رأي

الحل السوداني إلى مفاوضات جنيف

ناصر السيد النور

ربما يعلق السودانيون الآمال الكبيرة على هذه الجولة الجديدة من المفاوضات حول الأزمة السودانية، المزمع عقدها في الرابع عشر من الشهر الجاري أغسطس بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحت رعاية الأمم المتحدة، للتوصل إلى وقف نهائي للحرب الجارية منذ الخامس عشر من أبريل من العام الماضي، وكانت الأمم المتحدة قد دعت إليها طرفي الحرب. وتعد مفاوضات جنيف منحى جديداً في مسار التفاوض السوداني، وتطوراً لافتاً في الأزمة السودانية، بما لديها من ثقل تمثيل دولي.
وكما أشارت التقارير الصحافية إلى حضور وزير الخارجية الأمريكي بلينكن شخصيا، الذي صرح بأن المفاوضات تهدف إلى اتفاق وطني جامع لإيقاف العنف وإيصال المساعدات للمحتاجين، وإيجاد آلية لمراقبة أي اتفاق قد يتم التوصل إليه. فالولايات المتحدة كانت راعية لأول مبادرة مفاوضات في ما عرف بمنبر جدة، برعاية ثنائية أمريكية سعودية. ولم تعد له فاعلية مؤثرة في مجريات الحرب، وإن ظل المنبر الوحيد المتفق عليه من جانب طرفي الصراع، من بين كل المبادرات التي طرحت على المستوى الإقليمي والدولي. ومع التدهور الذي يشهده السودان على الصعيد الإنساني من مجاعة تفتك بسكانه، جراء الحرب، تتعالى الأصوات غير العسكرية لإيقاف الحرب بحثاً عن سلام بدا مستحيلاً في سياق مواقف الأطراف المتقاتلة من قضية التفاوض والسلام.

وقد شهدت العاصمة السويسرية جنيف في الأسبوعين الماضيين، مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بين طرفي النزاع، تتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين وهي المرة الأولى التي يوافق الطرفان على مناقشة مسألة تتعلق بالأمور غير العسكرية، منذ تعليق مفاوضات منبر جدة في ديسمبر الماضي، وانتهى التفاوض دون التوصل إلى اتفاق، ولكن أهمية المفاوضات المقبلة تحت مظلة الأمم المتحدة ومشاركة الاتحاد الافريقي ودولة مصر والإمارات العربية كمراقبين، بالإضافة إلى الراعيين الأساسيين الولايات المتحدة والمملكة السعودية. وتشمل هذه القائمة ما هو على خلاف، بل ومتهم من الحكومة السودانية، بدعم قوات الدعم السريع، ما يزيد من حجم المحاذير والتحفظات المبطنة والمعلنة، من جانب الحكومة السودانية، تجاه دول ومنظمات إقليمية بعينها.
وكالعادة ترددت قوات الجيش والحكومة السودانية بقبول الدعوة، وتضاربت تصريحاتها بشأن حضور وفدها، إلى أن وافقت على حضور المفاوضات أخيرا في بيان الخارجية السودانية الثلاثاء الماضي بشروط. والشروط التي أفصح عنها البيان، وردت في بنود منبر جدة، وبعض مما جاء على لسان قادة الجيش. وفي الجانب الآخر رحبت قوات الدعم السريع ـ كالعادة- وأطياف أخرى من القوى المدنية بالمفاوضات، إضافة لقوى أخرى تحاول اللحاق بالوفود المفاوضة، كالحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش. وقد تأثرت الرؤية الرسمية للمفاوضات، بالتعقيدات التي خلفتها الحرب على القراءة السياسية لمجريات الحل السلمي، وما أحدثته من واقع سياسي جديد، منقسم على مواقف تحددها المسافة بين نيران الطرفين، أكثر من التوافق السياسي، في حالة من الانقسامات العسكرية والسياسية لم تشهدها البلاد. ومن ثم فإن القوى السياسية التي تبحث عن مقعد حول مائدة التفاوض، لم تسأل نفسها عن شرعية هذا التمثيل، وموقعها في إدارة الصراع. ولكن ما الجديد الذي تنطوي عليه مفاوضات جنيف، خلافاً لما تم من تفاوض منقوص في السابق، وهل تهيأت الأوضاع الدولية، بما يتيح تدخلاً مقبولاً للأطراف، بالجلوس مجددا حول مائدة التفاوض؟ وهل ستكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الموقف السوداني المتأزم؟ إن ما دفع إلى هذه المفاوضات هو ما أحدثته الحرب على المستوى الإنساني، حسبما حملته تقارير المنظمات الدولية من حالات النزوح والقتل والاغتصاب المرتبكة بحق المدنيين، مع إطالة الحرب وتعنت الطرفين على حسمها عسكرياً، وفشل جهود الواسطة التي بذلت لإقناع الطرفين بأهمية المسار التفاوضي. فإذا كان الموقف الدولي، وفق سياقات المنظومات الدولية (الأمم المتحدة) والإقليمية قليلة الأثر (منظمة الإيغاد، جامعة الدول العربية) مقروءا مع نصوص المواثيق والاتفاقيات، بما تفسره من تدخل ملزم، بما لا يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، إضافة لجماعات ودول أخرى لها في الصراع الدائر أثر كاف لإدارة الصراع؛ سيضع مفاوضات جنيف تحت تركيز دولي كبير. ومن هنا ربما تأتي أهمية الدور الأمريكي في ظل نهايات فترة الإدارة الأمريكية للرئيس بايدن، وما يمكن أن تقوم به ممثلة في وزير خارجيتها على الانتخابات الأمريكية المقبلة. وظل هاجس إنجاز السلام للإدارات الأمريكية المختلفة في نهاية حقب حكومتها عاملا براغماتياً في خوض غمار الانتخابات الرئاسية.

الاختلاف حول تقدير الموقف التفاوضي، لكل من الطرفين قائم على العمليات العسكرية على الأرض، المتغيرة من حيث السيطرة العسكرية بالمعني الجغرافي، وحدود المساحات التي أصبحت خارج دائرة الجيش بالمعنى العسكري. وهذا ما يميل إليه دعاة الحرب من تشدد موقفهم تجاه مفاوضات جنيف، بما يعني استسلاماً للأمر الواقع وبما يعني حرفياً اعترافاً بهزيمة للجيش ووجود لقوات الدعم السريع يشرعه اعتراف دولي عبر شروط التفاوض ومخرجاتها. وربما يرغب الجيش التوصل إلى مفاوضات لا تؤدي إلى ما قد يعده خضوعا لشروط حققها الطرف الآخر (قوات الدعم السريع) تعمل المفاوضات على تثبيتها، إن لم يكن بمنطق الواقع فبمنطق طبيعة المعادلة العسكرية بين الطرفين. فالاختلاف بين الطرفين على مستوى القوة لا يمكن نفي أثره على طاولة المفاوضات.
وتضع الدعوة إلى مؤتمر جنيف القوى المتصارعة أمام موقف بالغ الحرج، لما وصلت إليه أحوال السكان جراء الحرب، وبالضغط المحلي والدولي، فأصبحت المسؤولية السياسية والأخلاقية تتجاوز فنيات التفاوض وشروطه، إلى تحدٍ لا يملك طرفا الصراع مقاومته في واقع الظروف الحالية، ولكن هذه المفاوضات المتوقعة لا تحتمل المناورات التي درج عليها الطرفان بأساليبهما التكتيكية، لأن وطأة الثقل الدولي ورقابة الزخم الإعلامي العالمي يحتم على الأطراف التوصل، أيا تكن تفاصيل مفاوضات جنيف، عملياً إلى إيقاف الحرب.. وكتبت الباحثة المصرية أماني الطويل مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عن قمة رئاسية، بأن القاهرة تعيد هندسة مشهد محاولة وقف إطلاق النار في السودان. قمة رباعية في العلمين للأطراف الإقليمية الفاعلة في الأزمة السودانية، أظن مشهد سويسرا سوف يتم إعادة ترتيبه ليلبي المصلحة السودانية في المقام الأول.. هذا الاستباق أو التمهيد على المستوى الإقليمي يشير إلى أهمية التفاوض في جنيف، وبأن الوقت قد حان لتحقيق كل ما من شأنه إيقاف الحرب.
إذن بات المضي قدماً في حل ملف الأزمة السودانية عن طريق التفاوض، خياراً حتمياً لا مناص عنه، فلم يتبق ما يمكن أن تحسمه الحرب وأن تقود إليه أكثر مما أحدثته من فظائع ودمار وتهديد بتلاشي الدولة السودانية. فالقوى السياسية والعسكرية التي أدت خلافاتها إلى اندلاع الحرب لم يعد في إمكانها التحمل، وهي تواجه موقفاً قانونياً وإنسانياً تجاه ما نتج عن حرب أساءت فيها التقديرات وافتقدت بالتالي إلى ما يجعل التوافق السياسي مدخلا نحو سلام دائم.

“القدس العربي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى