رأي

السودان هدف استراتيجي: لماذا يضلل توصيف “الحرب الأهلية” ويخفي الغزو المنظّم

د. عبدالعزيز الزبير باشا

من السهل، وربما من المريح سياسيًا، وصف ما يحدث في السودان على أنه صراع داخلي أو نزاع بين جنرالين يتنازعان السلطة. لكن هذا التوصيف، رغم شيوعه، لا يعكس الواقع، ولا يفسر حجم الدمار، ولا طبيعة الأدوات المستخدمة، ولا الأهداف الاستراتيجية التي تتكشف يومًا بعد يوم.

الحقيقة أن ما يحدث في السودان ليس نزاعًا على الحكم، بل عملية تفكيك ممنهجة لدولة، تُدار عبر واجهات محلية محدودة، وتُغذّى إقليميًا، وتحظى بصمت دولي يصل إلى حد التواطؤ.

لو كان الأمر مجرد صراع بين جنرالين، لما استُهدفت المدن بهذا الشكل، ولما جرى تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية، ولما تحولت مساحات واسعة من البلاد إلى بيئة مفتوحة للمرتزقة وتجار السلاح والقتل المأجور. ما يحدث يتجاوز السلطة إلى إعادة هندسة الدولة نفسها: الجيش يُستنزف، المجتمع يُمزق، والفراغ يُملأ بقوى لا علاقة لها بالسودان ولا بمستقبله.

الغزو الحديث لا يحتاج إلى جيوش تعبر الحدود علنًا، فاليوم يكفي تمويل ميليشيات، وتسليحها، وتوفير غطاء سياسي وإعلامي يحوّل العدوان إلى نزاع داخلي. حين يكون التخطيط خارجيًا، والهدف استراتيجيًا، تصبح عدد الأدوات المحلية مسألة ثانوية.

السودان اليوم جزء من خريطة إقليمية أكبر تُعاد صياغتها أمام أعين العالم: الاعتراف بما يسمى “أرض الصومال” ليس حدثًا منفصلًا، بل اختبارًا مدروسًا لتفكيك الدول عبر شرعنة كيانات هشة. والمناقشات حول ترحيل فلسطينيي غزة ليست مجرد ضجيج إعلامي، بل انعكاس لعقلية سياسية تعتبر الجغرافيا العربية مساحة قابلة لإعادة التوزيع وفق مصالح قوى بعيدة عن المنطقة. وفي هذا السياق، يصبح تفتيت الدول الكبيرة إلى وحدات أصغر وأكثر هشاشة وسيلة فعّالة للسيطرة والنهب وإدامة التبعية.

السودان، بثرواته الضخمة، ومساحاته الشاسعة، وموقعه الاستراتيجي، يشكل جائزة كبرى في هذا المخطط. الذهب، الأراضي الزراعية، الموانئ، والمجال المفتوح لتصدير الفوضى والمرتزقة تجعل الدولة السودانية المستهدفة هدفًا مغريًا. ولا أحد يخوض هذا النوع من الصراع من أجل الديمقراطية أو حقوق الإنسان؛ المحرك الحقيقي هو الموارد والنفوذ وإعادة رسم موازين القوة.

إلى أصدقاء السودان، إن الوقوف مع السودان اليوم ليس دعمًا لطرف في نزاع داخلي، بل موقفًا مبدئيًا للدفاع عن فكرة الدولة ذاتها. دعم السودان في هذه اللحظة استثمار في استقرار الإقليم بأكمله، لأن سقوط السودان لن يظل شأنًا داخليًا، بل سيعيد إنتاج الفوضى عبر الحدود.

أما أولئك الذين يراهنون على تفكيك السودان، فعليهم أن يدركوا أن هذا رهان قصير النظر. الفوضى لا تُضبط، والمرتزقة لا يعرفون الولاء، وما يُزرع اليوم في السودان سيُحصد غدًا في أماكن أخرى، ربما أقرب مما يتصور البعض.

 الخلاصة واضحة: 

ما يجري في السودان ليس حربًا أهلية، ولا صراع جنرالين، ولا فشل دولة. إنه غزو مقنّع، يهدف إلى تفكيك الدولة، ونهب مواردها، وإعادة رسم الإقليم بما يخدم قلة قليلة على حساب شعوب بأكملها. والتاريخ أثبت مرارًا أن من يصمت على تفكيك دولة اليوم، سيجد نفسه غدًا يبرر كيف وصلت إليه النار.

السودان لا يطلب شفقة، ولا يبحث عن عناوين عاطفية. السودان يفرض حقيقة واحدة:

إما أن يُفهم ما يجري على حقيقته… أو يُترك العالم ليواجه نتائج صمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى