب كما اربكت بقية مؤسسات الدولة, ولا أجد تفسيرا لما حدث غير أن الحرب تسببت في أن تنسى أو تتجاهل وزارة المالية أساسيات عمل الاقتصاد وإدارته.

*رحم الله أساتذتنا فقد علمونا في قاعات الدرس، أن الاقتصاد علم يعتمد أولا وأخيرا على توفر المعلومات الصحيحة عن الإنتاج والاستهلاك وكل ما يتعلق بالإثنين من مكونات, بمعنى آخر كما يفهمه الدارسون (عرض وطلب supply and demand) وما يتبع الاثنين من مكونات ومدخلات لكل منهما، بتعقيدات وتفاصيل كثيرة يعلمها الدارسون، فكل علم الاقتصاد وما يتبعه من تفاصيل وتعقيدات وتقاطعات كثيرة للمكونات المختلفة، ينتهي إلى هذين المكونيين.
*يحتاج وضع السياسات لمعلومات صحيحة وليس تلك التي (ينجرها) المسؤولون من فوق مكاتبهم, فأي طالب اقتصاد في السنة الأولى يعلم أن علم الاقتصاد يقوم على المعلومات والرصد والتحليل, هذه أبجديات علم الاقتصاد, فبدون معلومات احصائية صحيحة لا يوجد اقتصاد, ولأن المعلومات هي أساس الاقتصاد تبنى عليها السياسات العامة لإدارته، يدرس طلاب الاقتصاد الإحصاء والرياضيات الأولية كمادة إجبارية لتأهيلهم في مجالهم, لأنه ببساطة لا يمكن فهم الاقتصاد أو إدارته بدون معلومات تفصيلية مبوبة ومحللة بصورة علمية.
*وإن كان توفر المعلومات الدقيقة المفصلة هي شروط صحة لإدارة الاقتصاد تبنى عليها السياسات، فمن أين يا ترى لوزارة المالية حاليا وتحت ظروف الحرب الحصول على المعلومات المطلوبة التي مكنتها من عقد مؤتمر، إن قبلنا مجازا أنه كان مؤتمرا.
*الواقع يقول إن هزة وربكة كبيرة أصابت الاقتصاد بسبب الحرب وتعطل الإنتاج وتوقفت المصانع وتقلصت الزراعة، بل حتى قطاع الحرفيين تشتت وارتبك، وباختصار، يمكن القول أن هنالك حالة من الارتباك والفوضى ضربت كافة القطاعات الاقتصادية، والحال كذلك فمن أين لوزارة المالية المعلومات التي مكنتها من عقد مؤتمر اقتصادي.

*كيف يمكن لوزارة المالية في الظروف الحالية أن تعلم ما يدور في الاقتصاد من إنتاج واستهلاك ومن حركة السكان ونشاطاتهم.
*أنظر مثلا لملايين الناس الذين فقدوا نشاطهم وخرجوا من دائرة الإنتاج والنشاط الاقتصادي وتحولوا إلى مشردين و نازحين أو لاجئين في دول الجوار أو آخرين تقطعت بهم السبل, ترى هل تعلم وزارة المالية عددهم، نوع النشاطات التي كانوا يمارسونها، هل قامت بمسح احصائى لأي عينة عشوائية منهم عن طبيعة نشاطهم السابق ومستوى دخلهم لتبني عليها مؤشرات أولوية عن حجم خسائرهم وخسائر الاقتصاد ..الخ.
*أما الجانب الأهم الآخر فهو ما يتعلق بالقطاع الصناعي، هل قامت الوزارة بالاتصال بأصحاب المصانع وأكملت جمع المعلومات منهم، ماذا كانوا ينتجون، حجم استثماراتهم، عدد القوى العاملة، ضريبة الأرباح ورسوم الإنتاج التي كانوا يدفعونها للدولة …الخ.
*مثلا مدينة أمدرمان بها مصانع كثيرة وقد تم تحريرها منذ مدة قاربت العام, رغم ذلك لا ندري حتى الآن إن كان قد تم حصر الخسائر في تلك المصانع وتحديد ما تعطلع منها وعدد الوظائف التي فقدت، وكم كان العائد الضريبي من هذه المصانع وماذا حدث للعاملين بها وما إن كان الدولة قد غطت ما كانت تنتجه تلك المصانع بالاستيراد من الخارج ليتحمل الاقتصاد منصرفات أخرى بالعملة الصعبة تؤثر على سعر العملة من واقع الطلب على الدولار لإستيراد منتجات كانت تنتج محليا, لا ندري إن كان المؤتمر قد تناول شيئا من هذا لأن الجميع مغيب تماما.
*وإن كان المؤتمر لم يتناول هذه القضية ماذا منع من تناولها ومناقشتها؟, كل هذه قضايا تقع في صلب جوهر إدارة الاقتصاد، و حقيقة لا ندري إن كان قد تم تناولها أم لا، ببساطة لأن وزارة المالية تمارس التعتيم أو بافتراض حسن النية تجهل واجبتها ومهامها الاساسية.

*ما ذكرناه عن مصانع أم درمان ينطبق على المصانع الأخرى حتى التي لم تصلها الحرب, مثلا ما هو حجم التأثير الذي تسببت فيه الحرب على مصانع الاسمنت في ولاية نهر النيل نتيجة لضعف الطلب على الاسمنت كنتيجة للحرب في الخرطوم وهي أكبر مستهلك للاسمنت؟ هل تواصلت الوزارة مع أصحاب المصانع للإلمام بما وقع عليهم من خسائر، وكم عدد العاملين الذين فقدوا وظائفهم بسبب تدني الإنتاج نتيجة لتقلص الطلب، وهل تعمل المصانع حاليا أم توقفت.
*أعتقد إننا بعد هذه الحرب اللعينة نحتاج لتفكير جديد لإدارة الدولة, تفكير علمي وتخطيط سليم ومغاير لما كان سائدا في السابق, تفكير يخرجنا من العشوائية النمطية التي تدار بها المؤسسات لننهض لإبتداع حلول علمية بنهج جديد ومفاهيم جديدة، إن لم نفعل ذلك سنستمر في (اللت والعجن) لنخرج من حرب لندخل في أخرى ليستمر اقتصاد البلاد في التراجع.
*دون شك أثرت الحرب على كامل النشاط الاقتصادي في كل السودان، وأصبح الأمر يتطلب نظرة كلية وتجميع دقيق للمعلومات تكون أساسا لإنعقاد أي مؤتمر اقتصادي، بل في حقيقة الأمر نحتاج لوزارة مالية بمفاهيم جديد وتصورات مستحدثة تواكب ما يدور في العالم، ذلك هو التحدي الذي يواجه وزارة المالية مثلما يواجه مؤسسات الدولة الأخرى, نحتاج لتفكير يمكننا من استغلال مواردنا بصورة جيدة تخرجنا وتخرج شعبنا من ربقة الفقر والتخلف.
*لن نتمكن من تحقيق ذلك إلا إذا بنينا اقتصادنا على قاعدة معلومات حديثة وصلبة تمكننا من الانتقال للمستقبل واللحاق بالشعوب.
*لكل ذلك فعقد المؤتمر بهذه الصورة فهو كما تقول حبوباتنا (نفرو براه).
هذه الأرض لنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى