رأي

السودان وحرب الاستعمار والاستيطان (5)

د. محمد حسب الرسول

أهداف الحرب

قبل بداية الحرب، أعلن تحالف الحرية والتغيير، الظهير السياسي لقوات الدعم السريع، على لسان قادته ورموزه، أن الحرب هي التي ستفرض الاتفاق الإطاري والدستور الانتقالي الجديد الذي تم إعداده بواسطة الآلية الرباعية. وقد أكد ذلك قائد الدعم السريع حين سيطرت قواته على السلطة في اليوم الأول للحرب، وأضاف أن اعتقال أو اغتيال قادة المؤسسة العسكرية هو كذلك هدف رئيس لهذه الحرب.

ومع مرور الأيام، تبدلت أهداف الحرب، حيث بدأت قوات الدعم السريع، ومنذ نهاية الشهر الأول للحرب، تعلن أن هدف الحرب الرئيس هو وضع نهاية لدولة 1956، وهي الدولة الوطنية التي تأسست بعد نيل السودان استقلاله، وتأسست من خلال التوافق الوطني بين أبناء السودان كافة.

نهاية هذه الدولة يعني أول ما يعني وضع حد لاستقلال السودان، وإنهاء سيادته على أرضه، كما يعني، وبشكل واضح، أن جغرافيا السودان التي كرستها دولة 1956 عرضة للتقسيم ومستهدفة به. وبهذا الوضوح، ينتفي أي تفسير بسيط لأهداف الحرب يُصورها حرباً على السلطة بين رجلين، ويؤكد ذلك تركيز الدعم السريع على تحقيق إنجازات ميدانية تخدم هدفه (القضاء على دولة 1956).

لقد خطت قوات الدعم السريع خلال أيام الحرب الأولى خطوات خطيرة في مسار إنهاء وتفكيك دولة 1956، وقامت بعمليات بالغة الخطورة يمكن إيجازها في ما يلي:-

تدمير السجل المدني بعد استيلائه على مقر وزارة الداخلية.

إحراق دار الوثائق القومية التي تعتبر الذاكرة التاريخية للسودان، وهي تحتوي كل وثائق السودان التاريخية الخاصة بحدوده الجغرافية وبالخرائط المختلفة، وتحتوي على تفاصيل مكوناته الديموغرافية، والعلاقات القائمة بين القبائل، والمواقع الجغرافية لكل قبيلة ومجموعة سكانية. وتحتوي دار الوثائق على كل وثائق الدولة واتفاقياتها الدولية والإقليمية والاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها مع الدول، وتحتوي كذلك على كل الإنتاج الفكري والسياسي والإعلامي للسودانيين عبر حقب التاريخ السوداني المختلفة وغيرها من الوثائق.

تدمير 8 متاحف قومية تحتوي على آثار السودان التي تجاوز عمرها 7 آلاف عام. وقد أعلن الدعم السريع عند تدميره لها أنه دمرها لأنها لا تعبر عنه. وقد فات على المدمرين أنها لا يمكن أن تعبر عنهم، لأن من يحملون الجنسية السودانية منهم دخلوا السودان حديثاً (دخلت أسرة حميدتي السودان في منتصف السبعينيات)، وأن أغلب من قاموا بعمليات التدمير من غير السودانيين.

إحراق المكتبات العامة والمكتبات الخاصة بالجامعة ودور النشر.

تدمير المعامل الخاصة بالجامعات، وتدمير مراكز معلومات الجامعات التي تحتوي وثائق الجامعات وسجلاتها الأكاديمية، وتدمير مركز معلومات وزارة التعليم العالي. وبهذا، يتعذر استخراج الشهادات الأكاديمية أو توثيقها.

تدمير سجلات الأراضي والعقارات. وبذلك، يتعذر على كل صاحب عقار طردته منه قوات الدعم السريع واحتلته إثبات ملكيته له بعد نهاية الحرب.

تدمير أرشيف السلطة القضائية وسجلاتها ومتحفها.

تدمير معهد الأبحاث الزراعية الذي يحتوي خلاصات جهود علماء الزراعة في السودان التي حققوا عبرها أهم الإنجازات في مجالات الزراعة كافة.

تدمير معهد الأبحاث الصناعية الذي يعتبر المنصة البحثية الوطنية الأولى والأكبر والأهم في السودان، والذي يحتوي على رصيد علمي ثري في مجالات الصناعة.

تدمير مركز أبحاث النفط الذي مكن السودان من امتلاك تكنولوجيا النفط ووطنها، وتمكن من خلالها استغلال موارده النفطية في زمن فرضت فيه أميركا والغرب حظراً على السودان، ومنعت شركاتها من الاستثمار فيه، ومنعت نقل تكنولوجيا صناعة النفط من الدخول إليه.

تدمير مكتبة الإذاعة والتلفزيون السوداني التي تحتوي على الإنتاج الإعلامي والثقافي والفكري السوداني المشاهد والمسموع، وتدمير كل الأرشيف الخاصة بهما، في مسعى لمحو الذاكرة الثقافية للسودانيين.

تدمير المناطق الصناعية في الخرطوم، وعددها 10 مناطق، وسرقة مدخلات إنتاجها ومنتجاتها، وتدمير المصانع، في عمل يتجاوز ما لحق بالمناطق الصناعية في سوريا خلال سنوات أزمتها.

تدمير المصارف وسرقة أموالها، وسرقة أمانات المواطنين المحفوظة في صناديق الأمانات بهذه المصارف.

نهب أسواق ولاية الخرطوم وإحراقها.

تهجير سكان أحياء الخرطوم، وطردهم من منازلهم، ونهب مقتنياتهم، واحتلال منازلهم، واستجلاب مستوطنين من غرب أفريقيا ليسكنوا فيها.

ممارسة الاغتصاب والزواج القسري، واختطاف نساء من قبائل السودان التاريخي، ومساومة أسرهم للإفراج عنهم مقابل المال.

الناظر إلى الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، والتي ورد ذكرها أعلاه، يلحظ ارتباطها الوثيق بهدف الحرب الذي أعلنوه، وهو القضاء على دولة 1956. ويتضح من طبيعة هذه الجرائم أنها تريد أن تمحو ذاكرة الوطن الثقافية والحضارية، وأنها أرادت تجريف كل أرشيف الدولة ووثائقها التي تتصل بالسكان من خلال تدمير السجل المدني وتدمير سجل العقارات، وأرادت أن تفقدهم حقهم الذي اكتسبوه من خلال جهدهم العملي حين دمرت السجلات الأكاديمية بالجامعات وبوزارة التعليم العالي، وأفقرت المواطنين بعدما سرقت أموالهم من المصارف وصناديق الأمانات، وبعدما نهبت متاجرهم ومصانعهم ودمرتها وغيرت بذلك المراكز المالية التاريخية في السودان، وعبست بكرامة الناس وانتهكت أعراضهم من خلال عمليات الاغتصاب والاختطاف، وسيكمل صورة تفكيك دولة 1956 استعراض ملف الاستيطان والتوطين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى