تقارير

الفاشر .. المرافق الصحية تحت القصف

الأحداث – وكالات

شارع مكتظ بالحياة اليومية، بالمرضى ومرافقيهم، بالكوادر الطبية والباعة المتجولين وعربات المواصلات، والأطباء والفنانين والمعلمين والأكاديميين والسياسيين بمختلف ألوانهم، بالمنظمات وأهل الخير ومتطوعي غرف الطوارئ، وهم يجتمعون ويرسمون خطط عملهم لتوفير متطلبات الصحة والعلاج وتلبية نداءات سكان مدينة الفاشر، التي باتت دار إيواء كبيرة تحتضن جميع أهل دارفور، وقد تساقطت ولاياتهم تباعأ في يد الدعم السريع.

خط النار
هكذا صارت الرواكيب حول هذا الشارع أندية للتلاق ومناقشة حال اليومي وما يتطلبه الحل. إنه شارع المستشفى الجنوبي أو «مستشرف الفاشر جنوب».
وطوال سنة من الحرب، صار هذا المستشفى الذي يقع فس شارع السلاح بين حي السلاح وحي برنجية مركزا يربط سائر أحياء المدينة ببعضها، وبراحا يلجأ إليه جميع أهل الفاشر، فما إن يحتاج مريض أو مصاب إلى نقل دم حتى يجد العشرات من المتبرعين أمام بنك الدم، بل وصار مكانا لاحتفالات المواطنين مع الجيش وحلفائه بعد تحقيق انتصاراتهم كلما صدوا هجوما للدعم السريع على المدينة.

من مستشفى إلى ثكنة
بعد خروج المستشفى التعليمي عن الخدمة في أعقاب وقوعه على خط نار الحرب منذ أوائل أيام الحرب، ووقوع مستشفى الأطفال التخصصي في يد الدعم السريع وتحويله إلى ثكنة عسكرية ومعتقل للمدنيين والعسكريين معا، بات المستشفى الجنوبي مرجعيا لعموم سكان مدينة الفاشر. وقد ظل هادئا على الرغم الاكتظاظ الهائل حوله، حتى تحولت أرض المعارك إلى الجنوب والجنوب الشرقي لمدينة الفاشر. ونزح سكان شمالي المدينة وشرقها، فخلا المكان بعد تكرار القصف الممنهج عليه من قبل الدعم السريع، وبات المصاب يخشى إصابة فوق إصابته بسبب القصف والرصاص العشوائي على المستشفى.
عبد الله، رجل خمسيني، ادخل مريضا إلى مستشفى الفاشر الجنوبي، ووضع تحت المراقبة لمتابعة حالته الصحية لأيام. وبسبب امتلاء العنابر الداخلية وضع في خيمة بالساحة الشمالية للمستشفى تتبع لإحدى المنظمات. ذات ليلة، ذهبت رئيسة الممرضات التي تشرف على الخيمة إلى منزلها، وعندما عادت صباحا فوجئت بخلو الخيمة من المصابين، ولاحظت زيادة عدد المرضى داخل العنابر. عندما سألت أخبروها بأن هنالك رصاصة طائشة أصابت المريض عبد الله، وهو على سريره، فخاف بقية المرضى ودخلوا إلى العنابر الممتلئة سلفا.
بعد توالي القصف والتدوين عليه خلال شهري مايو ويونيو الماضيين، تسلل عناصر الدعم السريع إلى المستشفى الجنوبي في نهاية شهر يونيو، واعتدوا على الكادر الطي والمرضى والمرافقين، ونهبوا مقتنياتهم، ثم هربوا بعد أن سرقوا سيارة إسعاف محملة بالدواء من صيدلية الإمدادات بالمستشفى. بعدها، نقل المستشفى الجنوبي إلى مقر المستشفى التخصصي لأمراض النساء والتوليد (السعودي)، وهو المستشفى الحكومي الوحيد الذي كان يعمل آنذاك.
بعد أن دخلت قوات الدعم السريع إلى حي الوحدة شرق والسلام جنوب، وبدأ عناصرها التدوين باتجاه المدنيين، فر الجميع إلى غرب المدينة، وأصبح الحي خاليا من الحياة والسكان عدا عناصر الجيش والقوة المشتركة الذين يمشطون الأحياء. شوارع خالية من مظاهر الحياة وتكسوها فوارغ الرصاص، أعمدة الكهرباء ملقاة على الأرض، متاريس عالية في الشوارع، وعلى جوانب سور مقابر التيمانات، فروع الأشجار ملقاة على قارعة الطريق، سيارات محترقة على طول شارع السلام. وأخيرا، تحول المستشفى الجنوبي إلى ثكنة عسكرية لقوات الجيش السوداني، بعد طرد الدعم السريع منه وتراجع الأخير إلى حي السلام.
جهاد حسن، سيدة أربعينية دخلت المستشفى الجنوبي بعد سقوط قذيفة بمنزلها أودت بحياة بنت شقيقتها وأصابتها بروائش في أماكن متفرقة من بدنها، تطلبت إزالتها عدة عمليات، وظلت في غيبوبة لا يتحرك منها سوى جفنيها لحظات النوم أو الاستيقاظ، وشفتيها لشرب الماء. بعد دخول الدعم السريع إلى المستشفى الجنوبي، تقول أختها إنهم اضطروا إلى نقلها إلى المستشفى السعودي، لكن. إخراجها في ظروف قاسية ساءت حالتها قبل وصولهم إليه وتوفيت فور دخولها.
تتنهد وهي تروي لـ «أتـر» أن أختها ليست وحدها، فقد جرى هذا لجارهم عبده أيضا بعد تحريكه بسويعات من خروجه من عملية استخراج رائش على ظهره، فقد تورم رأسه بعد ليلة نقله إلى السعودي وتوفي تاركا وراءه 9 أطفال أكبرهم في سن العشرين، وزوجة علمت بخبر موته بعد أيام بسبب قطع شبكات الاتصالات.
هكذا، بعد استهداف المرافق الصحية والكوادر الطبية مع سبق الإصرار، في مدينة محاصرة لأشهر، وهي مع ذلك مرجع للعلاج والدواء لكل قاصديها من محليات الولاية المختلفة، تعين على مستشفى الولادة أن يستلم الراية من الجنوبي ليتولى وحده تقديم جميع الخدمات العلاجية. يقع المستشفى التخصصي لأمراض النساء والتوليد (السعودي)، في حي الدرجة الأولى شمال المدينة، وبعد أن كان حقا عاما للنساء وحدهن، انضم إليهن جميع المرضى والمصابين.
وقد نقل المتطوعون خدماتهم إليه تأمينا للمصابين، وكي يوفروا ما يستطيعون من خدمة، فأصبح مستشفي مرجعيا بدوره لجميع الحالات، بكادر طبي كان يكفيه بالكاد لسد حاجته، وظل صامدا حتى بعد تعرضه للتدوين من الدعم السريع عدة مرات، كانت تمر بسلام مع بعض الخسارات على المباني أو بعض السيارات المتعطلة داخله. لكن هذا لم يدم طويلا.

يوم برائحة الموت:

بعد مقتل علي يعقوب، أحد قادة قوة الدعم السريع التي تحاصر المدينة، أضحى القصف غاشما وعلى جميع الأحياء والمدنيين والمرافق الصحية داخل المدينة، حتى اضطر المواطنون إلى الاحتماء بالمستشفى السعودي في مبان خصصت للمرضى والمصابين من الأطفال.
تروي إسراء محمد، وهي طبيبة مختبر بالمستشفى. السعودي لـ «أتـر»، تفاصيل أحد هذه الأيام العصيبة، 27 يونيو الماضي، إذ نقل إلى المستشفى قرابة 50 قتيلا وعدد لا يحصى من المصابين، وبدأ الجميع إطلاق نداءات عاجلة للتبرع بالدم للمصابين. وقد فاق عدد المصابين يومها قدرة عدد الكادر الطي، فاضطر الجميع إلى العمل على إسعافهم، فذهبت إسراء كغيرها من المعمل إلى الطوارئ. تقول إن معظم الموتى كانوا أشلاء، فهذا بلا أطراف، وذاك بلا رأس، وثالث بلا فك، ورابع محض كومة لحم.
«لقد فضلت رؤية الموتى على رؤية الجرحى، لأن إصاباتهم لا تقل خطورة عن تلك التي أودت بحياة الموتى»، تقول إسراء، وتمضي في وصف ذلك اليوم: «جميع غرف العمليات مشغولة، بنك الدم ممتلئ بجنود الجيش والقوات المشتركة، الذين لا يقل عددهم عن 300 وقد قدموا للتبرع بالدح لرفاقهم المصابين في المستشفى العسكري، لكن لم يكن هناك ما يكفي من أكياس الدم. أصوات الصراخ تجوب المستشفى شرقا وغربا. المكان ممتلئ طوال 24 ساعة متواصلة من العمل دون قطرة ماء بالمستشفى. وظل متطوعو غرف الطوارى وغيرهم يناشدون المنظمات وأهل الخير لحل مشكلة المياه، حتى عادت القذائف ثانية لتنهمر كالأمطار على رؤوس الجميع. بات الكادر بين خيارين: هل يفرون لإنقاذ أرواحهم أم يصمدون لإنقاذ أرواح تتأرجح بين الموت والحياة؟ بعد لحظات قليلة تحول المكان إلى خلاء، سكن الزخم، وفر الجميع غربا للبحث عن حياة في أزقة أحياء الدرجة الأولى. ذلك يوم برائحة الموت!».
يومها، تعين على اضطر الكادر الطي وضع المقص لبعض الوقت والبحث عن مكان يقيهم ومرضاهم شر القذائف، فدفنوا حاويتين تحت الأرض وحولوا إحداهما إلى غرفة عمليات والثانية إلى استراحة للأطباء، لتتدخل منظمة بلان سودان وتنقلهم إلى (مكان ما)، لمتابعة تقديم الخدمات بعيدا عن نيران الدعم السريع. وقد عاود المستشفى عمله بعدها بـ 24 ساعة.

ضرر بالغ بسبب القصف
«بعد استهداف القطاع الصحي في المدينة، فاق حجم الضرر جميع التوقعات!»، يستهل الدكتور مدثر إبراهيم سليمان، المدير الطي لمستشفى النساء والتوليد «السعودي» حديثه إلى «أتر»، معبرا عن أسفه لما وصل إليه حال الصحة بشمال دارفور، خصوصا بعد خروج أغلب مستشفيات الفاشر عن الخدمة ووقوع العبء كله على المستشفى السعودي مع قلة إمكاناته بسبب شح العلاج ونقص الكادر الطي، وقد نزح أغلبه إلى خارج الولاية، وتزايد أعداد الإصابات بفعل القصف المتكرر على المدنيين، ما أثر سلبا على سلاسة تقديم الخدمات الصحية للمرضى. وزاد الحال سوءا بعد قصف الدعم السريع للمخزن المركزي للإمدادات الطبية بالفاشر واحتراق مخازن الدواء.
«ورغم جهود منظمة يونيسيف التي تعمل على تغطية احتياجات قسم الجراحة ومنظمة UNFBA التي تتولى تغطية بعض احتياجات المستشفى، ما زالت حاجة المستشفى قائمة إلى كل عون ممكن»، يؤكد الدكتور مدثر، قبل أن يختم حديثه شاكرا الكادر الطي الذي يعمل بالمستشفى حاليا على تفانيه وصموده رغم التدوين العنيف والرصاص العشوائي في كل مكان مع صعوبة الحركة داخل المدينة.
بدوره يشير الدكتور عبد الله حمدون، وهو صاحب وكالة لاستيراد المعدات الطبية، إلى أن المخزون من الدواء يغطي %25 فقط من إجمالي الحاجة الكلية، مع انعدام تام لمحاليل الأطفال وجميع أدوية الأمراض المزمنة التي تحتاج إلى سلسلة تبريد. وعن مصادر الأدوية يقول إن الولاية، بل والمنظمات، تعتمد في توفيرها على القطاع الخاص الذي كان يؤدي دوره على أكمل وجه حتى ضربت الدعم السريع حصارها على الفاشر لتنقطع بهم سبل الاستيراد، خصوصا للأدوية التي تحفظ في ظروف خاصة.
ويخبر الدكتور حمدون «اتر» بأنهم ظلوا مع ذلك حتى وقت قريب يوفرون الدواء بالتهريب عبر محلية دار السلام، إلى أن استولت الدعم السريع على المحلية وشرعت في ممارسة انتهاكاتها تجاه المواطنين خصوصا التجار وسائقي سيارات النقل، الأمر الذي أدى إلى تخوف الجميع من سلوك طريق هذه المحلية. وصارت وكالات الاستيراد عاجزة في الآن ذاته عن إيجاد طرق بديلة لتوصيل الأدوية. ومع انهيار الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية بات استيراد الدواء يتطلب تكلفة عالية تضاف لاحقا على المواطن العاجز عن شراء أبسط الأدوية.
معبرا عن قلقه على المواطنين بسبب انعدام بعض الأدوية وشح بعضها الآخر في الولاية وحاضرتها، يقول الدكتور حمدون: «إننا الآن في موسم الملاريا، وأدويتها منعدمة في المدينة، هذا عطفا على أدوية التيفويد. وقد اضطر بعض المواطنين الفرار إلى المحليات بحثا عن الدواء، فخفف هذا من الضغط على الفاشر قليلا، لكنه وضع على المحليات عبئا تعجز عن حمله لأنها تعتمد في الصحة على الفاشر التي تعيش أسوأ حالاتها، بينما لا تزال قوات الدعم السريع تحتجز القوافل العلاجية وتمنع وصولها إلى المدينة».
ودعا إلى وقف تهريب الأدوية، التي تحتاج إلى سلسلة تبريد، في عربات شحن عادية، لأنها تزيد على المريض مرضه. تتوزع كثير من الأسر في القرى حوالي الفاشر، بينما يتمسك البعض بالبقاء في منازلهم رغم القصف والموت. والجميع يئنون تحت وطأة انهيار النظام الصحي في حاضرة إقليم بولاياته الخمس، ومرجع العلاج لـ 18 محلية. رغم أن الحال قبل الحرب لم يكن أفضل كثيرا، لكن تبدو العودة إلى سوء ما قبل الحرب خيرا من سوء الحرب والرصاص والموت المجاني على الطرقات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى