رأي

الذاكرة السودانية: ضباط من الجيش يرجحون كفة الاستقلال

 

محمد الشيخ حسين

بعد 70 عاما على إعلان الحكم الذاتي وتشكيل أول حكومة وطنية في البلاد تمهيدا لاستقلال السودان، يظل الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري علامة مضيئة على عظمة وتجرد القيادات السودانية التي قادت البلاد للتحرر من كافة أشكال الاستعمار، إذ كان الأزهري واسطة العقد في كوكبة مضيئة من الرجال الأفذاذ الذين قادوا البلاد إلى الاستقلال التام.

ثورة 23 يوليو

من جانبها سعت مصر تحت حكم ثورة 23 يوليو 1952 إلى التصالح مع مختلف القوى السياسية السودانية متجاوزة تاريخ مرير من الاستغلال من قبل الحكومات التركية – المصرية ومن ثم الحكومات البريطانية ــ المصرية.

وظهر هذا السعي عمليا بوعد اللواء محمد نجيب للأحزاب التي تدعو إلى استقلال السودان تماما عن مصر، بمنحهم حقهم في تقرير مصير السودان من جهة، وسعيه في دمج الأحزاب الاتحادية التي تدعو إلى نوع من الشراكة مع مصر، حيث كان لكل حزب رؤيته الخاصة لهذه الشراكة.

وتكللت مساعي اللواء محمد نجيب بالنجاح، حيث اتفقت الأحزاب الاتحادية الثلاثة على تشكيل حزب جديد باسم الحزب الوطني الاتحادي وتقلد الأزهري رئاسته.

كما قدمت ثورة ‏23‏ يوليو ‏1952‏ المصرية دعما سياسيا كبيرا للأزهري وللسودان‏، تمثل في مذكرة للحكومة البريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير بالسودان. وانتهت متابعة مصر لتلك المذكرة بتوقيع اتفاقية السودان في ‏12‏ فبراير‏1953‏ بين الحكومة المصرية برئاسة اللواء محمد نجيب وعن الحكومة البريطانية سير رالف ستيفنسون السفير البريطاني في مصر‏.

الحكم الذاتي

كانت اتفاقية الحكم الذاتي واضحة المعالم: تنظيم الانتخابات وقيام برلمان وحكومة انتقالية لتنفيذ السودنة والجلاء، ثم تليها الخطوة الأخطر وهي الاستفتاء حول تقرير المصير، ثم انتخاب جمعية تأسيسية لإقرار دستور دائم.

كان الأزهري يعلم أن طريق الاستفتاء طويل ووعر وربما يسحب البساط منه. وهنا بدأ الأزهري في التفكير في البديل الذي يوافق عليه الشعب كله ويجبر الساسة كلهم بمن فيهم خصومه ودولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا على قبول الأمر الواقع.

غير أن تلك الاتفاقية‏ قادت إلى إجراء انتخابات في السودان، وشكلت لها لجنة من سبعة أعضاء. وحصد الأزهري في تلك الانتخابات ثمرة كفاح جيله وسعيه الدؤوب لنيل الاستقلال‏،‏ إذ فاز: الحزب الوطني الاتحادي بـ 50 مقعدا من ‏97‏ مقعدا‏، حزب الأمة بـ ‏22 مقعدا، المستقلون بـ 12 ‏مقعدا‏، حزب الأحرار الجنوبي بـ ‏9‏ مقاعد‏، الجمهوري الاشتراكي بـ ‏3‏ مقاعد‏،‏ والشيوعيون بمقعد واحد‏.

وفي مجلس الشيوخ فاز: الحزب الوطني الاتحادي بـ 22‏ مقعدا من ‏30‏ مقعدا، حزب الأمة بـ ‏3‏ مقاعد، والمستقلين بمقعدين‏.

أول وزارة سودانية

تم تشكيل أول وزارة سودانية برئاسة الأزهري في‏9‏ يناير‏1954‏ م‏،‏ باشرت أعمالها منذ أن جثم الاستعمار البريطاني علي صدر وادي النيل منذ‏1882‏ م‏.‏

من الإشارات اللطيفة في شخصية الأزهري التي ظهرت في تلك الجلسة التاريخية ما نقله الأستاذ عبد الرحمن أحمد مهدي مدير مكتب الرئيس إسماعيل الأزهري في فترة ترؤسه لمجلس السيادة بعد ثورة أكتوبر 1964، في كتابه (حكايات عن الزعيم الإنسان إسماعيل الأزهري) على لسان البروفسير يوسف بدري الذي دائما ما كان يوصف الأزهري بـ (رجل دولة).

جاء في كتاب الأستاذ عبد الرحمن أحمد مهدي (حكى لي البروفسير يوسف بدري أن والده الشيخ بابكر بدري ذهب لحضور جلسة البرلمان التاريخية التي كان مقررا فيها انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء بعد فوز الحزب الوطني الاتحادي بالأغلبية المطلقة في الانتخابات، وبالطبع كان الأزهري في قمة بهجته بتلك اللحظات التي جاءت تتويجا لنضاله السياسي. لمح سيادته (الأزهري) الشيخ بابكر بدري يتوكأ في طريقه لداخل مبنى البرلمان، فاتجه نحوه وأخذه بيده حتى أوصله إلى مقعده داخل القاعة، التقط مندوب صحيفة التايمز الصورة وظهرت على صفحات الجريدة وعليها تعليق خلاصته كيف يوجه رئيس الوزراء في تلك اللحظات التاريخية اهتمامه برجل التعليم!! أطلع السيد يوسف والده على الصورة والتعليق، فقال له الشيخ (لا مجال للعجب فهذا إسماعيل الأزهري).

وهذا التعبير الدقيق من الشيخ بابكر بدري، ينبغي أن يكون عنوانا رئيسيا للكتابة عن مسيرة الأزهري، ذلك أن تاريخ السودان المكتوب بأيدي الأجانب أو السودانيين تراه لا يسهب سهوا أو عمدا عن تدوين مآثر الأزهري الشخصية والعملية. فالأزهري بحسب من عاصروه وعايشوه لحظة بلحظة قدم كحاكم للبلاد تجربة غنية وفريدة على مستوى الاقليم والعالم، تستحق أن تروى وأن تتخذ كمثال، لما يجب أن يكون عليه ولاة الأمر على البلاد والعباد.

المثابرة والولاء

إن أكثر ما يرسخ في الذهن عن الأزهري حسب شهادة قدمها لي البروفسير محمد عمر بشير في يونيو 1985 (المثابرة والولاء الشديد والإغراق في السودانية والمعلم الماهر والرجل المنهجي، إضافة إلى عدم الحدة والقدرة على ملاءمة الناس من حوله). وأستطيع أن أؤكد أن البروفسير قد شرع في تأليف كتاب عن الأزهري تنفيذا لوعد قطعه على نفسه أثناء إعداده لمؤلفه (تاريخ الحركة الوطنية) الذي يعتبر الأزهري أحد المصادر الأساسية له).

وهذه شهادة أخرى عن شخصية الأزهري يقدمها السير قوين بل آخر وكيل لوزارة الداخلية قبل الاستقلال، جاءت في كتابه (ظلال على الرمال) الذي ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ بشير محمد سعيد. ونص الشهادة (على الرغم من أني سمعت كثيرا عن السيد إسماعيل الأزهري بوصفه رئيسا لمؤتمر الخريجين العام ورئيسا لحزب الأشقاء المتطرف ورئيسا للحزب الوطني الاتحادي، فإنه لم تتح لي الفرصة لإنشاء صلات معه، إلا عندما صار رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية. وظلت علاقتنا منذ ذلك الوقت متصلة ويومية. وكانت نظاراته ذات الإطارات المذهبة تخفي وراءها شخصية دافئة القلب، كريمة المظهر، طموحة ومتماسكة. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى حاولت جاهدا أن أتقرب إليه وأصادقه وأحرز ثقته، مما يمكنني من التأثير على مجرى الأحداث، ولكن السبيل إلى ذلك لم يكن سهلا. وأقر أن الأزهري لم يحاول أن يلقي تبعة أحداث مارس المؤسفة علينا، كما لم يتخذ أي إجراء ضد حزب الأمة أو الأنصار).

طريق الاستقلال

عندما نعود إلى الطريق الذي قاد البلاد إلى الاستقلال، نلاحظ أن أحداث مارس 1954 تركت أثرا واضحا على أفكار الأزهري، إذ أخذ ينظر للأمور بواقعية، رغم الضغوط الشديدة التي ظل يمارسها عليه بعض المتطرفين من مؤيديه، حيث اعترف بالحكمة التي عالج بها أحداث مارس، خصومه قبل أصدقائه، وهنا شهادة السير روبرت هاو حاكم عام السودان (إن الأزهري كان رجلا يتمتع بسعة صدر عالية وقدر عال من التسامح).

وجاءت هذه الشهادة بعد الخطاب الذي بعث به الأزهري إليه طالبا تخفيف حكم الإعدام على الذين ارتكبوا تلك الأحداث من القيادات الوسيطة من الأنصار. وكان الأزهري ضد أن يبدأ السودان استقلاله بأحكام بالإعدام.

على الصعيد السياسي هناك سؤال قديم جديد جديد كيف تم استقلال السودان؟

واقع الحال أن الأزهري ركز على الاستقلال، واستطاع تخطي الفخاخ المنصوبة من مسألة الاستفتاء على تقرير المصير، كواجب أساسي للجمعية التأسيسية وفق ثلاثة خيارات: الاستقلال التام، الاستقلال على أن يكون السودان جزءا من رابطة الدول البريطانية (الكمنولث)، الاستقلال مع الاتحاد مع مصر بوجه ما.

وفق هذه الخيارات تمت الانتخابات، وفازت بالأغلبية مجموعة الأحزاب التي كانت تنادي بالارتباط مع مصر تحت اسم الحزب الوطني الاتحادي، وكانت المعارضة من حزب الأمة الذي كان ينادي باستقلال السودان.

استقلال السودان

عودة للسؤال كيف تم استقلال السودان؟ يقدم الأميرالاي محي الدين أحمد عبد الله في كتابه (للتاريخ ومن أجل التاريخ) الصادر عن المطبعة العسكرية. جاء في الإجابة (حينما أقرت الجمعية التشريعية طلب الحكومة بسودنة الوظائف ذات الأهمية عارض كلاميا السكرتير الإداري الذي كان بمثابة رئيس الوزراء في الدول المستقلة وهو السير جيمس روبرتسون، وطلب أن يعطي الإنجليز فرصة عشرين سنة لتدريب السودانيين للحكم، لكن لم يؤخذ بقوله، وكانت وظيفته أول وظيفة تمت سودنتها. وبعد أن تمت السودنة في كل الوظائف الكبرى، وقرب موعد اتخاذ القرار تضاربت الأقوال في نوع الحكم الذي يرتضيه أعضاء الجمعية فمن قائل بإن حزب الأمة الذي ينادي بالاستقلال هدفه الاستقلال تحت رابطة الدول البريطانية، ومن قائل بإن الاتحاديين سيطلبون الاتحاد مع مصر أو الارتباط بها بشكل أو آخر. وسط هذه الأقوال المتضاربة اجتمع نفر من القوات المسلحة (قوة دفاع السودان) قبل السودنة في منزل البكباشي حسين علي كرار، وعلى ما أذكر كانوا القائمقامان: محي الدين أحمد عبد الله، محمد أحمد عروة، والبكباشية: عبد الرحيم شنان، يوسف الجاك طه، محمد إدريس عبد الله، عمر الحاج موسى، وحسين علي كرار. وأسأل الله أن لا تكون الذاكرة خانتني بأن أضفت اسما أو حذفت آخر دون قصد. وقد كان لكل من هؤلاء الضباط آخرين يدينون لهم بالولاء والصداقة أي كانت لهم قوة التأثير على غيرهم دون ضغط أو ارهاب. وكنا قد سمعنا بأن المصريين يريدون أن يدمجوا السودان معهم وأن حزب الأمة يريد رابطة الدول البريطانية، فأجمعنا في ذلك الاجتماع على أن الجمعية إن لم تقرر لنا الاستقلال الكامل غير المشروط، فعلينا أن نعبئ قوة ندخل بها المجلس لنجبر الأعضاء بقوة السلاح على هذا المطلب. ولم ينفض اجتماعنا بعد إذ حضر باحثا عني أخي الكبير السيد حماد توفيق لاستشارتي في زواج إبنته من أحد الضباط، وبعد أن ذكيته له وهو الملازم محمد علي الحاج أخبرته بقرارنا الذي اتخذناه وحثه أن يتبنى ذلك ويكون لهم أشرف من أن يتدخل الجيش وتصيبهم وصمة عار لن يمحوها الزمن. وبعد أيام من كلامي مع حماد ظهرت التباشير على أن الأعضاء كلهم وبكامل عدديتهم سيصوتون على استقلال السودان الكامل. وثبت لي ذلك حينما طلبني السيد إسماعيل الأزهري الذي كان بالإضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء وزيرا للدفاع والذي كان يستشيرني في معظم الأوقات عن أعمال الجيش، ولما ذهبت له قال لي الرئيس بالحرف الواحد اطمنئوا يامحي الدين، أنا لا أريد تدخل الجيش، وإن لم تقرني الجمعية سأعلن استقلال السودان الكامل من الشارع، وتم ذلك بالفعل ومن داخل البرلمان وبالإجماع ونال السودان استقلاله في مطلع 1956م).

انتهت إفادة الأميرالاي محي الدين أحمد عبد الله، ولعل الاستطراد في تفاصيلها يأتي لتأكيد رؤيتنا السابقة أن الأزهري منذ البدايات الأولى كان مشغول الذهن بتحقيق الاستقلال التام للبلاد.

وتؤيد وقائع الأحوال هذه الرؤية، لأن الأزهري كعادته منذ أن كان معلماً لا يستعجل الأشياء بل يربطها بالمسببات. وخاطب الأزهري أعضاء البرلمان في الجلسة التي سبقت جلسة الإثنين الموافق 19 ديسمبر الشهيرة: إن مهمة حكومتي محددة في إتمام السودنة وقد تمت، وإتمام الجلاء وقد تم، ثم جمع كلمة السودانيين حول الاستقلال التام وقد تم هذا أيضا، ولم يبق إلا إعلانه من داخل هذا المجلس يوم الإثنين القادم إن شاء الله. وأرجو ألا يفوت حضرات نواب هذا المجلس الموقر حكومة ومعارضة قطاف هذا الثمار الدانية، وأرجو أن يقدموا عليه، ويقروه بكل قوة وشجاعة، وأؤكد أن حكومتي لم توقع اتفاقا أو معاهدة مع أي شخص كان أو حكومة، ولم تتقدم حكومتي بشيء مثل هذا إلى هذا البرلمان، ولن تتقدم به في المستقبل إن شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى