البرهان: جدل الشرعية وغياب المشروع
د. الدرديري محمد أحمد
بالأمس علم الإسلاميون أنهم خرجوا من شِعب أبي طالب. وأن وثيقة المقاطعة التي كانت بشأنهم – فلا يُجلَس إليهم ولا يُدعون لمنتدى – قد أكلتها الأرضة ولم تبق منها الا عبارة “باسمك اللهم”. وهكذا أنقضت مقاطعة السنوات الست؛ فعادوا لحضن هذا الشعب، بعضا منه في تواده وتراحمه وتعاطفه، إذا اشتكوا تداعى لهم البعض بالسهر والحمى. فقد انبرى للدفاع عنهم – وقبل أن ينبسوا ببنت شفة – الدكتور مزمل أبو القاسم، والهندي عزالدين، وفوزي بشرى، وحسن إسماعيل، وسهير عبد الرحيم، وساندرا كدودة، وكثيرون من كبار رجال الإعلام ونسائه ممن ليست لهم بالإسلاميين صلة أو واشجة. لا شك أنه قد راع هؤلاء أنه فيما دعا الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة – أمس 8 فبراير – من يقفون وراء المليشيا للمشاركة في التوافق المزعوم على تعيين رئيس الوزراء ان هم تخلوا عن دعم المليشيا، فإنه أعلن أن من يقفون وراء الجيش ليسوا بمدعوين للمشاركة، وأنّ لهم أن يضعوا السلاح إن شاءوا فينصرفوا غير مشكورين! وربما هالهم أن ذلك يقال والمشار إليهم لا يزالون مستغرقين في خوض معاركهم واجلاء جرحاهم ودفن شهداءهم، ولم يعربوا أصلا عن أي حرص على مشاركة في السلطة أو رغبة في شهود هذا التوافق المنتظر مع المُعرِّدين (وهي فصيحة) من مستشاري المليشيا، والآبقين من فُلك “قحت” و”تقدم” الغارق. وحق لهؤلاء الأخيار أن يُراعُوا من ذلك القول. غير أن ما راعني أنا ودفعني لكتابة هذا المقال هو خلو وِفاض البرهان من أي رؤية حول شرعية حكمه، ومن أي مشروع له. هذا بعد ست سنوات عجاف أمضاها في الحكم أكَلْن ما أحصَن الناس العمر كله. بل إلتماسه الشرعية والمشروع ممن كانوا حضورا في فندق كورال ببورتسودان، ومن يلحقون بهم ممن تلفظهم المليشيا و”تقدم”. وهالني أكثر أن البرهان لم يعتبر بمصارع القوم ممن تخلوا قبلا عن الإسلاميين عند منعطف اللوى فكان هلاكهم فيما التمسوا فيه النجاة. ونتناول فيما يلي تفاصيل ذلك.
نعم جاء البرهان الى الحكم قدرا مقدورا، وليس عن سابق تخطيط منه أو تدبير؛ فهو لم يجيء بانقلاب. وانما آلت اليه مقاليد الأمور بسبب التداعيات التي أعقبت الهبة الشعبية في أبريل 2019، أيا كان أسمها وكائناً من كان مسببها. والبرهان ليس أول من تجيء به الأقدار عفواً للحكم. فقد جاء قبله الفريق ابراهيم عبود على هذا النحو في نوفمبر 1958. وكذلك جاء المشير عبد الرحمن سوار الدهب في أبريل 1985. غير أن عبود جعل من القوات المسلحة أساس شرعيته، فلم يلتمس شرعية خارجها. وتبنى تنمية البلاد بعيدا عن المد الشيوعي الأحمر وجعل ذلك مشروعا لحكمه. فكان حكما عسكريا صرفا، ووطنيا مخلصا. ثم حين طالب المدنيون باسترداد الحكم، لم يتردد أو يوغل في الدماء وسلم الأمر لهم كما استلمه، دون إقصاء لأحد حتى الشيوعيين، وعاد لبيته معززا مكرما. وسوار الدهب أيضا جعل حكمه عسكريا. وجعل سنده في ذلك مبدأ الضرورة الذي تبلور حينها في القانون الدولي والدستوري، والذي يبيح للعسكريين الاستيلاء على مقاليد الأمور لأمد قصير معلوم إذا ما تأكد أن هناك ما يتهدد الاستقلال الوطني للبلاد أو سلامتها الإقليمية أو نظامها الدستوري أو ينذر بانفراط الأمن فيها وانهيار القانون. على أن يُقصى جميع المدنيين خلال فترة الضرورة – الا من يستعان بهم من أهل التخصص والخبرة – وأن يجتهد العسكريون للقضاء على دواعي الضرورة وإعادة الأمور لنصابها. فيسلموا الحكم للمدنيين بعد تلك الفترة في انتخابات مشهودة لا يقصى عنها أحد. ثم ينعقد بعدها الاختصاص للقضاء الدستوري لينظر فيما إذا كان العسكريون قد التزموا بالفعل حدود الضرورة، أو أنهم تجاوزوها سواء في الأمد الذي ضربوه أو الإجراءات التي أتخذوها. (وعلى من شاء التعمق في هذا من أهل الاختصاص أن ينظر في الحكم القضائي الذي أصدره رئيس القضاء الباكستاني س. أنور الحق عام 1977، عند تولي الجنرال ضياء الحق مقاليد الأمور في باكستان. ولينظر أيضا الأبحاث التي نشرت حينها حول هذا المبدأ بواسطة كبار فقهاء القانون الدستوري الدولي والمقارن من أمثال ديفيد دوزينهوس وجون يو). وهكذا فقد أمضى عبود في الحكم ست سنوات وأمضى سوار الدهب عاما واحدا. أما البرهان فالحال معه غير ذلك.
ابتداءً كان على البرهان أن يقوم بما قام به سوار الدهب من اتخاذ موقف صارم يمنع إشراك الأحزاب في الحكم او التشاور معهم حوله، وتحديد مدة زمنية لا تتعدى العام (أو العامين إن اقتضت ذلك الضرورة القصوى) لتسليم المدنيين السلطة في انتخابات. وكان له أن يتخذ الترتيبات المعقولة لإنفاذ القانون وفقا لما تقتضيه الضرورة، ثم اجراء الانتخابات بحرية ونزاهة وهو مدرك أن كل ترتيباته تلك ستكون معروضة يوما أمام القضاء الدستوري حين ينعقد له الاختصاص لاحقا. غير أن البرهان لم يتخذ ذلك المنحى وانساق وراء اهواء المدنيين الطامعين في تطويل أمد الفترة الانتقالية، فأتاح ذلك الفرصة للأجنبي للتغول وفرض خياراته والسعي لتحقيق مصالحه. فكان استئساد المبعوث الأممي فولكر بيرتس، وتنمر دولة الامارات، واستذئاب الشياه من دول الجوار الأفريقي.
واتيحت للبرهان فرصة ثانية بعد حركته التصحيحية في 25 أكتوبر 2021. وكان بوسعه عندها أن يعيد الأمور الى نصابها ويجعل الأمر كله للقوات المسلحة دون أن يشرك معها أحد ويحدد لذلك أجلا مضروبا، عاما واحدا، تجري بعده الانتخابات التي لا تستثنى منها أي قوة مدنية. غير أنه أدخل البلاد للمرة الثانية في نفق المساومات التي قادت للاتفاق الإطاري الذي أبرمته معه “قحت” في 2022، فأضاع الفرصة الثانية. بل أتاح ذلك التطويل الفرصة للمليشيا المتمردة لتضاعف عددها وعتادها اضعافا مضاعفة فتشعل هذه الحرب، التي دفع كلفتها الباهظة كل فرد واحتملتها كل دار.
الآن ستتاح للبرهان فرصة ثالثة -بعد انتهاء الحرب – لوضع الأمور في نصابها القانوني وإدارة البلاد بحكومة عسكرية محضة لا يجوز إشراك أي مدني فيها. على أن يكون ذلك لفترة محدودة قصيرة، لا تعدو العام أو العامين، تسلم الأمور بعدها للحكم المدني عبر الانتخابات التي تجرى دون إقصاء أو استثناء. لكن البرهان لا يريد أن يستغل هذه الفرصة للعودة الى سواء السبيل، فها هو يعيد الكرة تارة أخرى. وليس ما قام به خطوة معزولة. إذ سرب الدبلوماسي الأمريكي واسع الاطلاع كاميرون هدسون أن دعوة البرهان البعض للقاء فندق كورال بورتسودان تجئ في إطار التمهيد لعودة بعض عناصر “قحت” للمشهد وإقصاء الإسلاميين بعد الحرب. فالبرهان يعمل لإدخال البلاد فيما سمي “فترة تأسيسية” قصيرة تعقبها فترة انتقالية مطولة لا يعلم أحد أمدها. ثم هو يبحث عن وثيقة دستورية جديدة – بعد أن استنفدت القديمة أجلها وانفض سامرها – لمنح حكمه مشروعية لم تتأت له. وهو يريد أن يعين رئيسا للوزراء بناء على توافق مع المدنيين الذين التقاهم ومن يلحق بهم من شراذم الهزيمة التي توشك أن تلحق بالمليشيا المتمردة. وهو لا يدرك أنه لا يمكنه أن يجعل حكمه حكما مدنيا بهذا الترقيع. وهو حين يبالغ في تشديد النكير على الإسلاميين دون مناسبة على نحو ما تم، فإنما ذلك ليسترضي القوى العالمية التي يطربها مثل هذا القول فتأذن له بالمضي قدما في مبتغاه. وهكذا يُمكّن البرهان من جديد للأجنبي بعد أن خرج من هذه البلاد بهزيمة المليشيا وخروج “تقدم”.
ومن عجب فإنه رغم حرص البرهان على الاستمرار في الحكم، فإنه يفوته أن مفارقة الإسلاميين قد أوردت من كانوا قبله المهالك. فالرئيس جعفر النميري كان قد تخلى عن الإسلاميين في فبراير 1985 وأعتقل مستشاره الدكتور حسن الترابي. كانت النتيجة أن تصاعدت الانتفاضة الشعبية ضده بسبب انضمام الإسلاميين لها. فسقط نظام حكمه بعد شهرين، في أبريل من ذلك العام. والرئيس البشير، والذي هو ابن الحركة الإسلامية، بدا له أن يعلن في فبراير 2019 الابتعاد عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وان يقف من كل الأحزاب على ذات المسافة. فكان أن أدى ذلك الى تزايد تأييد شباب الإسلاميين للحراك النشط حينها في الشارع، وقلل من مبالاة الكثيرين من كوادر الحزب والحركة بمصير نظام الإنقاذ. وقد عجل ذلك بسقوط الإنقاذ، أيضا بعد شهرين، في أبريل 2019. بل إن حميدتي حين رفض في أغسطس 2022 دعوة الإسلاميين له أن يقنع بموقع الرجل الثاني ولا يصادم الجيش او يتطلع لقيادة الدولة، وقع فريسة لمن جروه لهذه الحرب التي قضت عليه أولا، ثم على الدعم السريع. ليس هذا لأن الإسلاميين في السودان يملكون عصا موسى. وإنما لأنهم، ومنذ أمد، قوة سياسية لا يستهان بها، وقلما أبرم أمر دونها. فهم أصحاب وجود فاعل في كل مكان لا تكاد تجاريهم في ذلك أي قوة سياسية أخرى. هذه هي الحقيقة مجرده، ولا يغير منها انها لا تعجب البعض. فالشعب جله، الا من كانوا مع البرهان في فندق كورال، قريبون من الإسلاميين وتوجههم. والإسلاميون كلهم، الا القلة التي وقفت مع المليشيا و”تقدم”، يرون ما يراه الشعب ويرتضونه ولا يشذون عنه. هذه هي جِبلّتهم، وهي فكرتهم، وهو نهجهم. وهكذا فإن من يستعديهم، أو حتى يستهين بهم، فإنما يدق اسفينا بينه وبين قوة كبرى في هذه البلاد، وقد تكون القوة الأكبر. وإنما يخلق فجوة هائلة بينه وبين سواد الشعب السوداني. هذه هي عبرة التاريخ. فمن أخذ بها نجا. ومن أراد لي عنق الحقيقة واعتبر هذا بمثابة القول إن الإسلاميين هم الشعب وأن الشعب هو الإسلاميين، أو عده تهديدا ووعيدا، فهو وشأنه. ولله عاقبة الأمور.