الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات ..!!

إبراهيم احمد الحسن
(1)
الوالدة على قبرها الف رحمة ونور بقدر ما فيها من صفات الحزم والحكمة والصبر كانت تتميز بروح مرحة تسربل ردود افعالها عند كل موقف يستحق وكانت تفعل ذلك بطيب خاطر ونفس سمحة وفي سخرية محببة تجبرك علي الضحك وان كانت في سخريتها من المواقف التي تمر بها او من أمامها تتجلى بعض الحكم والدروس والعبر والنصائح التي تختبئ خلف تلكم السخرية .
(2)
ومن الاقوال التي كانت ترددها كثيراً عندما تجد أمامها موقف من شخص ما يتسم بعدم الاتزان وفيه شئ من شطط التصرفات الطائشة غير الحكيمة ، وخفة العقل والتسرع وعدم الرزانة وفيه شئ من البله والعبط كانت تقول 😞 الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات ) .
(3)
ولكثرة المواقف التي تستدعي السخرية الحكيمة بهذا القول المأثور كان لا يمر يوم والا وقد سمعت فيه (الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات ) . في طفولتي الباكرة كنت اعتقد ان المقصود ( بالطيرات ) أسراب الطيور التي كانت تعبر يومياً فوق سماء بيتنا في رحلتها الأزلية بين اقطاب الكرة الأرضية ، وخاصة في زمن الخريف وكان لي عشق مقيم مع أسراب الطيور هذي ، كنت أعيش العشق بكل مراحله ولا افرق بين (طير ) وآخر . وفي تلك المرحلة من العمر كنت كثيراً ما أمدّ بصري بين الغيوم، وانا في حوش البيت الكبير أتابع أشعة الشمس الغاربة المتسلّلة خلسة عبر ثقوب ضيقة بين الغيوم اشاهد الطيور مسرعة تسابق تساقط حبات المطر حتى تصل مأمنها في أوكارها قبل العاصفة .
(4)
يمرُّ سرب عصافير الخريف أمامى. يمُر مُسرعاً إلى أعشاشه قبل نزول القطرات الأولى من المطر. في ذياك الزمان كانت تشنف آذاننا اشعار عصافير الخريف حيث كانت صورة رحلة عصافير الخريف تدغدغ خيالي البص كلما صدح بها وردي من الراديو الفليبس الفخيم و غيوم لا تفتأ تزحم السماء و زيفة ثم شئ من برد في لحظات فاصلة بين الغطاء اتقاءً و السفور استمتاعاً ) وفي هذا الجو المطير كانت تأسر لبي العصافير وهي تعبر زرافات فوق روؤسنا وبين الغيوم . وكنت اتساءل لماذا هذه الجفوة مع الطيور وانا اعلم تماماً ان أُمي انسانة شفيفة ومرهفة الحس وحنينة درجة التلاشي ولكنها تقول ملء الفم ( الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات) !
(5)
من الطيور التي الفتنا وألفناها السمبر (الكلجو ) والذي ما أن نراه وقد قدم الي اشجار البيت الظليلة فارعة الطول حتى نوقن ان فصل الخريف قد دنا . أما الرهو او ما كنا نسميه (طير البقر ) فكانت يحبذ ان يأتي متأخراً قلبلاً بعد ان تبتل عروق الارض عندنا ويذهب الظمأ وتبلغ الطيور مأمن رحتلها عند البرك الصغيرة يتجول خلف الأبقار التي ترتع في أمان .
القمري والدباس والبلوم كان خاصراً في مراتع صبانا في كردفان ، وقد فاز القمري والبلوم بأمهات الشعر والغناء السوداني ، بلوم عبدالرحمن عبدالله طلب منه ان يشيل السلام ويمشي بارا وام روابة والنهود الآسر شبابها والأبيض غرد حبابها درة غالية وحائزة الكمال .
(6)
ونحن في شرخ الصبأ نعد لاحتفال كبير في المحطة الأرضية للأقمار الإصطناعية في محطة ام حراز جنوب الخرطوم لإفتتاح واحد من مشاريعها الكُبري في منتصف النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ، الشباب الغض وشئ من بقايا حياة طلابية باذخة جعلنا نوغل في الترتيب للحفل البهيج فأعددنا كل شئ في مكانه وكما ينبغي له ان يكون . وفي لمسات اخيرة للإحتفال حضر احد المديرين الكبار (من الخرطوم ) وبدأ يوزع ملاحظاته هنا وهناك ينتقص من هذا وينتقد ذاك ولا يشيد بشئ ، بدأنا نمتعض من تصرفاته وثرثرته التي كانت لا تجدي في الدقائق التي تسبق الاحتفال جيد الاعداد ، ونحن في خضم اقتراب افتتاح الاحتفال وانتقادات المدير . كنا نحرص ان لا ينبس زميلنا الساخر المهندس مكاوي شريف ببنت شفة من تعليق كان حتماً سيأتي لاذعاً وكنت حريص علي البقاء الي جانب مكاوي حتى أكبح جماح تعليقاته التي اعلم مرارتها وجرأتها فلا يتهور بتعليق ندفع ثمنه كلنا والمحطة من رد فعل أحمق من المدير الكبير الذي آتى من الخرطوم ( ليأخذ اللقطة ) ويفوز بقطف ثمار المجهود . وفي الوقت الذي بلغت ثرثرة المدير مداها و بلغت تعليقات مكاوي الحلقوم فاذا ( بطيرة ) تترك كل شئ ولا تختار سوى رأس ذاك المدير لتهبط عليه . من وسط الاعداد الكبيرة من الحضور هبطت (الطيرة ) علي رأس المدير وهنا اتت فرصة التعليق تجرجر أذيالها للمهندس الساخر مكاوي فإذا به يصيح ( الطيور على اشكالها تقع ) ، عاصفة الضحك التي انطلقت منا وقهقهات مكاوي الصاخبة عقب تعليقه العجيب والابتسامات البروتوكولية من كبار المدعوين كادت ان تفسد اجواء الاحتفال عندما استشاط المدير غضباً قبل ان يطرد من كان يقف الي جانبه الطائر من مهبطه علي رأس المدير الاصلع الخاوي الوفاض إلا من بضع شعرات التصقن بفروة (الرن وي ) علي راسه .
المدير الذي اراد (أخذ اللقطة) ، تعليق مكاوي سريع البديهة الساخر والموقف الكوميدي جعلني استحضر فوراً مقولة امي (الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات ) .
(7)
اسرح بعيد وانا اكتب هذه الخاطرة واتذكر طير الجنة ، تلك الطيور التي اكملت لوحة طفولتنا السعيدة ، ما كنا نراها خلف حجاب او محنطة صور خلف ستار من اضواء التلفاز والكرتون ، بل كنا نراها ونلعب معها عياناً بياناً حتي ان الشفيف خالد شقوري عندما كبر تغنى لها حيث نظم ( طير الجني ) وكأحسن مايكون الغناء صدح بها محمد النصري ( وداك اليوم يا طير الجنة / غيرك انت وأُمي الحاجة / ولا مخلوق مسموح له يغني ) وأطلق العنان لخيالك ليسافر طول موجات الشجن وردد مع خالد والنصري ( هي الجنة اصلاً هيلك / وكل ما اسمع حسك مارق / ألقى دموع أشواقي سقني / عاد شن لي غير أبكي وأغنّي ) . وعندما اصل الي هنا ، الي هذا المقطع لا أملك إلا ان اردد في حزن ( أغنية تعبر عنك وعني / وعن الشوق يا طير الجني ) ثم اعود الي حيث ذكري أمي ومقولتها المشهورة ( الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات )
(8)
المغني الشهير وموقفه الأشهر الذي تعرض له وهو يحي حفلة كبيرة محضورة جمعت من الأذواق السودانية ما جمعت ، اذواق شتى تنوعت وتعددت ولكنها اجتمعت تذوب في طرب عندما يغني صديق الكحلاوي ( حجبوه من عيني إلا من قلبي لا لا لا ما قدرو حجبوه ) و ( عقد الريد انفرط وانا قبلك عيني ما اتملت ) و(ريدة زمان ) وحتى ( قالوا علي شقي ومجنون ) وعندما يعرج الفنان الكبير مردداً اغنية ابراهيم الكاشف ( أنا يا طير بشوفك !! محل ما تطير بشوفك ) ، ينبري له احدهم وقد استبد به (شوق مخدات الطرب ) بل وتراءى له من نفاج خيال اصطنعه لنفسه بفعل (عصير البلح ) أن المغني الشفيف لا يقصد إلا إياه بأغنية ( يا طير !! ) ، خاصةً وقد ذاب المطرب في غناه يردد ( يا طير يا طير يا طير .. ) فأوقف المنتشئ ( بعصير البلح ) المغني صائحاً (يااا زول نحن ما طير !!) ثم اقبل نحوه مترنحاً، مشمراً ساعد اللكم والضرب وهنا يتدخل الأجاويد ويحولوا بين المنتشئ والمطرب لتستمر الحفلة ويرفع المطرب عقيرته بالغناء وهو يشير للمنتشئ بعصير البلح ( أنا يا طير بشوفك / محل ما تطير بشوفك ) وعندما تتقد أعين الأخير وتتطاير شرراً وتنتفخ اوداجه ، يعاجله الفنان ب ( ياريت يا ريت يا ريت / يا ريت كنت زيك / لو يجدي التمني / حبيبي يكون معاي / وفي الأشجار نقيل / وفي الأغصان نميل / بخفة جناحك / آ آه يا طير ) ويرقص المنتشئ بالعصير وسع ما تسمح به اتساق الخطاوي وهو يسمع المغني يقول له شخصياً ( أنت يا
طير فرحان / وبتغني وحبيبك معاك / وحبيبي غاب عني ) ويقر المنتشئ عيناً وهو يحصل علي اعتراف من الفنان بأنه افضل حالاً منه فالمطرب ما زال يردد ( وأنا يا طير موله / محزون لاني / وحيد حبيبي غايب ) .
بسبب طير في أًغنية تنشب مشكلة كبيرة ويتم حلها في نهاية الاغنية عندما يعلم كل من اطراف المشكلة مشربهم .
ثم تقول أمي علي قبرها الف رحمة ونور في حكمة ( الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات )
(9)
لم اعرف عمق ما كانت تقول به أمي إلا عندما عرفت من معجم المعاني الجامع ان الطِّيَرَةُ هي ما يُتفاءَل به أَو يُتشاءَم منه ، ثم ان الطِّيَرَةُ في ذات المعجم تعني الخفة والطيش .
أمي لا تتمنى ان يكن من ضمن زائراتها نساء طيرات ، ثرثارات لا يحسن التصرف ، خفيفات ، يغيب عنهن وعي الاتزان والحكمة والتصرف السليم . فهل اطلعت امي علي معجم المعاني الجامع وهي تدعو الله : إن شاء الله (الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات ) !
(10)
كانت أمي لا تفتأ تردد مقولتها الشهيرة عند كل تصرف أخرق غير متسق وينم عن تسرع وعدم تريث غض النظر عن من قام او قامت به ، فعند أمى كل تصرف مثل هذا يقع تحت طائلة : ( الطيرات ما يَجِنْ عندنا ضيفات )



