حوارات

“الترا سودان” يقلّب مع د. خالد التيجاني النور دواعي الحرب وتداعياتها

– “يمثّل حدث الحرب تمظهراً لفشل الدولة السودانية.. ويُقرأ في سياق التطور السياسي كصراع سلطة وثروة بامتياز!”

– “العامل الجديد هو بروز الدعم السريع واختراقه لمؤسسات الدولة وتموضعه في قلب قوى عنفها”

– “ما جرى يوم الخامس عشر من أبريل هو انقلاب قام به الدعم السريع من خارج مؤسسة الجيش وبتواطؤ من بعض القوى السياسية والمدنية”.

– “استرداد الإذاعة أعاد الثقة في الجيش وأثبت نجاعة إستراتيجيات إدارة المعركة المعتمدة، وهذا النصر سينعكس على اصطفافات القوى المدنية المؤيدة للجيش والمتحالفة مع الدعم السريع”

– “عجز الدعم السريع عن توظيف الإذاعة في التبشير بمشروعه المزعوم وقاده عجزه لإحداث تدمير هائل في المباني والأجهزة والمعدات”

– “ظلت الطبقة السياسية منذ مؤتمر الخريجين تقرر في قضايا الشعب نيابة عنه وتدعي تمثيله دون تفويض وبغير روح الآباء المؤسسين”

– “(لا للحرب) محض تشويش وتغبيش للوعي المتصل بحقانية الدولة وعدالة حربها”

– “لا يمكن للإسلاميين أن يعودوا للسلطة على رافعة الحرب..”

– “مثلّت تجربة الإنقاذ بعقودها الثلاثة التجلي الأبرز لعجز النخبة والنظام السياسي السوداني”

– “نصحت عبدالله حمدوك ألا يخشى النقد لأن فيه عافية نظامه وقوة حكمه وحيوية حكومته”

 

خالد التيجاني النور صحافي وكاتب وباحث في الاقتصاد السياسي للتنمية، ويصح أن يقال فيه أيضا إنه ناقد سياسي بامتياز، وهي مهمة ضنينة على غير أهلها. كان من قادة الاتجاه الإسلامي في جامعة الخرطوم في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، حيث شغل منصب سكرتير عام لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وعضوية اللجنة التنفيذية لثلاث دورات بين عامي 1980 و 1983.

امتهن النشر والعمل الصحافي لأربعة عقود، عمل مراسلا لوكالة يونايتد برس في القرن الإفريقي لـ (13) عاما ولعدد من الصحف، شارك في تأسيس عدد من المشاريع الصحافية من بينها جريدة “الصحافي الدولي” أواخر القرن المنصرم، وكان رئيسا لتحريرها، وأسس وترأس تحرير جريدة “إيلاف” الأسبوعية الاقتصادية منذ العام 2004. وانخرط التيجاني في العديد من المشروعات الإصلاحية في دوائر الحركة الإسلامية، من بينها المشاركة في تأسيس “الحركة الوطنية للتغيير”، و المبادرات الحوارية في الفضاء الوطني من بينها “مبادرة السلام والإصلاح” المعروفة باسم مجموعة الـ (52). أصدر كتابين نقديين لجوانب من سياسات نظام الإنقاذ هما “الخيار صفر”، و”نصيبي من النصيحة”، وشارك في تأليف عدد من الكتب من بينها “حصاد عقد من الأزمة في دارفور”، “الإسلاميون والثورات العربية”، “تجربة حكم الإسلاميين في السودان”، “السودان: سجال الأزمة والبدائل”، ” دروس ستين عاما من الاستقلال”.

“الترا سودان” سعى إلى إجراء حوار معمق مع الدكتور خالد التيجاني النور تأجل أكثر من مرة، فأتى على قدر ليجيب على أسئلة الماضي القريب والحاضر الغريب ويستشرف اتجاهات المستقبل، حيث قرأنا معه دفاتر التجربة الإنقاذية التي أوسعها نقداً، ودلفنا إلى طور الانتقال متدبرين حدث الثورة ومفارقتها الممضة بين الأفق المنشود والنفق المسدود، وانتهينا إلى حرب الخامس عشر من/أبريل وسرديتها المضادة ورهاناتها الإقليمية والدولية، وقاربنا مسارات التسوية السلمية المرجوة على مستوياتها الثلاثة. ولأنه حوار مهم ومطول يحتاج أن يقرأ بعناية بالغة، فإلى مضابطه ومحاوره.

………

تناقضات متراكبة هي ما أنتجت حرباً ضارية تجتاز عمق المركز وتهدد بقاء الدولة.. كيف نفهم حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل بعيداً عن سردياتها؟ كيف نمسك بناظمها المتواري وعوامل اشتعالها في هذا الظرف الدقيق من عمر بلادنا؟

– أرى الحرب الحالية ضمن إطارين: إطار مقروء مع سياق تطور السياسة السودانية أو دولة ما بعد الاستقلال، ويمكن تلخيصه في صراع السلطة والثروة في ظل غياب المشروع الوطني المتصل ببناء الأمة والدولة. ومن جهة أخرى يمكن أن نقرأ حدث الحرب بإعادة تعريفه ضمن سياقه الظرفي، وهو لا يخرج أيضاً عن كونه صراع سلطة وثروة بامتياز ويمثل في أوضح تمظهراته تجلياً لفشل الدولة السودانية. وحين نتتبع الصراع الدائر بين النخب السياسية نجد السمة الغالبة الاستعانة بالمؤسسة العسكرية وتوظيف آلة عنف الدولة في حسم الصراعات المدنية عن طريق الانقلابات، حدث ذلك منذ العام 1958م مروراً بـ1969م وانتهاء إلى 1989م. لكن العامل الجديد في الحرب الحالية هو بروز الدعم السريع الذي تم إنتاجه في ظروف الصراع على السلطة بين أطراف النخبة الانقاذية.

مقاطعاً: كيف حدث ذلك؟

– حين نعود إلى نشأة الدعم السريع في العام 2013م ندرك أن نشأته لم تكن كاستجابة فقط لأحداث دارفور التي مثلت تهديدا جديا لنظام الإنقاذ بعد أن ظن قادته أنهم أنهوا الصراعات المسلحة إلى الأبد مع انخراطهم في تفاهمات عميقة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وتوقيع اتفاقية مشاكوس في العام 2002م ثم توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005م. وما بين هذا وذاك اندلعت أزمة دارفور على نحو عنيف بلغت تخوم المركز بعملية اجتياح خليل إبراهيم لأمدرمان في العام  2008م، وهنا تنتصب مفارقة حقيقية تتعلق بأن المؤسسة العسكرية التي اعتادت توظيف القوات الصديقة في حروبها المتطاولة منذ العام 1955م لم يرق لقادتها أن يمنح الدعم السريع ما نال من حظوة ومكانة تجاوزت حدود الاستخدام المحدود.

مقاطعاً: هل تجاوز رهان إنشاء الدعم السريع مجرد التوظيف العسكري المألوف في إطار الحروب كقوة ساندة؟

– بالضبط! هذا ما جرى، فقد أراد به الرئيس البشير أن يحمي به سلطته التي لم تعد المخاطر تأتيها من خارج النظام مع علو النبرة الإصلاحية وتواتر المذكرات التصحيحية، إذ وجد شباب المؤتمر الوطني في غمرة الربيع العربي وصعود الإسلاميين في دول عربية عديدة على رافعة التغيير الثوري – وجدوا أنهم يقفون في الجانب الخاطئ من التاريخ وأن حركتهم على ما امتازت به من تجربة سياسية تقلبت بين مراحل الكمون والنضال الديمقراطي إلى التمكين انتهت إلى نظام سلطوي محكوم بفرد أوحد. وخاض هؤلاء جولات من التدافع داخل المؤسسات في محطة انتخابات الأمين العام للحركة الإسلامية وما حدث لاحقاً داخل أروقة الوطني بخصوص انتخابات العام 2015م. وما بين هذا وذاك حدث ما عرف بانقلاب ود إبراهيم خواتيم العام 2012م وخروج مجموعة غازي صلاح الدين، قبل أن تزلزل أركان النظام هبة سبتمبر 2013م المدوية واشتعال السياق العام بمطالب الإصلاح وتصحيح المسار وترجمة كل ذلك في المؤتمرات الإصلاحية التي قادها الوطني والتي وظفها البشير في الإطاحة بالحرس القديم؛ هنا نشأت الدعم السريع كقوة ضاربة خارج الإطار المؤسسي للجيش.

لقد برزت الدعم السريع في بيئة صراعية سرعان ما تحولت معها من قوة صديقة ساندة إلى كيان سلطوي في عمق الدولة لها ارتباطات خارجية وحازت أموال وثروات طائلة ونفوذاً اعتبارياً، وتطور دورها في مرحلة ما بعد الثورة بعد إعادة موضعتها في قلب الطور الانتقالي.

وماذا عن السردية المنتشرة حول الحرب بأن من أطلق الرصاصة الأولى هم “كتائب علي كرتي”؟

– هذه السردية تريد أن تخفي حقيقة ما جرى.. وما جرى يوم الخامس عشر من ابريل هو انقلاب مكتمل الأركان ولكنه انقلاب من خارج مؤسسة الجيش عبر عناصر الدعم السريع ورغم الاعداد والترتيب المحكم إلا أنه لم ينجح ولم يستطع أن يبسط هيمنته تماماً..

مقاطعاً: ما الذي أفشله في رأيك؟

– أعتقد أن السبب المباشر هو إرادة الله ولطفه، لأن الحسابات الموضوعية والترتيب والتجهيز والاستعداد كلها كانت في صالح الدعم السريع. سبب آخر أسهم في إخفاق الانقلاب، متعلق في تصوري بفارق الخبرة المؤسسية لصالح الجيش، مهما بدا الجيش غير مستعد وبدا من غدا خصمه جاهزاً وحتى مسيطراً كما شاع بخصوص انتشار الدعم السريع. والسؤال الذي يمكن طرحه: ما هي القيمة التي أفادها الدعم السريع من وجوده داخل القصر الجمهوري؟ هل استطاع أن يدير الدولة من خلاله؟ وبالنسبة للإذاعة (التي استردها الجيش) هل استطاع الدعم السريع أن يوظفها في إطار مشروعه؟! بينما الدولة حاضرة ومستمرة. هذا هو الفارق الجوهري بين المؤسسة مهما اعتراها من قصور وبين كيان لا يمتثل لمنطق المؤسسة.

ولأن الدعم السريع لم يضع أي خطة بديلة في حال فشل انقلابه، تحول بموجب الضربات الموجعة التي وجهها له سلاح الطيران إلى جيش هائم على وجهه فاقد لمعسكراته ومنصات انطلاقه، فاستحالت معاركه من مجرد مواجهة القوات المسلحة إلى الاشتباك مع المدنيين والاستيطان في منازلهم ومرافقهم العامة وأعيانهم المدنية. فأصبح ما يتحكم في الصراع هو التفاعلات الظرفية بين الطرفين بعد أن تلاشى رهان انقلاب الدعم السريع وتبدد منذ الأيام الأولى. وحسب اعتقادي أن المعارك التي دارت لم يقدر لها أن تمضي في هذا الاتجاه فقد أرادها الدعم السريع حرباً خاطفة بغرض استلام السلطة، والجيش نفسه لم يظن أن تستمر الحرب وتمضي في هذا المسار المعقد.

وكيف ترى اتهام الإسلاميين بإشعال الحرب؟ ما هو رهانهم؟ وهل يحتاجون لاسترجاع سلطتهم إحداث حرب مدمرة كهذه؟

– هذا الكلام في رأيي مجانف للصواب، لأن للإسلاميين تجربة سياسية في الوصول إلى السلطة عبر الانقلاب وهم يدركون هذه المسالك جيداً، وإذا أرادوا استعادة سلطتهم فلن يلجأوا إلى إشعال حرب مدمرة واتخاذ خيار خاسر بالكلية كالذي حدث. ومع ذلك فإن الحرب خلقت -بلا مراء- بيئة مواتية لهم جعلتهم يستعيدون موقعاً متقدماً بين القوى السياسية في  الانحياز للمؤسسة العسكرية.

تذهب بعض التحليلات إلى إجراء مقارنة بين حرب أبريل وما عرفت بأحداث المرتزقة في 1976م واجتياح خليل إبراهيم لأم درمان في 2008م؟

– الفارق كبير جداً لجهة أن غزو العاصمة من قبل العدل والمساواة وعناصر الجبهة الوطنية تم من حركات متمردة على الدولة ولديها موقف معارض للنظام القائم وتفتقد العمق الداخلي الذي توافر للدعم السريع لكونه ظل منذ العام 2013م جزءاً من بنية مؤسسات الدولة وقوى عنفها سيما في آخر سنين الإنقاذ وفي طور الانتقال عقب الحادي عشر من أبريل 2019م حيث أصبح قائده نائبا لرئيس المجلس السيادي، فضلاً عن انتشاره الواسع في مركز الدولة ومؤسساتها في القصر الجمهوري وحرم القيادة العامة والإذاعة والتلفزيون وفي مواقع استراتيجية داخل المدن السودانية. وبينما فشلت غزوتي خليل إبراهيم ومحمد نور سعد، كانت عوامل النجاح وافرة في انقلاب الدعم السريع في ظل تجذره في مؤسسات الدولة وتحالفاته مع قوة سياسية وازنة، فضلاً عن الدعم الإقليمي والغطاء الدولي.

متى اقتنع الدعم السريع بضرورة تغيير السلطة بالقوة وفق السردية المضادة للحرب؟

– القضية مرتبطة بالطبيعة التي ترتب بها النظام الانتقالي، وما يعرف بشراكة الرأسين العسكريين، حيث لم تصمد النسخة الأولى من شراكة ابن عوف وكمال عبد المعروف (24) ساعة، بينما الصلة بين البرهان وحميدتي أوثق بحكم العلاقة القديمة بينهما. ومن المعروف أن البرهان أسهم في إنشاء حرس الحدود وكانت العلاقة بينه وحميدتي تتسم بكثير من التناغم والتفاهم. من الواضح أن الخلاف أتى لاحقاً، ومن خلال الوثيقة الدستورية تم ضبط العلاقة بينهما بحسبان أن الدعم السريع يتبع للقائد العام مباشرة، واستمرت هذه العلاقة حتى انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بل إن ممول اعتصام القصر كان بصورة رئيسية الدعم السريع. ومن خلال تصريحات حميدتي الناقدة لقوى الحرية والتغيير نستطيع أن ندرك حجم توافقه مع قيادة الجيش من جهة ونفوره من القوى المدنية من جهة أخرى.

هناك بعض التحليلات ترى أن الخلاف بين الدعم السريع وقيادة القوات المسلحة بدأ يتبلور بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م، وإحساس قائد الدعم السريع بأنه لم ينل ثمرة الانقلاب بما يعزز وضعه في تركيبة السلطة، وأن تيارات الإسلاميين أكثر من أفاد بهذه الإجراءات.. ما هي الأسباب التي جعلته يتنكر للإسلاميين ويكن لهم كل هذا العداء؟

– لم يكن حميدتي ومنظومته يظهران عداءً كبيراً للإسلاميين، حيث كان جزءاً من الترتيب لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر مع قيادة الجيش، وجزءًا من القوى السياسية القريبة من الإسلاميين. غير أن حميدتي لم يكن راضياً عن المسار الذي مضى فيه الانقلاب، فضلاً عن أن طبيعة النظم الانقلابية لا تحتمل أكثر من رأس. هناك دور قام به عبد الرحيم دقلو قائد ثاني الدعم السريع الذي يرتبط بعلاقات مميزة مع قادة الحرية والتغيير، إذ تواصل مع قادة المجلس المركزي محاولاً استدراك ما يمكن استدراكه حيال الانقلاب والتحلل منه بمعادلة جديدة، وقد ترافق ذلك مع خطوات تضمنت جهود اللجنة الرباعية ومبادرة المحامين وما ظهر في خطاب قادة الحرية والتغيير بخصوص تفكيك معسكر الانقلاب عبر ما أضمره من حلف مع الدعم السريع. هنا نشأ الإطار الموضوعي للحلف الجديد: الدعم السريع في مسعاه إلى إعادة موضعته ونزوعه الاستقلالي عن مؤسسة الجيش، والحرية والتغيير في توسلها للقوة العسكرية التي تحمي وجودها وطموحها السلطوي.

أين يمكن أن نجد الأسانيد المعززة لتبلور الحلف الذي أنتجه سياق انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 بين الدعم السريع والحرية والتغيير؟

– تجدها في الأدبيات التي سبقت الاتفاق الإطاري والبيانات السياسية التي نشأت في تلك الفترة، لا سيما في خارطة الطريق ومبادرة المحامين وأخيراً الاتفاق الإطاري، ويستطيع المتتبع أن يستجلي نقاط التوافق بقليل من التبصر في النصوص والمواقف والانحيازات الجديدة الناشئة.

هناك مسألة مهمة لا يتم التطرق إليها كثيراً وهي المبادرة التي طرحها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في يونيو من العام 2021م بغرض تجاوز بيئة المخاطر التي تكتنف الانتقال، حيث وردت إشارة واضحة حول حدة الانقسام المدني المدني والعسكري العسكري وضرورة توسيع قاعدة الانتقال لحماية الفترة الانتقالية من الصراعات التي تهددها وتنعكس على قوام الدولة نفسه، وتم من أجل ذلك تأسيس آلية تنفيذ مبادرة رئيس مجلس الوزراء، وقد كنت أحد أعضائها، وشهدت من داخلها كيف أضاعت القوى المدنية فرصة توسيع قاعدة الانتقال والذهاب إلى أقصى تفاصيل النقيض بتضييقه إلى أدنى حد، ومن ذلك اتهام بعض النظار وشيوخ الطرق الصوفية بانتمائهم للنظام السابق. وفي هذا الإطار أتى مؤتمر قاعة الصداقة في سبتمبر، والذي ارادات به الحرية والتغيير تنصيب نفسها كإطار مرجعي وحيد للانتقال، وهو ما أدى إلى خروج حركات سلام جوبا عنها.

وهذه الخطوة -أعني مبادرة رئيس الوزراء- كان من شأنها أن تجنب البلاد انقلاب أكتوبر الذي تلا انقلاب بكراوي ومن ثم الحرب الحالية إذا أحسن استثمارها، لكن تاريخ السودان السياسي هو في جانب منه تاريخ الفرص المهدرة ونقض المواثيق والعهود.

ليس ذلك فحسب، فكما أن الإقصاء وتغليب أوجه الطموح السلطوي هو ما أنتج الانقلاب، لم تستفد الحرية والتغيير من درس توسيع قاعدة الانتقال في مرحلة الاتفاق الإطاري، ومارست الإقصاء مرة أخرى، وانتهت مؤخراً إلى الاختباء خلف بندقية الدعم السريع لهزيمة بندقية الجيش. وكما نشأ انقلاب 25 أكتوبر من منهج إقصاء الحرية والتغيير وإغلاق الأفق السياسي، خرجت الحرب من فشل انقلاب الدعم السريع الذي أنتجه ذات المنهج الاقصائي.

إلى ماذا تعزي الأزمة الحقيقية للانتقال وقضاياه واشكالياته؟

– المشكلة الحقيقية المرتبطة بطور الانتقال متصلة بتعريف ما حدث! وهي مسألة مهمة في تحديد المسار واكتناهه ومعرفة منطقه الخاص. ويحمد للبروفيسور عطا البطحاني أنه توصل منذ وقت مبكر في يوليو 2019م وقبل توقيع الوثيقة الدستورية إلى تحليل ما جرى في السودان وضمنه كتابه الأثير الذي عالج فيه مسألة الانتقال تحت عنوان: (إشكاليات الانتقال في السودان) وذكر فيه أن السودان مر بخمسة انتقالات رئيسة (انتقال العام 1953 الذي تضمن اتفاقية الحكم الذاتي، وانتقال 1964 عقب ثورة أكتوبر، وانتقال 1985م، وانتقال نيفاشا 2005م، وانتقال 2019م) وتوصل  إلى فشل جميع الانتقالات السودانية، منوهاً إلى أن التجارب الكثيرة التي اجتازتها الخبرة العالمية كونت نظرية علمية حول الانتقال سيما بعد موجات الدمقرطة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي في العام 1989م. وفي سياق معالجته تلك، تناول البطحاني مقاربة صامويل هانتنغتون في تحول النظام إلى نظام آخر عبر ثلاث حالات: عبر الإحلال الثوري الذي يطيح النظام السابق ويقيم نظاماً مغايراً له تماماً، أو عبر التطور الإصلاحي من داخل النظام كما حدث في روسيا على يد ميخائيل غورباتشوف تحت لافتة إعادة الهيكلة (البيريستوريكا) والشفافية (غلاسنوست)، والتي أتت بنظام مغاير للنظام الشيوعي بانتهاج سياسات إصلاحية من الداخل. أو عبر نموذج ثالث أسماه هانتنغتون “منهج التسوية”، كأن تلتقي تطلعات فئات مؤثرة في المجتمع السياسي مع عناصر نافذة داخل مؤسسات النظام في تغيير طبيعته. ويرى البطحاني إمكانية عقد تسوية تاريخية في سودان ما بعد الثورة يتم بموجبها تغيير طبيعة النظام وتأسيسه على هاديات جديدة.

تأسيساً على هذه المقاربة يمكن اعتبار ما جرى في أبريل 2019م  تسوية استجابت لحراك ثوري جيلي شاركت فيه فئات وشرائح كثيرة ومعتبرة من السودانيين بخلاف الانتفاضات الأخرى، وساهمت فيه أطراف السودان التي احتضنت نواة الحراك الجماهيري في الدمازين وعطبرة قبل أن تبلغ الخرطوم. أهم ما في الحراك أنه هو الذي أنتج قواه ونخبه السياسية ولم يُنتج بناء على تخطيطها فهو سابق على قوى الحرية والتغيير، ولا يعدو دور تجمع المهنيين فيه أكثر من التنسيق والتنظيم ورسم المسارات وإعلان المواكب وجداول المظاهرات.

مقاطعا: ما الشواهد على أن ما تم في نيسان/أبريل 2019م هو تسوية وليس ثورة؟

– الإجابة ببساطة كامنة في حدث الاعتصام الذي قصد ساحة القيادة العامة للجيش وليس أي مكان آخر، لأن الجماهير حين ذهبت إلى هناك قصدت الضغط على قيادة الجيش ليقوم بدوره في الإطاحة برأس النظام. هذه العملية على ما فيها من زخم وحضور كثيف وفق ما جرى تنقل مربع الانتقال من الثورة إلى التسوية. أمر آخر مهم ينسف الزعم المتعلق بوصف الجيش بالانتماء إلى الإسلاميين، وهو أن رهان الفئات الثورية على الجيش أتى اتساقاً مع شعار: (الجيش جيش السودان.. الجيش ما جيش كيزان)، وهي شهادة براءة لقيادة اللجنة الأمنية التي عينها البشير من الأدلجة، لأن القوى المدنية والسياسية طالبت قيادة الجيش بالإطاحة بالمكون الأيديولوجي في النظام. حيث آثرت قيادة القوى المدنية أن تفاوض قيادة الجيش وتمنحه مشروعية عوض أن تمضي في مشروعها حتى النهاية اعتماداً على شرعية الاعتصام والانتهاء إلى صيغة الشراكة العسكرية المدنية.

هل كان في وسع قادة التغيير أن تمضي بالمسار الجماهيري إلى نهج ثوري جذري؟ أم أن موازين القوى هي التي رجحت نهج التسوية؟

– لكل شيء ثمنه، وطالما آثر قادة القوى المدنية أن تمضي إلى الشراكة تغليباً للنهج السلمي وتقليلاً للآثار المتوقعة والتضحيات الكبيرة التي يمكن أن تحدث، فعليها أن تتسم بذات الشجاعة في التعاطي مع ما حدث وفق منطق التسوية وليس الثورة الجذرية. إذ لكل مسار استحقاقاته.

منهج التسوية الذي تعثر في مبتدأ الأمر انتهى إلى فض الاعتصام، وهو في نظري يمثل الانقلاب الحقيقي الذي تم بموجبه إبعاد تأثير الاعتصام عن مجريات الأمور السياسية. وبعد مظاهرة الثلاثين من يونيو 2019م، لم تعد القوى المدنية إلى النمط الثوري الجذري، وذهبت مرة أخرى في ترجيح منطق التسوية الذي احتواه الإعلان السياسي في 17 يوليو من نفس العام، ثم توقيع الوثيقة الدستورية بعد شهر.

المشكلة ليست في الانتقال الواعي والمشروط بظروف وتعقيدات المشهد السياسي من التغيير الثوري الجذري إلى منهج التسوية، وإنما المشكلة في خطب ود الشارع بخطاب جذري ينشد ثوريةً لا وجود لها. كنت أتمنى من القادة السياسيين أن يتحلوا بالشجاعة اللازمة ويصارحوا قواعدهم بالحقيقة، وهي أنهم اضطروا إلى مشروع التسوية بسبب الظروف والتعقيدات التي يجتازها الانتقال. تماماً كما فعل نيلسون مانديلا الذي فضل مفاوضة البيض في ظل رفض عناصر حزبه من المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي، وثبت نجاح ما اتخذه من قرار فيما بعد حين غدت جنوب أفريقيا إحدى النماذج الناجحة في تطبيق العدالة الانتقالية. وهنا تنتصب مفارقة وجود قيادة واعية وشجاعة وأخلاقية تخاطب الواقع بعقل وحكمة.

ليس هذا فحسب، فحين نحاكم الانتقال إلى مرجعيته نتفاجأ كيف أن النخبة المدنية نكصت عما أقرته في الوثيقة الدستورية وما أنشأته من هياكل فتحولت الشراكة إلى مجرد تحالف سلطوي محدود الأفق. ورغم أن الوثيقة جعلت الوجود العسكري في مؤسسات الدولة وجوداً شَرفياً، إلا أن الواقع أتى على النقيض من ذلك، حيث رأس العسكر كل اللجان الحيوية في السلام والاقتصاد وإزالة التمكين، فضلاً عن إرجاء تكوين المؤسسات الضرورية كالمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية ومجلس القضاء. ربما لأن في هذه المؤسسات تقييد دور العسكريين والمدنيين معاً في ممارسة السلطة مما يرقى بلا ريب إلى تواطؤ العسكريين والمدنيين في تغييب المؤسسات الضرورية للانتقال عمداً ومع سبق الإصرار لأنها شكلت قيدًا على سلطتهم.

من بنية هذه التناقضات، خرجت لجنة إزالة التمكين للموازنة بين النهج الثوري المعلن وإضمار منهج التسوية الذي انتهى إلى تحالف سلطوي وليس شراكة مدنية عسكرية كما شاع في خطاب السلطة حينذاك. وانعكست طبيعة النظام “الهجين” الناجم عن تسوية، على عمل اللجنة التي  قصد منها دغدغة عواطف الجماهير الثورية وليس تفكيك التمكين كما زعمت، وإلا مالذي يجعل اللجنة تحيل سفيرًا إلى التقاعد بحجة أنه نال منصبه وفق مقتضيات التمكين وتعفي جنرالات الجيش من هذا الإجراء؟! فإما أن الأمر في الإنقاذ كان قائماً على الجدارة في كل مؤسسات الدولة بما فيها الوزارات والهيئات العامة التي أصابتها اللجنة بقراراتها وإما أن اللجنة تجاوزت عن عمد القطاع العسكري والأمني خوفاً من الجيش وامتثالاً لهم، أو في أقل الاعتبارات مجاملة لهم. ولم تكتفِ اللجنة بذلك، إذ جعلت على رأسها جنرالاً عسكرياً، وهي مفارقة تظهر بجلاء عبثيتها في أمر بالغ الجدية.

هذا التلاعب والفهلوة المتراوحة بين ادعاء الثورية واستبطان التسوية، بل والتحالف السلطوي مع اللجنة الأمنية، هو الذي أضاع الثورة وانتقالها لأنها تجاوزت تعريف ما جرى وطبيعة الانتقال الذي تم تحديد وجهته وأهدافه. ولكن هذا التذاكي لم ينطل على الشارع الذي أضحى يخرج ضد حكومة الحرية والتغيير مندداً بسياساتها وخياراتها كما شاهدنا في مواقف كثيرة، فضلاً عن التصدعات السياسية الداخلية بين القوى المكونة للحرية والتغيير.

مقاطعاً: أليس في انقلاب 25 أكتوبر مؤشر على نزاهة واستقامة الحرية والتغيير الثورية كما طفق يردد قاداتها؟

– لا أجد فيما حدث أي مؤشر لنزاهة القوى المدنية والسياسية المنقلب عليها، ومن يقرأ تاريخ الانقلابات في السودان يدرك أن من يتعاون في لعبة السلطة مع العساكر سيكون أول ضحاياهم، “ومن يجعل الضرغام صيداً لبازه تصيده الضرغام فيمن تصيدا” كما قال المتنبئ، ولنا في انقلاب 1958م عبرة، والذي قام به عبد الله خليل مع الجنرال عبود، واتفق معه أن يستعيد السلطة بعد سبعة أشهر، فمكث حتى خلع بثورة في العام 1964م. وكذلك قصة اليسار مع مايو 1969م، والتي انتهت بإعدام قادة الحزب الشيوعي. وقصة الحركة الإسلامية مع الإنقاذ التي انتهت بمفاصلة العام 1999 وأودعت شيخها السجن فترات متباينة واستعدت طيفاً ممن كان حتى الأمس القريب يرتبطون بأخوة تنظيمية راسخة وقوية.

ليست الثورية والاستقامة والنزاهة هي من جعل عسكر الفترة الانتقالية ينقلبون على الطرف المدني في الوثيقة، وإنما بسبب أنهم استنفدوا غرضهم لدى العسكر. والسؤال الذي ينقدح هاهنا: كيف تجرأ العسكريون على ممثلي القوى المدنية في السلطة وقاموا بالانقلاب في طور الانتقال برغم الزخم الثوري الهائل الذي أرساه حراك الجماهير في ديسمبر 2018م والتأييد الدولي والإقليمي؟

في رأيي أن ما جرأ العساكر على المدنيين هو تخليهم عن استحقاق الميدان وانخراطهم في لعبة السلطة والفصال الذي حدث بين قادة الحرية والتغيير والقواعد والتشكيلات الثورية والمدنية. ولأن النخب المدنية سعت إلى توظيف بندقية العسكر عوض الارتكاز على الشرعية الجماهيرية، استخف بها العسكر حين قضوا وطرهم منهم واستتب لهم الأمر. أعتقد أن هذه النخب مدينة للشعب باعتذار ومن ثم اعتزال المشهد لإخفاقهم العظيم وفشلهم الواضح بإضاعة الثورة والانتقال بسبب عجالتهم السلطوية.

كيف ترى موضوع التدخل الدولي في الحرب القائمة لأسباب متعلقة بطموحات المحاور الإقليمية والمصالح الاقتصادية وتعقيدات الصراع الجيوسياسي على البحر الأحمر؟

– عندما نقارن الانتقال الأخير بانتقالي 1964م و1985م سنجد أن الانتقالين أنتجا حكمًا ديمقراطيًا، بينما فشل الانتقال الأخير. والسبب المباشر في ذلك مرده إلى التدخل الدولي والاختطاف الذي تم لانتقال 2019م منذ الوهلة الأولى. وكما أن قادة التغيير هرعت إلى بندقية العسكر ولفظت صوت الشارع، استعانت كذلك بضمانة الخارج على ضمانة الشارع. وهي فضلاً على أنها تتنافى مع روح الثورة، فإنها تعرض المسار كله للضياع لأن المجتمع الدولي لا يرغب إلاّ ولا ذمة في تطلعات الناس ولا يهمه سوى مصالحه.

لقد ذكر السفير السابق للولايات المتحدة في السودان نورمان أندرسون (Norman Anderson) إبان عقد الثمانينات في كتاب له أسماه الديمقراطية في أزمة (Sudan in crisis: The failure of democracy) – ذكر أن الولايات المتحدة لم تدعم الديمقراطية في السودان لأن حكومة الصادق المهدي أمدت جسور العلاقة مع أنظمة لديها عداء مع أمريكا وهي إيران وليبيا، وهو ما يظهر تغليب أمريكا لمصالحها على دعم القيم والأنظمة الديمقراطية. وقد جاء واعتراف ذات الدبلوماسي بهذا الأمر في سياق آخر حيث قال بالنص: “الولايات المتحدة ساعدت على تقويض الديمقراطية السودانية، بما في ذلك دعم واشنطن القوي  للديكتاتور السوداني السابق جعفر النميري، ودعمها الفاتر نسبيًا للديمقراطية وللصادق المهدي”.

حدث هذا بصورة أوضح حيال موقف الولايات المتحدة من انقلاب 25 أكتوبر 2021م، حيث أتت الإجراءات العقابية خجولة حين أعلنوا لائحة ملاحقتهم وحصارهم لشرطة الاحتياطي المركزي. غير أن أكبر وهم لازم الحراك الثوري هو اكتنافه بتأييد المجتمع الدولي بل أكاد أزعم أن واحدة من مثبطات الفترة الانتقالية هي إصغاء القيادة المدنية واعني حمدوك بصفة مباشرة لوعود المجتمع الدولي الخلابة عن إعفاء الديون ورفع السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب وفك العزلة الدولية وهو مسار ابتدأ منذ الإنقاذ. فحكومة الإنقاذ رغم ما رفعته من شعارات حول العزة والاستقلال والشريعة الإسلامية هي أكثر حكومة انخرطت مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب وامتثلت للشرعة الدولية وسعت بكل ما تملك لإرضاء الخارج بعد أن استعدته في عهدها الأول. وكان من ثمرات ذلك النزول على رغبة الإرادة الدولية في سلام نيفاشا التي تم بموجبها مناقشة إعفاء الديون على منهج تقسيم الإرث بسبب الانفصال وتحميل الشمال ديون السودان ضمن ما سمي بالخيار الصفري مقابل مساعدة المجتمع الدولي للدولتين وإدخالهما في مبادرة “هيبيك” لإعفاء الديون. ومع أن السودان كان مستوفياً من الناحية الفنية لعملية الإعفاء إلا أن عدم استكمال خطوات الإعفاء أتت بسبب تمنع الولايات المتحدة لأغراض سياسية. ولما أتت حكومة حمدوك لم تحصل على استحقاق رفع السودان من لائحة الدول الإرهابية مجاناً، بل دفعت (400) مليون دولار تم تجميعها من السوق مما أسهم في انهيار العملة السودانية. وحتى إعفاء الديون لم يتم -أيضاً- مجاناً، هناك (37) دولة قبل السودان تم إعفاؤها ضمن مبادرة “هيبيك” ومن دون أي اشتراطات سياسية، بينما تم الإعفاء في حالة السودان ضمن اشتراطات قاسية ومطلوبات صعبة منها إنفاذ برامج صندوق النقد الدولي الداعية إلى رفع الدعم الذي فجر كل الاحتجاجات منذ سبتمبر 2013م.

لقد مُنحت حكومة الفترة الانتقالية كل ما نالته بأثمان باهظة وكل شعارات فك العزلة والعودة إلى حضن المجتمع الدولي أدنى من الأفق المطلوب وبتكاليف عالية تتنافى مع مزاعم التأييد الدولي للحراك الثوري.

وماذا عن المطامع الإقليمية التي يكثر الحديث عنها وما هي دوافعها باعتقادك؟

– الإشكال الحقيقي متعلق بكون السودان بلد آهل بالموارد في ظل عجز النخب والأنظمة السياسية المتواترة على تفجير طاقات هذه البلد عبر إنجاز برامج تنموية حقيقية بما في ذلك عجز حكومة الإنقاذ التي مكثت ثلاثة عقود في السلطة في إحداث الفرق برغم أنها استطاعت أن تخرج البترول وتسجيلها لأعلى معدلات نمو في السنوات الأولى من الألفية الأولى، وذلك لأنها لم تمتلك برنامجًا اقتصاديًا متكاملًا ومتماسكًا، حيث لم يكن في أعلى مراتبه سوى معالجات وتنفيذ لخطط ومقترحات صندوق النقد الدولي، بخلاف الشعارات الإسلامية المعروفة التي نالت حظها من التنظير في خضم الخطاب الإسلامي المعاصر فتحول الأفق الاقتصادي الممارس إلى نمط ريعي برغم تعدد وثراء الموارد.

لماذا لم تستطع إنجاز مشروعها ونموذجها رغم ما توفر لها من شروط؟

– في رأيي أن أزمة مشروعية نظام الإنقاذ ظلت عبئاً عليها مما جعلها تفضل منح المواطنين مستوى من الرفاه سيما في عشرية ما قبل الانفصال على توجيه مداخيل النفط في تثوير الأوضاع الاقتصادية وبناء التنمية المستدامة. في رأيي أيضًا أن النخبة الانقاذية لم تتحل بالنظرة المستقبلية كونها لم تقم بإنفاذ برنامج اقتصادي متدرج يستوعب صدمة غياب المورد النفطي بعد انفصال الجنوب. الذي كان سبباً في انهيار حكم الإنقاذ.

وبخصوص ما يرد في تحليل الحرب الراهنة بسبب الحصول على موارد السودان بعد إفراغه أو إغراقه بالفوضى، السؤال الذي يطل على نحو أعمق: هل يرنو الغرب إلى مشاهدة أفريقيا وهي تصحو من نومتها العميقة؟ ويمكن أن يتنزل هذا السؤال على السودان بإمكانياته الكامنة. في رأيي، لا يريد الغرب أن تنهض أفريقيا ولا أن تراوح مكانها الحالي، وبذات القدر لا يريد لسودان قوي ناهض ذو وزن أن يتولد من رماد الحروب والصراعات والأزمات. وهذا السؤال يمكن أن يقود إلى بحث مسألة الموارد أو الاعتبارات الجيوسياسية والترجيح بينهما.

ما بين دواعيها وتداعياتها تلوح عوامل بعضها اقتصادي وبعضها سياسي وبعضها اجتماعي وآخر متعلق بالأمن القومي وتعقيدات المشهد الجيوسياسي في المحيط الإقليمي، إلى ماذا تذهب ترجيحاتك؟

– أرى أن العامل الجيوسياسي حاضر في هذه الحرب من خلال تنافس القوى الإقليمية ومن ورائها القوى الدولية على منطقة البحر الأحمر وبيئته الأمنية المضطربة والجاذبة للصراعات. لكن بصفة أكثر تحديداً، أرى في الحرب الحالية رهاناً إسرئيلياً يضمر التضييق على مصر ضمن مقررات أمنها القومي الذي توليه نخبها وقادتها عناية بالغة بعيداً عن المفهوم التوراتي، وإنما بمعناه النظري والتخطيطي المباشر. ستجد أن مصر التي تمثل أكبر مهدد لدولة الكيان مشغولة بالأزمات والحروب المحيطة بجغرافيتها. أنظر ليبيا والسودان وغزة كمسرح صراع مفتوح؛ مصر هي هدف الصراع الإقليمي والدولي من قديم، ومحيطها الحيوي ظل مسرحاً ملتهباً ومشتعلاً بالأزمات!

السودان حاضر في قلب الصراع ليس بسبب موارده فقط وإنما بسبب أهميته في خارطة التأثير الجيوسياسي ومقررات الأمن القومي الإسرائيلي. وهنا يحضرني مقولة ذكرها نتنياهو في مقابلة شدد فيها على التحذير من الإسلام السياسي في إفريقيا ودعوته للأوروبيين بضرورة القضاء عليه، ومن هنا نفهم علو نبرة العداء للإسلاميين والسردية المشهورة في هذا الصدد. لذا ستجد القوى الإقليمية المضادة للإسلام السياسي هي نفسها الداعمة للتطبيع، وقد ترافق دعمها للحكومة السودانية ضمن إنفاذ شرط التطبيع الذي سارع فيه المكون العسكري مع جهد واضح في  كفكفة غلواء الإسلام السياسي بدعم مسارات التغيير التي نشبت في ديسمبر رغم علاقات البشير مع المحور وتوطيدها في إطار عاصفة الحزم. وعموماً لا يمكن أن تقرأ الحرب الحالية بعيداً عن تنافس القوى الإقليمية على السودان، وهو ما يعكس الرهان على عدم تحول الانتقال إلى حكم ديمقراطي يكون فيه للشارع وممثليه صوت وكلمة في كل قرار وموقف.

دول الجوار أيضاً تفكر في السودان في إطار مطامعها وتقاطعات المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية في ظل ضعف الوعي الاستراتيجي بأهمية العامل الخارجي، فضلاً عن تورط النخب السودانية في انعدام الورع الوطني وعدم استنكاف القوى الوطنية في الاستعانة بالخارج في صراعها على السلطة. ستجد كل النخب والأحزاب السياسية قد تورطت في ذلك، ومنها تجربة الجبهة الوطنية التي ضمت الإسلاميين والاتحاديين وحزب الأمة وانطلقوا من صحارى ليبيا ليغزو السودان ويشتبكون مع جيشه، وكذلك تجربة التجمع الوطني الديمقراطي الذين انخرطوا في عمل مسلح ضد الدولة. لن تجد حزباً سياسياً لم يمارس المعارضة المدنية أو المسلحة من الخارج، بل حتى العسكريين المنشقين انخرطوا في عمل مضاد ضد الدولة.

إلى ماذا تعزو هذا الأمر؟

– إلى انعدام الورع الوطني وضعف الشعور الوطني العام المتعلق ببناء الأمة. هناك ملمح واضح لهذا الأمر هو خروج النخب السياسية والإعلامية والثقافية إلى الخارج عند كل أزمة، وعدم الصبر على وعثاء النضال من الداخل، وهذا الأمر تكرر على نحو أوضح في الحرب الماثلة. هناك ولع شديد في العقل الباطن الجمعي بالخارج تلجأ له إذا كان لديك انقلاب أو ثورة أو حرب، فضلاً عن الذهاب إليه في كل تسوية للنزاعات الداخلية. لهذا الأمر صلة أيضاً بتأسيس الدولة السودانية التي أنشأتها إرادة خارجية ولم تنبثق من تطور الاجتماع السياسي السوداني، حيث أتى محمد علي باشا في 1821م وأوجد الكيان المعروف باسم السودان لأهداف متعلقة بالخارج لا تلبية أشواق الداخل. حتى الثورة المهدية التي مثلت مشروع تحرر وطني لم تستطع أن تؤسس أفقاً ونظاماً مجمع عليه بسبب النزوع السلطوي والميل إلى الإقصاء، ثم أتى الاستعمار في 1899م محمولًا على أهداف ورهانات خارجية، بل حتى الحركة الوطنية السودانية كانت مشدودة للأفق الخارجي (ثورة اللواء الأبيض- الاتحاد والترقي – فكرة الوحدة مع مصر)، وحتى نشأة القوى الوطنية المضادة لم تتأسس على أهداف وتطلعات وطنية، وإنما في إطار التخندق في معسكر الإنجليز، فأصبح الصراع بين انصار مصر مع أنصار الإنجليز في السودان.

لقد كان الخارج حاضراً بقوة في العقل السياسي السوداني بشقيه العسكري والمدني في ظل غياب الحساسية من التعامل مع الأجنبي والركاب في إهابه والانضواء تحت لوائه. انظر لكل اتفاقيات السلام ستجدها انعقدت بالخارج (الحكم الذاتي 1953م انعقد في القاهرة، اتفاقية أديس أبابا 1971 انعقدت في أديس أبابا، اتفاق الميرغني – قرنق تم في إثيوبيا، كل جولات السلام التي قادتها الإنقاذ التي تصف نفسها بالاستقلال عن التأثير الأجنبي، كانت بالخارج وآخرها اتفاقية نيفاشا) حتى التفاوض الذي تم بخصوص ديسمبر تم برعاية أجنبية.

ولكي يتحرر العقل السياسي السوداني من الولع بالخارج لا بد من بناء الأمة، وهو أمر لا يحدث في الفراغ وإنما يحتاج إلى الترفع عن الغرض السلطوي والأيديولوجي، ولهذا تُقرأ محاولات الإنقاذ في هذا الصدد على محدوديتها ضمن الإطار الأيديولوجي لها تحت عنوان إعادة صياغة الإنسان السوداني.

إن أكثر ما يشغلني في هذه الحرب النقاش الذي تم مؤخراً على خلفية الانتهاكات الواسعة التي جرت في ولاية الجزيرة من الدعم السريع وتنديد أبناء الجزيرة بهذا المسلك واتهام قادة الجيش بالتلكؤ في حماية المدنيين في الجزيرة، وهو أمر مقلق فعلاً لأنه يشير إلى أن الانقسام قد انتقل من أهل البحر وأهل الغرب إلى انقسام داخل ما يسمى بالمركز بين ولاياته ومناطقه المختلفة بين الجزيرة والشمال ونهر النيل والشرق والنيل الأزرق وسنار. هنا ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالًا ضروريًا: أين كنا حين كانت دارفور تضج بالانتهاكات من قبل هؤلاء الجنجويد؟ وهذا السؤال ينبغي أن يوجه بشكل أكثر تحديداً للإسلاميين الذين تواطأوا في دعم مكونات الجنجويد وسمحوا لها بممارسة الفظائع في حق المكونات الإثنية الأفريقية بدارفور. وليس الإسلاميين فقط، بل حتى القوى السياسية المعارضة للإنقاذ لم تدن الانتهاكات التي جرت في دارفور، وينسحب هذا الاتهام على القوى والفعاليات الاجتماعية.

وبالرجوع إلى الانتهاكات التي جرت في حرب أبريل 2023م، هل نظرة عموم الناس للانتهاكات في الجنينة في يونيو ونوفمبر بذات المستوى من الانفعال والاستنكار لما حدث في الخرطوم والجزيرة؟ هذا السؤال يكشف مدى عمق أزماتنا وميلنا إلى الهويات الجزئية والارتكاس داخل المجزأ  إلى ما هو أكثر تجزئة في ظل النزوع العام للمنطق المناطقي.

على النخب والقوى الاجتماعية أن تغلب مسألة بناء الأمة على مسار التسويات السياسية الفوقية وتحاول ترميم ما أحدثته الحرب من شروخ غائرة في بنية المجتمعات. وكيف لنا أن نتجاوز الانتقام إلى التسامح في ظل ما أطلق عليه بروفيسور ممداني “العدالة للناجين” حتى لا يعيشوا ذات المآسي التي تعرض لها من أهلكته جرائم الحرب وانتهاكاتها وتعدياتها على حق الحياة والكرامة الإنسانية.

ما لم نتجاوز منطق السحق و”بل بس” و”جقم” و”شرك ام زريدو” فلن نتحول إلى أفق بناء الأمة المفضي لبناء الدولة، وهذا لا يعني أن يترك من قام بالجرائم دون عقاب، وإنما بمعنى أن يتم كل ذلك في إطار عدالة انتقالية كالتي جرت في جنوب أفريقيا ورواندا. إن تجربة قوى الحرية والتغيير تمثل كيف أنتج منطق الإقصاء وتصفية حسابها مع جزء من النظام والسير في ذات طريق الإنقاذيين كتمثل معكوس لتجربتهم في القضاء على المسار الثوري في مهده، وكما سبق أن كتبت فإن قحت بخلاف نظرية ابن خلدون التي تقول إن المغلوب يكون مولع بمحاكاة الغالب، كان لديها ولع شديد بمحاكاة المغلوب وتتبع آثاره وأفعاله حذو النعل بالنعل حتى إذا دخلوا جحر ضب خرب دخلوا معهم، وهذا ما تعكسه تجربتهم التي شكلت تمثلاً معكوساً للإنقاذ مع فارق الزمن والسياق الظرفي.

كيف تفسّر ما أطلقته قوى الصراع بضرورة إيقاف الحرب وهي منخرطة في منطق صراع صفري؟ وكيف نفهم لا للحرب كشعار يلامس الأفق المبدئي ويستخدم في ذات الإطار ضمن التكتيك والمناورة السياسية التي اشتهرت بها النخب السياسية؟

– نستطيع أن نسرد من مثالب النخبة السياسية السودانية ما لا يحتمله السياق الحالي، غير أن أهم مثالبها هو ما أطلق عليه الفريضة الغائبة المتعلقة بالإصلاح السياسي عوض الاستمرار في منهج التكتيك والمناورة التي أشرت إليها. لقد قرأت في كل أدبيات ووثائق القوى السياسية فلم أعثر على حديث حول الإصلاح السياسي، وآخر بيان هو اجتماع الكتلة الديمقراطية في جوبا، ولقد خلت الوثيقة من أي إشارة للإصلاح السياسي. ويستوي هذا في بيان تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية “تقدم” ووثيقة الخلاص الوطني لحزب الأمة، وهذا يفسر جدلية هيمنة العسكر على السلطة في السودان بسبب الفراغ السياسي وتوظيف آلة عنف الدولة في الصراع السياسي. والسؤال الآخر: لماذا لم ننجح في إقامة أي انتقال تأسيسي رغم اطاحة ثلاثة أنظمة عسكرية؟ إن المشكلة تكمن في القوى السياسية التي عجزت في تطوير مؤسساتها صوب تطبيق القيم الديمقراطية. وللأسف، ليس ثمة مؤسسات حزبية ديمقراطية تستطيع أن تستوعب وتمارس الديمقراطية داخل الأحزاب، ويكفي أن عملية التداول على رئاسة الأحزاب لا تتم إلا عبر عزرائيل أو بالانشقاقات المتوالية.

المشكلة الأخرى تكمن في افتقار القوى السياسية لروح النقد. وبقيام الحرب الحالية نجد أن الإسلاميين الذين نشطوا في التشنيع على قوى الحرية والتغيير لدعمهم الدعم السريع نسوا أو تناسوا دور نظام الإنقاذ في صنع الدعم السريع والعبث بقضايا الأمن، فضلاً عن الأخطاء العظيمة والفرص المهدرة في بناء نظام سياسي حقيقي وراسخ. وحتى تقديراتهم بخصوص كثير من الأحداث والمواقف نجد أنها قد جانبها الصواب، مثل وصف الثورة بكونها مصنوعة. إذا كان حراك ديسمبر مصنوعاً فكيف يكون الحراك الثوري حقيقي ومتى؟ للأسف الشديد يعتبر الإسلاميون أكثر فصيل مارس نقداً تجاه خصومه وهو أولى بأن يوجهه إلى ذاته. وربما تخشى التنظيمات، ومنها الإسلاميين، من النقد بحجج ومسوغات مختلفة، منها قولهم لا نمنح الآخرين ذريعة للنيل منا، أو بدرجة من الدرجات كما باتوا يدعون، أن النقد المبالغ فيه ينطوي على طهرانية تتنافى مع طبيعة القصور البشري.

وفي المقابل فإن الأحزاب الأخرى لا تقوم بممارسة النقد الذاتي كما تفعل بذات الحماسة في ذم الآخر والتشنيع عليه ووصمه بكل مخازي العالم. حتى الاعتذارات الخجولة التي تتم لا يتأسس عليها أي فعل منتج كالاستقالة والاعتزال مثل اعتذار حميدتي عن انقلاب 25 أكتوبر 2021م الذي كان يستلزم أن يذهب إلى بيته ويستقيل.

بالعودة إلى سؤالك حول شعار لا للحرب وأن الحرب عبثية، فهما لا يعكسان واقع الصراع وعدالة الحرب، لأن حرب أبريل حرب وجودية ضد الدولة السودانية، وغرضها اختطاف الدولة السودانية لصالح مشروع مضاد. وهنا حين يصطف المناصرون للجيش لا يناصرون الجيش إلا من منطلق أنه هو المؤسسة المحتكرة للعنف والممثلة للدولة بصورة حصرية وقطعية وحتمية. والخيار في هذه الحرب بين الدولة واللا دولة، وهنا يصبح الشعار المرفوع “لا للحرب” محض تشويش وتغبيش للوعي المتصل بحقانية الدولة وعدالة حربها.

كيف تقيّم محاولة كثير من النخب السياسية في دمغ طرفي الصراع بممارسة جرائم الحرب وانتهاك قواعد الاشتباك؟

– الطرف المتحالف مع الدعم السريع حين يحاول دائماً أن يساوي الجيش مع الدعم السريع في ارتكاب جرائم الحرب، ويسقط من حسابه مبدأً مهماً في القانون الدولي متعلق بالتمييز. أي تمييز الأهداف والأعيان المدنية والمدنيين والأهداف العسكرية. ومنذ مسار الحرب في اليوم الأول نجد أن الدعم السريع قد حول الحرب إلى استهداف المدنيين وتشريدهم وسلب أصولهم وممتلكاتهم والعبث بحياتهم وأمنهم ومقتنياتهم، والأهم من ذلك كرامتهم الإنسانية، وأعتقد أن الانتقادات الخجولة التي صدرت من قيادات في تقدم (ياسر عرمان وخالد عمر يوسف) بسبب الانتهاكات في الجزيرة لأنها مست بصورة مباشرة قواعدهم الاجتماعية، وهي انتقادات تفضح عجز هذه القيادات بل تواطؤها مع من قام بفعل الانتهاك قصداً كونها غضت الطرف عن انتهاكات الجنينة وما حدث في الخرطوم من قبل وفي أي مكان وصلته عربات الدفع الرباعي المعدة جيداً والتي يعتليها عناصر الدعم السريع في مناطق مختلفة.

المبدأ الآخر متعلق بالنسبة والتناسب بين الخسائر العرضية والآثار الجانبية للمعارك التي تخوضها، ومقايسة ضرب الهدف إلى ما ينتج عنه من أضرار جانبية، وهذه هي الأسباب التي قيدت الجيش عن استخدام القوة المميتة أو المفرطة، بخلاف استخدام سياسة الأرض المحروقة في غزة مثلاً.

هنا الفارق بين الجيش والدعم السريع: الأضرار الناجمة عن هجوم الأول تعتبر عرضية بينما أضرار الثاني بالمدنيين هي قصدية بلا مراء، وهو سلوك ممنهج منذ العام 2003م. إن هذا ما يجعل تنسيقية تقدم تصدر نقدها الخجول الذي واجهه مستشارو الدعم السريع بضراوة وعنف لا يقل عن طبيعة حربهم.

ما رأيك إذن فيما أجرته قوى الحرية والتغيير من نقد وتقويم لتجربتها؟

– هي مؤتمرات شكلية مصنوعة تتسق مع ذات العقلية النخبوية، فضلاً عن إقصائها للأصوات الناقدة في كافة المجالات، ومنها ما جرى معي شخصياً حيث تم شطب اسمي من قائمة المدعوين في الشأن الاقتصادي خوفاً من إسماعهم نقداً جوهرياً حول الممارسة الاقتصادية.

لقد سبق أن نصحت دكتور عبد الله حمدوك بأن لا يتخوف من النقد الإعلامي لأن بيئة النقد والتقويم هي التي من شأنها أن تقويه وتكسبه ونظامه العافية والاستمرارية والحيوية اللازمة. إن مخافة النقد بحسب رأيي غائرة في الشخصية السودانية التي يهاب بعضها الذهاب إلى الطبيب مخافة أن يكتشف علته. وهي ثقافة عامة محصنة ضد النقد.

وفي إطار الثقافة العالمة فإن المثقفين والفاعلين المتصلين والخبراء وأهل الرأي  لم يصبحوا قوة دافعة، وإنما آثروا أن يغدوا مجرد أبواق للسلطة، مع غياب مراكز صنع القرار واتجاهات التفكير والتنوير. انظر مثلاً لحدث الثورة، كيف غاب عن مضابط التحليل والرصد والملاحقة النقدية والاستشراف، وكيف تحول أساتذة الجامعات إلى مجرد نشطاء على نحو مبتذل.

كيف نلتقط الأبعاد الاقتصادية للحرب الدائرة والتي أهلكت الحرث والنسل ودمرت العمران وقضت على حركة اقتصاد يجتاز أزمات مزمنة؟

– للحرب وجهان: وجه متعلق بالإكراه وتوابعه المتصلة بنقص الأنفس والثمرات وإهلاك الحرث والنسل، بيد أن لها في المقابل وجهًا يمكن أن يفتح الأفق أمام إعادة الاعتبار لقضية العدالة الاقتصادية ونفي الظلم والإفقار والتهميش لفئات كثيرة من المجتمعات السودانية مع تراكم ثروة غير موضوعي واحتكار لها على المستوى الجغرافي في الخرطوم. ورغم أن الضنك الحادث بفعل الحرب يمكن أن يمثل عامل تدمير، فإنه في المقابل يمكن أن يدفع في سبيل إعادة توزيع الثروة وبناء نظام اقتصادي عادل. هذا يعيدنا إلى موضوع الصراع بين المركز والهامش، والخطأ المتصل بتصنيف ما هو مركز وما هو هامش على الموقع الجغرافي باعتبار أن الخرطوم هي المركز والأطراف هي الهامش؛ أرى أن العكس هو الصحيح، فالمركز هو الأطراف والهامش هي الخرطوم باعتبار أن الموارد والثروة كلها في الأطراف والخرطوم أكبر ممركز لثروة الأطراف وميزاتهم النسبية والمطلقة. ولذا فإن الأفق التي يمكن أن تفتحه الحرب هو تفكيك مركزة الثروة في العاصمة لصالح مركز الثروة الحقيقي في السودان. نحتاج إلى نظرية تنمية جديدة واقتصاد عادل ينتفي معها الاحتكار الحادث لمؤسسات بعينها. آمل أن يكون هذا الإفقار مؤقتاً ليقود إلى تفتيت مركزة الثروة وبسطها على نحو عادل لكل السودانيين، ويمكن أن تخلق هذه الفرص بيئة استثمار جيدة للسودان. وكثيراً ما تتحول الحروب في الدول إلى فرصة للبناء والنماء كما حدث في اليابان وألمانيا ودول شرق آسيا وفي رواندا وغيرها من النماذج، وهو أمر لا يحدث بالتمنيات وإنما بالعمل المتواصل.

في أعقاب ثورة استهدفت نظامهم وحرب تقوم سرديتها المعلنة على اجتثاث وجودهم، ماذا ينتظر الأفق الإسلامي في إطار مخططات إقليمية ترى ضرورة إنهاء وجودهم وفاعليتهم السياسية في حقبة ما بعد الربيع العربي؟

– لا تكتمل قراءة تجربة الحركة الإسلامية السودانية من دون الوقوف على تشخيص الخلفيات والجذور المؤسسة لأسباب مأزق الدولة السودانية المستمر. فالحركة التي انتدبت نفسها لمهمة تقديم نموذج بديل للنظام السياسي السوداني القديم بكل تمثلاته، كشفت محاولاتها للنأي عن ذلك النموذج بأنها لم تكن سوى نسخة أخرى منه تدور في فلكه، وساهمت في إضافة المزيد من التعقيدات، وتعميق أزمته بمحاولة فرض هندسة اجتماعية من أعلى تعيد صياغة التركيبة السياسية والمجتمعية لتضمن لها استدامة الحكم. وبالأحرى كانت تجربتها التي استطالت لثلاثة عقود تمثّل التجلي الأخير والأبرز لعجز النخبة والنظام السياسي السوداني.

هل كان الانقلاب فعلًا اضطراريًا فرضته إكراهات ظرفية على الإسلاميين، أم أن الاستيلاء على السلطة بالقوة متى سنحت الفرصة كان قرارًا استراتيجيًا سعت الحركة الإسلامية من أجل تحقيقه؟ وهل كانت أمامها خيارات أخرى، بغض النظر عن الدوافع التي ساقتها لتبرير دواعي اللجوء إلى الحل العسكري لحسم صراع سياسي مع خصومها؟ وهل اجتهدت لتفادي الوقوع في أسر غواية الاستيلاء على سلطة سهلة المنال؟ ثم هل استعدت الحركة بدرجة كافية لتحديات إدارة الحكم واستحقاقاته في بلد هش تحيط به الأزمات المستدامة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً، وهل توفرت لها استعدادات كافية برؤية، ومعرفة، واستراتيجية، وخطط، وبرامج، وكفاءة، لاستحقاقات إدارة الدولة السودانية معقدة التركيب السياسي، وشديدة التنوع الاجتماعي والثقافي والعرقي؟

وهل وعت ما يعنيه قفزها من مبدأ طلب السلطة عبر مشروعية شعبية إلى انتزاعها بالتغلّب وتأسيس نظام شمولي يفرضه منطق الوسيلة المستخدمة، وأثر ذلك في المنظومة القيمية لمشروعها البديل؟ وهل تحسبت لعواقب الاستئثار بالسلطة المطلقة وتبعاته، التي تفرز طبقة حاكمة مسيطرة بالضرورة؛ ما يفتح أبواب الصراع داخل الجماعة؟ وهل فطنت لعواقب استسهال استخدام عنف الدولة لقمع الخصوم، وتمكين نخبتها وعناصرها من الانفراد بالسيطرة على مفاصل الدولة، والتنافس على نيل مكاسبها وامتيازاتها، وما يستتبع ذلك من تمدد للفساد؟

تطرح هذه التساؤلات مخاطر التضحية بالمكاسب الكبيرة على الصعد المختلفة التي تحققت للإسلاميين في ظل الحكم المدني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبروزها بوصفها فرس رهان في الانتخابات التي كانت وشيكة في العام 1990، ما يفترض أن يكون تجذير التحول الديمقراطي والحفاظ عليه هدفًا استراتيجيًا، حتى لو اقتضى استخدام قوتها العسكرية لإفشال أية محاولة انقلابية.

عند المراجعة النقدية لجوانب من تجربة الإسلاميين في السلطة، تبرز بعض هذه المؤشرات الجوهرية في سجل التقييم؛ إذ أخفت السهولة التي تمت بها السيطرة على السلطة في طياتها تحديات غير مسبوقة ستواجه الحركة في امتحان إدارة الدولة بكل تركيبتها شديدة التعقيد التي عجزت عن التعامل معها أنظمة الحكم المتعاقبة منذ الاستقلال.

كما تجاهلت تحديات المحافظة على عوامل قوة التنظيم نفسه وتماسكه، والمرتكزة على خمسة أركان: “وحدة الفكرة، والهدف، والبرنامج، والتنظيم، والقيادة”، من دون تحسب لتفاعلات ديناميات السلطة وصراعاتها الحتمية المؤدية إلى التشرذم. فضلًا عن أنها استهانت بعواقب التصدي للحكم من دون شرعية دستورية ومشروعية سياسية بتفويض شعبي حر، بل قفزت على السلطة بالتغلّب، من دون تحسب لتبعات تأسيس نظام حكم شمولي على مستقبل مشروعها البديل.

أحدث استخدام القوة للسيطرة على السلطة تحوّلاً جذرياً في منهج الحركة الإسلامية، فقد عنى بالضرورة أن تبدل الأهداف والوسائل معًا، حيث أصبح سُلم الأولويات التي فرض منطقها معادلة صفرية بات معها الحفاظ على السلطة هدفًا مصيريًا في حد ذاته، فقد تحولت السلطة من وسيلة لتحقيق المشروع إلى غاية يتوجب الحفاظ عليها، وهو ما لا يتحقق بغير توظيف سلطان الدولة وعنفها وسيلة لضمان استدامة السيطرة عليها بوصفها نتاجًا موضوعيًا لطريقة الوصول إلى الحكم. وضعت الممارسة الفعلية صدقية وجدوى مشروع الحركة الإسلامية على المحك، ممتحنة كل أدبيات المنظومة القيمية والرمزية الأخلاقية للمشروع الإسلامي ونموذجها السياسي البديل المبني نظريًا على كفالة الحريات، وممارسة الشورى، واحترام كرامة الإنسان.

من ناحية أخرى، شكّل الانقلاب بتبعاته نقلة نوعية في طبيعة التنظيم، وأولوياته، ووسائله، تحوّل معها مركز ثقل قيادة الحركة وأجندتها وأدواتها لصالح الأجهزة الخاصة الأمنية والعسكرية. وقد احتكرت هذه الأجهزة مسؤولية الحفاظ على استدامة السلطة، التي أصبحت القضية المركزية في أجندة الحركة، وعملت على حمايتها من أي تهديد، واستخدمت في ذلك كل الوسائل بغض النظر عن مشروعيتها. أدى ذلك إلى تعاظم نفوذ القادة الأمنيين والمؤسسة الأمنية وهيمنتهم على كافة أجهزة ومؤسسات الحركة. ونتيجة لسيادة العقلية الأمنية، استعاض النظام عن العمل السياسي بإجراءات الأمن وتشدد فيها، وأصبحت الأجهزة المسؤولة عن هذا القطاع تتحكم في كل دولاب الدولة، فيما تحول الحزب الحاكم إلى مؤسسة بيروقراطية تفتقر إلى الفاعلية السياسية.

ولم تكن هيمنة المنظومة الأمنية وضعًا عابرًا وليد السنوات الأولى للنظام بدافع تثبيته، ذلك أن الإجراءات الاستثنائية لم تبق رهينة استثنائيتها، بل سُمح باستمراريتها وديمومتها، حتى أصبحت السمة البارزة في طبيعة النظام لثلاثة عقود حتى سقوطه. وحتى في محاولاته للانفتاح السياسي، خضع لخطوات محسوبة منخفضة السقف. لقد كانت مسألة إدامة سيطرة النظام على الأجهزة الأمنية والعسكرية قضية محورية لا تخضع للمساومات.

والخلاصة أنه بدلاً من أن تساهم الحركة في أسلمة ممارسات الأجهزة الأمنية والعسكرية، انتهى الأمر بها إلى أن تصبح ضحية لها، حيث ابتلعت التنظيم نفسه، وقادت في نهاية المطاف إلى عسكرة الحركة.

ما هي العبرة التي يمكن أن نستخلصها من مسار الحركة في السياسة والحكم؟

– لم يكن انقلاب الإسلاميين بدعًا في سياق الممارسة المركوزة في النظام السياسي السوداني بسابقة لجوء قوى مدنية إلى توظيف التدخل العسكري لحسم صراعاتها السياسية. ولئن رافق اللجوء إلى أي من الانقلابات في السودان تبريرات ومسوغات تتعلق بالواقع والمخاطر، فإن ذلك يجب ألا ينسحب على الحركة الإسلامية؛ ذلك أنها الوحيدة التي ربطت بين الوصول إلى السلطة لتحقيق غاية تتجاوز الصراع السياسي العابر، إلى تقديم “مشروع حضاري” مغاير. قدم الإسلاميون دوماً هذا “المشروع” بكل حمولته النظرية، ومنظومته القيمية، بوصفه نموذجاً بديلاً من النظام السياسي القديم، ليس في السودان فحسب، بل إلى ما وراء الحدود، بوصفه مشروعًا إسلاميًّا كونيًّا منافساً وبديلاً من الحضارة الغربية، ومنتوجاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كانت السيطرة على السلطة لثلاثين عامًا كافية على الأقل لوضع حجر أساس لهذا المشروع البديل، تُبيّن ملامحه، وتثبّت بعضًا من جدواه، بيد أن حصيلة هذه الفترة الأطول من الحكم في تاريخ الدولة المستقلة لا تكاد تتلمس فيها شيئًا من معالم هذا الطرح البديل. كما أنها لم تقدم اجتهادات نظرية أو عملية تستجيب لتحديات الواقع السوداني. بل على العكس، ساهمت في المزيد من تعقيدها، وأورثت البلاد بعد سقوط النظام أوضاعًا سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية بالغة الهشاشة، في ظل غياب شبه تام لمؤسسات الدولة. حتى الجيش لم يعد القوة المسلحة الوحيدة، مع صعود ميليشيا الدعم السريع التي أسسها البشير بصفتها قوة موازية لحماية نظامه، وغيرها من الحركات المسلحة.

وفي ظل هذا الفراغ المؤسسي، وضعف بنية القوى السياسية، وتواضع قدرات قادتها، أصبحت البلاد مرتعًا للتدخلات الخارجية، التي اختطفت ثمرات الانتفاضة، وحولتها لخدمة أجندتها، بمعاونة كبار القادة العسكريين والمدنيين معًا، وما الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع إلا نتاجًا مباشرًا لأجندة أجنبية تريد اختطاف الدولة السودانية، ووراثة مواردها الاقتصادية. لذلك، تؤكد هذه المآلات والخطر الماثل الذي يتهدد وجود السودان بوصفه دولة أن قرار الانقلاب كان خيارًا قصير النظر، كما أثبتت تبعاته وتداعياته المختلفة لاحقاً على السودان، وعلى مشروع الإسلاميين قاطبة، وعلى الحركة السودانية نفسها. فقد غابت عنه الرؤية الاستراتيجية، وغاب الوعي بمحورية الرهان على المستقبل بوصفه حركة طريق ثالث، وتجديدًا في النظام السياسي، يكسران طوق الدوران في الحلقة المفرغة بين الأنظمة العسكرية المستبدة والحكومات المدنية العاجزة. كما استسهلت الحركة الإسلامية تبديد رأس مالها السياسي والاجتماعي، وكسبها المتنامي تحت الحكم المدني، بالخضوع لمنطق ذرائعي عابر لاغتنام فرصة طارئة للقفز إلى السلطة بانقلاب، معلوم سلفًا مآلاته، لحصد مكاسب آنية على حساب مصالح أعمق جذورًا وأبعد أثرًا.

لقد قطع الانقلاب الطريق ليس على تجربة الحكم المدني الثالثة فحسب، وتبديد إمكانية تطويرها لإحداث تحوّل ديمقراطي بعد فشل تجربتين سابقتين للحكم العسكري، بل أهدر كذلك فرص الاستفادة من مناخ الحكم المدني في تحقيق المزيد من المكاسب للإسلاميين. ففي بيئة التنافس الحر تلك، أثبت الإسلاميون القدرة على التفاعل مع معطياتها، وحصد ثمارها؛ ما ساهم في تجذير وجودهم الفعّال على المستوى المجتمعي القاعدي في أنحاء السودان المختلفة، بعد أن ظل تأثيرهم لفترة طويلة مقتصراً على القطاع المديني؛ ما وّسع من نطاق تمثيلهم السياسي والمجتمعي، وزاد من دور الحركة الإسلامية في المعادلة السياسية. لم تضع القيادة وهي تتخذ قرار الانقلاب هذه المعطيات، وتراكم رأس المال الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي تسنى لها بناؤه في المجالات المختلفة لترتاد الآفاق المستقبلية المتاحة، بل عدته مجرد رصيد معزّز لقرار المسارعة بالوثوب في السلطة، لتوفر بنية رأس مال بشري مؤهل يساهم في إدارة دولاب الدولة بعد الاستيلاء عليها، ولم يرد في حسابات القادة أية احتمالات بشأن تبديد فرص الاستثمار في هذا الرصيد من القوة البشرية، غياب مناخ الحرية والديمقراطية الذي ساهم في تفجير طاقاتها.

إن في خلاصة تجربة الحركة الإسلامية السودانية السلطوية عبرة للذين يتصرّفون أولاً على أساس اليقين الأخلاقي من صلاحهم، ويرجئون الفهم إلى ما بعد أن تحل الكوارث؛ ذلك أن المعرفة التي تستوعب الحقائق الدقيقة للواقع بكل أبعاده، وتدرك مقتضيات الحكمة في التعامل معها، أدعى لتجنّب الخطايا التي ترقى إلى درجة من العطب لا يمكن إصلاحها، والمغامرة بمنهج التجريب من دون وعي.

كيف ترى شروط وأسس التسوية القادمة في ظل تسابق المبادرات وتعدد المنابر والتباس المشهد التفاوضي؟

– للسلام وجوه مختلفة: الترتيبات المتعلقة بالنزاع المسلح، الحل السياسي، إبراء الجراح المجتمعية، المبادرات الحالية قائمة على المنهج القديم المبني على عقد صلح بين المتقاتلين على السلطة والثروة وكأنها مكافأة لهم على قتالهم. وأكبر خطأ حالياً هو حشر القوى السياسية لنفسها في حل النزاع المسلح بين المتحاربين.

لا بد من تعريف الحرب على نحو دقيق وهي أنها بين أطراف ليست سياسية، وإن كان للجيش دور في السياسة فهو بالأساس مؤسسة مهنية، وكذلك فإن الدعم السريع يشكل جزءاً من القوات المسلحة وفق قانونه ووفق الوثيقة الدستورية. وكما تحمل دلالة اسمه، هو داعم لمن؟ للجيش. التوصيف المباشر للحرب هو أنها تمرد داخل القوات المسلحة لديه ذيول وارتباطات سياسية. ولا جدال أن القوى السياسية التي تريد أن تضفي أبعادًا سياسية على الحرب الدائرة إنما ترتكب خطأ فادحاً وهو أمر سيؤدي إلى عسكرة المجال السياسي في السودان.

بخصوص النزاع المسلح، إن كان ثمة قيمة لاتفاق جدة في أنه عرفت النزاع وفق القانون الدولي الإنساني منذ اتفاقيات جنيف في العام 1949 وحتى آخر وثيقة فيه. ولإيقاف الجانب المسلح من النزاع لا بد أن أخاطبه في الإطار المعرف له. وكان يمكن أن يكون الاتفاق الذي جرى في جدة ناجعاً إذا تعاملت معه القوى الدولية بنفس منطق القانون الدولي الإنساني، ولكن القوى الدولية ولأنها متآمرة ذهبت إلى تسطيح الصراع والنظر إليه بأنه حرب بين جنرالين، وأنه صراع لا منتصر فيه، وأنها حرب عبثية. المجتمع الدولي واقع في أكبر تناقض من حيث اعترافه بحكومة البرهان كسلطة أمر واقع ومؤسسات دولته، ويدينون الدعم السريع في موضوع انتهاكاته، لكن كل ذلك لا يترتب عليه أي فعل جدي وصارم يضبط الدعم السريع.

ما يتعلق بالترتيبات السياسية ينبغي أن يكون حصراً على القوى المدنية السياسية فقط، ولكن بشرط أن تشرك الشعب في مصيره، حيث ظلت الطبقة السياسية منذ مؤتمر الخريجين هي التي تقرر في قضايا الشعب نيابة عنه لأنها تدعي التمثيل دون تفويض وبغير روح الآباء المؤسسين. كل المعالجات التي تمت كانت تخفي رهان الاستحواذ السلطوي بما فيها نيفاشا 2005م التي مثلت فرصة لبناء سلام حقيقي، ولكنها ذهبت في الإطار السلطوي.

الضلع الثالث إبراء الجراح المجتمعية عبر تبني حراك حقيقي وفاعل يساهم فيه رجالات الطرق الصوفية والإدارات الأهلية والشخصيات الوطنية الاعتبارية لرتق النسيج الاجتماعي.

ترى بعض الأصوات الوازنة حتى من داخل معسكر الثورة “المغدورة” أن الصراع الراهن يحمل رهانات تأسيسية يمكن أن تمضي إلى أفق سياسي واجتماعي واقتصادي آخر.. هل ثمة إمكان لذلك؟

– يمكن أن يحدث تأسيس لكن لا يمكن أن يتم بلا تفويض، وذلك على مستويين:  يمكن إجراء نموذج انتقال إداري يتعلق بتصريف أعمال الدولة دون اتخاذ أي قرارات مصيرية؛ أي “حكومة إدارية” مكونة من خبراء تقنيين تتجاوز التنافس السياسي والأجندة الحزبية الاستحواذية. أما التأسيس فينبغي أن تنتخب مؤسساته في المقام الأول من قبل الشعب السوداني عبر جمعية تأسيسية مهمتها فقط إدارة حوار شامل حول البدائل والخيارات المتعلقة بالنظام السياسي، وتلخيص ما تم التوصل إليه وتقديمه للشعب السوداني بغرض استفتائه. على هذا الأساس يتم إجراء انتخابات برلمانية. هذا النموذج هو بديل للمؤتمر الدستوري بطريقة أكثر ديمقراطية وتشاركية من الشعب. وهناك تجارب أثرت على الشعب السوداني ولم يتم استفتاء الناس فيها كنيفاشا والوثيقة الدستورية.

ورغم تعقد هذا الإجراء، فهو الضمان الوحيد لعبور مأزق التأسيس والانتقال ومعالجة جذور الأزمة. مشكلة السودان أن تاريخ السلام فيه هو تاريخ نقض العهود والمواثيق فيه كما أشار إلى ذلك دكتور أبيل ألير.

هناك مخاوف كثيرة من أن يفضي انتصار الجيش في هذه المعركة إلى عسكرة المجال السياسي؟

– تاريخياً، لم يستطع الجيش بناء مشروعية لسلطته بدون شريك سياسي مدني، ومن أجل ذلك فصلت حول رؤيتي للانتقال والتأسيس على نحو ما ذكرت آنفاً باعتبار أن البديل للتأسيس هو عسكرة المجال السياسي.

سؤال أخير: كيف ترى ما حدث في الإذاعة، هل هي محطة فارقة في الحرب يمكن أن تدشن انتصارات الجيش واستعادته لزمام الأمور من جديد؟ أم كيف رأيتها؟

– للإذاعة رمزيتها بوصفها إحدى ممسكات الوحدة الوجدانية الوطنية، وربما تحولت إلى هدف عسكري في سياق أهميتها وتموضعها في قلب كل انقلاب عسكري. ولأني أعرف ما حدث يوم الخامس عشر من أبريل بأنه انقلاب عسكري فاشل قاده حميدتي، بيد أن وجود الدعم السريع في الإذاعة كان سابقًا للحرب، حيث تم استدعاهم إليها منذ زمن مبكر في خواتيم عهد الإنقاذ بالتزامن مع نشرها في المناطق الاستراتيجية (حرم القيادة العامة – القصر الجمهوري- والإذاعة – ومواقع أخرى). ومهم التنويه أن سيطرتها على هذه المواقع لم تتم بناء على قتال مع القوات المسلحة كما جرى في بعض المواقع والحاميات.

وكما أشرت آنفاً فإن للإذاعة وظيفتها السلطوية كونها تمثل القناة الرسمية لمخاطبة الرأي العام، لذلك يقصدها كل عسكري يغامر بقلب نظام الحكم، وعلى مدار الانقلابات التي تمت في السودان هرع إليها الحكام الجدد ليشرحوا أهدافهم من عمليات التغيير ويبذلوا الوعود للشعب. غير أن المفارقة الكبيرة هي أن قوات الدعم السريع لم تستطع أن توظف الإذاعة والتلفزيون رغم أنها مسيطرة عليها بشكل كامل، ولم تستطع أن تنشر أطروحتها ومشروعها السياسي القاصد إلى هدم “دولة 56” وإعادة الديمقراطية، واكتفت بظهور الرسائل الصوتية واللقاءات المسجلة لقادة الدعم السريع، أو الاستضافات التي تتم لمكتبهم الاستشاري، فضلاً عن الإطلالة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي حدثت لهم فيها إشكالات بسبب تبليغ ناشطين وفاعلين متصلين عن صفحاتهم وإغلاقها. وهذه المفارقة تعكس إلى أي مدى يمتلك الدعم السريع مشروعاً حقيقياً وإصلاحياً للدولة السودانية في ظل عجزه الفاضح عن توظيف هذا المرفق الهام، بل الأنكى والأمر أنه لم يكتف بعجزه بل قاده عجزه إلى إحداث تدمير هائل لهذا المرفق، مما يكشف الطبيعة التدميرية والتخريبية لمشروع الدعم السريع.

استعادة الإذاعة والتلفزيون تشير إلى تقدم القوات المسلحة، وتتجاوز الرمزية والمكانة الوجدانية لأهمية الموقع في مسار المعركة الدائرة في أم درمان منذ أن التقى جيش كرري بجيش المهندسين مما يكشف طبيعة التخطيط العسكري واستراتيجيات إدارة المعركة من قبل الجيش، كونه يجتاز حربًا غير تقليدية تجاوزت الانقلاب إلى مخطط إقليمي يستهدف قوام الدولة السودانية، وهذا ما يجعل المعركة تقارب العام في ظل تواطؤ إقليمي ودولي. ورغم أن الاستراتيجية التي اعتمدها الجيش لم تحظ بشعبية جماهيرية، ورأوا فيها التلكؤ والبطء والعجز والفشل، إلا أنها أثبتت نجاعتها وأعادت الثقة في الجيش في بسط سيطرته في المناطق الأخرى.

هناك ملاحظة متعلقة بروح الفرح الغامرة التي عمت قطاع كبير من الشعب السوداني وأعادت بناء الثقة ومد الجسور بين الجيش والشعب، والتي طالها توجس ما بلغ درجة الشكوك في بعض الأحيان ووصمه بالقصور والعجز، وستنعكس هذه الروح على ترتيبات وضع الدولة السودانية وعلى القوى السياسية المدنية المؤيدة للجيش أو تلك المتحالفة مع قوات الدعم السريع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى