السودان معروض للبيع: كيف تحولت الحرب إلى سوق للمرتزقة

د. عبد الناصر سلوم حامد
ليست كل الحروب تُخاض من أجل النصر، فبعضها يُشعل من أجل الغنائم. وفي السودان، لا سيما منذ أواخر عام 2023، لم تعد الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع مجرد صراع على السلطة أو دليلاً على انهيار الدولة، بل تحولت إلى اقتصاد حرب فعلي، يغذيه مرتزقة محليون وأجانب لا تحركهم الأيديولوجيا أو السياسة، بل الربح الخالص.
فداخل صفوف الدعم السريع، يُقال إن المقاتل السوداني يتقاضى حوالي 500 دولار شهريًا، إضافةً إلى منحه الإذن المطلق لنهب أي ممتلكات من المدنيين أو البنية التحتية العامة أو الممتلكات الخاصة. أما المرتزقة الأجانب—خصوصًا من تشاد ومالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وشمال نيجيريا وإثيوبيا—فيُعرض عليهم ما يصل إلى 1500 دولار شهريًا، مع ضمان غير معلن: كل ما يتم نهبه يُعتبر من نصيبهم، بما في ذلك السيارات، والذهب، والممتلكات الشخصية. وقد أدى هذا النظام القائم على التحفيز عبر النهب، وسط غياب القانون والمحاسبة، إلى تصاعد الانتهاكات بشكل كبير مع نهاية عام 2023.
وبحسب تقارير صادرة عن لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة وتحقيقات لصحيفة واشنطن بوست، فإن عدد المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون تحت إمرة قوات الدعم السريع يتراوح حاليًا بين 5,000 و8,000. تشاد تمثل أكبر مجموعة (نحو 2,500 إلى 4,000)، تليها أفريقيا الوسطى (800 إلى 1,500)، مالي (500 إلى 900)، بوركينا فاسو (200 إلى 500)، شمال نيجيريا (150 إلى 400)، ليبيا (150 إلى 300)، وإثيوبيا (100 إلى 200). يدخل معظم هؤلاء عبر حدود غير مراقبة جيدًا، ويتم تجنيدهم من جماعات مسلحة قاتلت سابقًا في مناطق الساحل والبحيرات العظمى.
روت إحدى الناجيات من معسكر زمزم في شمال دارفور:
“لم أفهم لغتهم. كانوا يضحكون وهم يكسرون الأبواب. لم يتحدثوا العربية. أخذوا كل شيء—الطعام، المجوهرات، حتى ملابس الأطفال. وعندما غادروا، انطلقوا في سيارات مسروقة محملة بالغنائم، وكأنهم وُلدوا للتدمير.”
وهذه الرواية ليست حالة فردية. عشرات الشهادات من قرى ومعسكرات نزوح أخرى تسجل نمطًا مشابهًا: مقاتلون أجانب ينفذون عمليات النهب بدافع الغنيمة، لا الأوامر العسكرية.
ما يوحّد هؤلاء المرتزقة ليس العقيدة أو الدين أو الولاء السياسي، بل دافع واحد: الحرب كمصدر للثراء.
ومن هذا المنطلق، يمكن تفسير تمدد رقعة القتال أواخر 2023. لم يكن هذا التوسع نتيجة قرارات من قيادة الدعم السريع، بل بدافع فردي من المقاتلين الذين يسابقون الزمن لنهب أكبر قدر ممكن قبل أن يُقتلوا أو يعودوا إلى بلادهم. ولهذا اتجهت الهجمات إلى المدن، والمراكز التجارية، والقرى الغنية بالموارد. أحد أبرز تجليات هذا النمط الفوضوي هو ازدهار تجارة السيارات المسروقة، خاصة من الخرطوم ودارفور، والتي تُهرّب إلى تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا.
وما يزيد من خطورة الوضع هو اعتماد قوات الدعم السريع على هؤلاء المرتزقة، مما يُحولها من ميليشيا محلية إلى جيش مرتزقة عابر للحدود. فهؤلاء لا يحملون أي ذاكرة مشتركة مع أرض السودان ولا يشعرون بأي التزام أخلاقي تجاه المدنيين. ولهذا غالبًا ما تكون الفظائع التي يرتكبونها أشد قسوة وتجريدًا من الإنسانية. وتكررت شهادات من نازحين تؤكد أن المهاجمين لا يتحدثون اللهجات السودانية بل لغات مثل التشادية، الفولانية أو السواحلية، وفي بعض الحالات يتواصلون بالإيماءات أو العنف فقط.
هذا الواقع يضع السودان على مسار انهيار كارثي، يشبه ما حدث في دول مثل الكونغو الديمقراطية، الصومال أو ليبيا بعد القذافي. ففي هذه السياقات، يصبح السلاح هو الحَكم، ويُسحق المدنيون بلا صوت أو حماية. لقد تحولت حرب السودان من مواجهة سياسية إلى سباق بين قوافل النهب. وما يعمّق المأساة هو صمت المجتمع الدولي، وتردد الجهات الإنسانية، وغياب الإدانة العالمية الحاسمة.
في جوهر الأمر، لم تعد هذه حربًا حول السلطة الوطنية، بل صراعًا على ما تبقى من الدولة. لم يعد النصر يعني رفع علم على الخرطوم، بل السيطرة على طرق التهريب، ومخازن الذهب، وشبكات السوق السوداء. ومع غياب العدالة، وانهيار القضاء، وانشغال الضمير العالمي، ستستمر آلة العنف في طحن ما تبقى من السودان.
الامتداد الإقليمي: كيف تؤجج الحرب عدم الاستقرار خارج حدود السودان
إن تبعات الحرب السودانية التي يقودها المرتزقة لا تقتصر على حدود الدولة. فاندفاع المقاتلين الأجانب من دول مجاورة مثل تشاد، وأفريقيا الوسطى، وليبيا لا يزعزع استقرار السودان فحسب، بل يُصدّر الفوضى إلى تلك الدول الهشة أصلًا. ففي تشاد، أبلغت المجتمعات عن تصاعد الغارات عبر الحدود وتهريب الأسلحة. وفي أفريقيا الوسطى، أعادت الحرب تنشيط ميليشيات كانت خاملة، ذات روابط إثنية أو قبلية بمقاتلين ينشطون في دارفور. أما ليبيا، المنقسمة أصلاً بعد سنوات من الصراع، فقد أصبحت مركزًا للعبور والتجارة في السيارات المنهوبة والسلاح.
وعلاوة على ذلك، فإن حركة المرتزقة والأسلحة عبر هذه الحدود المتسربة تنذر بإشعال نزاع إقليمي أوسع، قد يجتذب أطرافًا متعارضة من حكومات إقليمية إلى شبكات إجرامية عابرة للحدود. وإذا تُرك الأمر دون تدخل، فقد تصبح الحرب السودانية نموذجًا لتمردات مرتزقة مستقبلية في الساحل، تُقوّض السيادة وتُسقط ما تبقى من مؤسسات الدول المجاورة.
فالحرب في السودان، بصيغتها الحالية، لم تعد مجرد مأساة وطنية، بل باتت أزمة إقليمية وأخلاقية. إن اعتماد الدعم السريع على المرتزقة الأجانب لم يعمّق الكارثة الإنسانية فحسب، بل أرسي سابقة خطيرة: أن يتحول النزاع المسلح إلى سوق إقليمي للنهب والتهريب والإجرام العابر للحدود.
وبينما يناقش الفاعلون الدوليون خطط السلام والممرات الإنسانية، فإن الواقع على الأرض هو أن النسيج الاجتماعي للسودان يُمزق يومًا بعد يوم على يد مقاتلين أجانب لا شأن لهم بمستقبل البلد. وكل تأخير في التحرك، وكل تغاضٍ، لا يزيد إلا من تمكين اقتصاد العنف، وتسريع تحويل السودان من دولة ذات سيادة إلى منطقة رمادية يحكمها أمراء الحرب.
ما لم تُفرض آليات للمحاسبة، ويتم تعطيل مسارات التجنيد والتهريب عبر الحدود، فستبقى قاعدة النهب أقوى من منطق السلام. قد ينجو السودان عسكريًا، لكنه يُفرَّغ أخلاقيًا واجتماعيًا ومؤسسيًا من الداخل.



