رأي

العلاقات التجارية والاقتصادية التركية-الأفريقية

مهند عوض محمود

بدعوة كريمة من غرفة التجارة والصناعة السودانية، شاركت في منتدى الأعمال والاقتصاد التركي- الأفريقي (Turkey-Africa Business and Economic Forum) الذي انعقد في إسطنبول يومي السادس عشر و السابع عشر من أكتوبر الجاري، بتنظيم مشترك بين وزارة التجارة التركية ومجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية (DEİK) والاتحاد الأفريقي. ويُعد المنتدى من أبرز المنصات التي تجمع القادة وصُنّاع القرار والمستثمرين ورجال الأعمال من تركيا والقارة الأفريقية لمناقشة آفاق التعاون التجاري والاستثماري وتعزيز الشراكات الاستراتيجية بين الجانبين.
شهد المنتدى مشاركة واسعة من أكثر من أربعين دولة أفريقية بمستويات تمثيل رفيعة، شملت وزراء التجارة والاستثمار ورؤساء اتحادات الأعمال وممثلي الغرف التجارية، إلى جانب حضور مئات الشركات التركية والأفريقية. وقد لمس جميع المشاركين بوضوح حجم الاهتمام الكبير الذي تبديه تركيا تجاه القارة الأفريقية؛ إذ لم تعد تنظر إليها كسوق لتصريف المنتجات فحسب، بل كشريك استراتيجي طويل الأمد في مجالات التنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي والتبادل التقني، على مبدأ win win.
في اليوم الأول، حضرت السيدة الأولى لتركيا، أمينة أردوغان، الجلسة الافتتاحية وألقت كلمة مؤثرة تناولت فيها أهمية تمكين المرأة في ريادة الأعمال، وأكدت أن النساء في أفريقيا وتركيا يشكّلن قوة دافعة في مجتمعاتهن، وأن تحقيق التنمية المستدامة في القارتين لن يتم من دون تمكين المرأة اقتصادياً وتعليمياً واجتماعياً. وأشارت إلى أن المرأة الأفريقية تمثّل نموذجاً ملهماً في الصبر والإبداع ومواجهة التحديات.
أما في الجلسة الختامية، فقد خاطب الرئيس رجب طيب أردوغان المشاركين بكلمة جامعة تناولت مسيرة التعاون التركي- الأفريقي منذ عقدين، وقال إن العلاقات بين الجانبين بلغت مستويات غير مسبوقة في التجارة والاستثمار، موضحاً أن الشركات التركية نفذت في القارة أكثر من ألفي مشروع تجاوزت قيمتها 97 مليار دولار، ووفرت استثماراتها أكثر من مئة ألف فرصة عمل للأفارقة. وأضاف أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا ارتفع من 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى أكثر من 41 مليار دولار في عام 2024، مشدداً على أن تركيا ترى في أفريقيا شريكاً حقيقياً في التنمية، لا مجرد ساحة تنافس بين القوى الكبرى.
وخلال حديثه عن القضايا الإنسانية في القارة، خصّ الرئيس أردوغان السودان بالذكر قائلاً: «نشعر بحزن عميق لما يشهده السودان من اشتباكات، ونأمل في وقف لإطلاق النار وتحقيق سلام دائم هناك؛ فإيقاف نزيف الدم واجب إنساني على الجميع». كما انتقد تعاطي المجتمع الدولي مع أزمات القارة، قائلاً: «العالم الغربي، للأسف، يرى الحروب الأهلية والنزاعات في أفريقيا وكأنها قدر محتوم للقارة»، في إشارة واضحة إلى ضعف الاهتمام الدولي بمعاناة الدول الأفريقية وفي مقدمتها السودان.
تضمن المنتدى جلسات متخصصة في مجالات متعددة؛ كان من أبرزها الجلسة التي ترأستها السيدة برلين كيستونج، سفيرة الأمن الغذائي بالبرلمان الأفريقي، والتي خُصصت للزراعة وتجارب تركيا في هذا القطاع. شارك فيها عدد من الأكاديميين البارزين مثل الدكتور نيكسون بوقو، والبروفيسورة فاطمة هاندان قيراي، والبروفيسور وليم كياموهانقري، الذين أجمعوا على أن القارة الأفريقية تمتلك المقومات الكبرى لتحقيق الأمن الغذائي العالمي لما تتمتع به من أراضٍ خصبة ومياه وفيرة. كما تحدثت السيدة يلدز قوفين عن تجربة تركيا في استخدام الذكاء الصناعي في الزراعة، وما أحدثته من تطور كبير في الإنتاج والإنتاجية.
خلال أيام المنتدى، جرى تنظيم لقاءات ثنائية مكثفة بين رجال الأعمال الأتراك والأفارقة، أتاحت فرصاً حقيقية لتبادل الخبرات والتجارب في مجالات الزراعة والطاقة والنقل والبنية التحتية والتكنولوجيا. وكان واضحاً أن الشركات التركية تنظر إلى أفريقيا باعتبارها القارة الواعدة التي تحمل مستقبل النمو، وأن أنقرة تسعى للدخول بعمق إلى أسواقها عبر استثمارات مستدامة وشراكات متكافئة قائمة على الثقة والمصالح المتبادلة.
لقد كانت الدعوة التي تلقيتها من غرفة التجارة والصناعة السودانية فرصة ثمينة للتواجد في هذا المحفل الاقتصادي الكبير؛ وقد أُبلغت بأن وزيرة التجارة والصناعة السودانية ستترأس وفد السودان المشارك بمرافقة عدد من رجال الأعمال، غير أني علمت أنها اعتذرت عن الحضور، ولم يحضر أي ممثل سواء من غرفة التجارة والصناعة السودانية أو اتحاد أصحاب العمل. وقد مثل السودان في المؤتمر سعادة السفير نادر يوسف، سفير السودان لدى تركيا، مما أبقى التمثيل السوداني في الإطار الدبلوماسي فقط دون مشاركة اقتصادية مباشرة.
إن غياب مؤسسات القطاع الخاص السوداني عن مثل هذه المنتديات يُعد مؤشراً مقلقاً، ويؤكد الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة اتحاد أصحاب العمل وتنشيط الغرف التجارية؛ فهذه المؤسسات تمثل الذراع الحقيقي للتواصل مع الأسواق الخارجية ولعقد الشراكات الدولية ؛ إن خمولها أو غيابها يحرم السودان من فرص اقتصادية حقيقية كان يمكن أن تُستثمر لتوسيع التعاون مع تركيا ومع القارة الأفريقية عموماً.
كما أن التنافس الدولي على أفريقيا يتزايد بين قوى كبرى كالصين وروسيا والولايات المتحدة، بينما تقدم تركيا نموذجاً مختلفاً في تعاملها مع القارة، إذ تعتمد سياسة الدبلوماسية الناعمة والعلاقات الإنسانية قبل الاقتصادية، وتتبنى خطاباً قائماً على التعاون والتنمية المشتركة وليس على الهيمنة أو الاستغلال، وهو ما يجعلها أكثر قبولاً واحتراماً في الأوساط الأفريقية.
وفي ضوء ما شاهدته ولمسته خلال المنتدى، أرى أن أمام السودان فرصاً كبيرة ينبغي أن يُخطط لاستغلالها بجدية وأن يضع برامج واضحة للتعاون مع تركيا، خاصة في مجالات الزراعة، التصنيع الغذائي، الخدمات اللوجستية، والطاقات المتجددة، مع ضرورة تفعيل دوره المؤسسي والاقتصادي في الساحة الإقليمية.
وفي هذا الصدد أرى ضرورة التوصية بالآتي:
1.هيكلة اتحاد أصحاب العمل السوداني وإجراء انتخابات الغرف التجارية لتفعيل دوره في تمثيل القطاع الخاص خارجياً.
2.إعداد وفود مهنية من رجال الأعمال السودانيين للمشاركة في اللقاءات الثنائية B2B مع تجهيز ملفات تعريفية ومشاريع جاهزة للعرض.
3.وضع خطة استراتيجية للتعاون مع تركيا في القطاعات ذات الأولوية كالتصنيع الزراعي، التحويل الغذائي، والطاقات المتجددة.
4.الاستفادة من خبرات تركيا في التكنولوجيا الزراعية والذكاء الصناعي لتحقيق طفرة في الإنتاج المحلي.
5.تفعيل الشراكات مع وكالات الاستثمار والتمويل التركية لجذب رؤوس الأموال والمشاريع المشتركة إلى السودان.
6.تعزيز الحضور السوداني الرسمي والاقتصادي في المنتديات المقبلة عبر مشاركة الوزراء والمؤسسات السيادية إلى جانب رجال الأعمال.
7.متابعة نتائج المنتديات وتحويلها إلى اتفاقيات تنفيذية ومذكرات تفاهم واقعية تخدم الاقتصاد الوطني.
إن منتدى الأعمال والاقتصاد التركي- الأفريقي أثبت أنه منصة رائدة لتعزيز التعاون بين القارتين، كما أظهر أن تركيا تنظر إلى أفريقيا كأفق استراتيجي بعيد المدى، وأن الشراكة معها تقوم على الثقة والمصالح المتبادلة. ولعل مشاركة السودان القادمة تكون أكثر تنظيماً وتمثيلاً بما يليق بإمكاناته الواسعة ودوره الطبيعي في خارطة أفريقيا الاقتصادية المستقبلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى