رأي

الانكسار ليس سودانيا 

 

د. إيناس محمد أحمد

عرف العالم العقوبات الاقتصادية منذ حقب غابرة، إذ كانت الحكومات والجيوش تلجأ إلى فرض أنواع كثيرة من العقوبات منها الحصار الاقتصادي على الدول والجهات التي تقف إلى جانبها كوسيلة للتمدد وبسط الهيمنة والسيطرة والنفوذ.

وغالباً ما تستهدف سياسة العقوبات الدولية إحداث أثر سياسي كلي ينتج عنها خلال فترة محددة ، وتأتي العقوبات دائما عبر المنافذ الاقتصادية التي تؤثر على الخطط التنموية للدولة من خلال افقادها حالة التوازن ومنعها من النمو الاقتصادي، وغالبا ما يكون لها أثر مفصلي على اقتصاد الدولة مما يؤثر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي فيها على المدى البعيد.

لذا وبعد تراجع قانون الحظر العام الأميركي لعام 1807م لم تهتم حكومة الولايات المتحدة إلا بفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تعتقد أنها تشكل خطراً على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، حيث أدرك العالم خطر المساس باقتصاد الدول كسلاح فعال قد يكون أصعب وأخطر من شن الحروب والعمليات العسكرية، ولم يعد متحمساً لفرضها، لكن الولايات المتحدة أصبحت تنفرد بفرض عقوبات على الدول الأخرى، ومع الوقت أصبحت العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الخارجية الأميركية، وتشكلت آليات أمريكية تقوم بهذا الدور أبرزها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية.

في هذا المقال نوضح ماهو مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، وكيف يوقع عقوبات علي الدول ونوعية العقوبات .. هو باختصار وكالة استخبارات مالية أو مكتب يتبع لوزارة الخزانة الأميركية

Offic of Foreign Assets Control

(OFAC) ، يهدف لفرض عقوبات اقتصادية وتجارية استناداً إلى سياسة الولايات المتحدة الخارجية وأهداف الأمن القومي ضد دول وأنظمة أجنبية مستهدفة وعدد من الجرائم كالإرهاب وتهريب المخدرات دوليا واستخدام أسلحة الدمار الشامل وغيرها من التهديدات التي تمس الأمن القومي و السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة، يعمل المكتب تحت صلاحيات حالة الطوارئ الوطنية للرئيس ، بالاضافة إلى السلطة الممنوحة له بموجب تشريعات محددة لفرض قيود علي المعاملات وتجميد الأصول تحت الولاية القضائية للولايات المتحدة. وقد تأسس هذا المكتب في العام 1950م ومقره في واشنطن .

هناك أنواع من العقوبات منها ما يفرض على الدول ويحظر عمليات معينة، مع ملاحظة أن هذه العقوبات تتغير بحسب الوضع السياسي بذلك فهي ديناميكية، وهناك العقوبات الذكية تستهدف منع التهديدات الموجهة ضد المصالح الوطنية الأميركية، وهناك أيضا عقوبات قطاعية تستهدف قطاعات محددة في الاقتصاد لدولة ما أو تقيد القدرة على إجراء الأعمال في بعض الصناعات، وهناك عقوبات ثانوية توجه للمتعاونين مع المخالفين الذين توقع عليهم العقوبات أصلاً.

قبل أيام أعلن موقع وزارة الخزانة الأميركية أن الولايات المتحدة الأمريكية فرضت عقوبات مالية علي رئيس مجلس السيادة وقائد القوات المسلحة الباسلة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، تزامن ذلك مع إعراب وزير الخارجية الأميركي – وقتها – أنتوني بلينكن عن أسفه الشديد بسبب الفشل في إنهاء الحرب في السودان مبديا أمله في أن تواصل إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب محاولاتها لتحقيق السلام في السودان.

وقد جاءت هذه العقوبات بعد أسبوع من تأكيد الولايات المتحدة ان مليشيا الدعم السريع المتمردة ارتكبت إبادة جماعية في الحرب وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفرضت عقوبات على قيادتها، وكذلك فرضت عقوبات علي سبع شركات تتاجر بالأسلحة وتصدر الذهب لصالح المليشيا.

المتابع لملف العلاقات السودانية الأميركية يجد أن بين الولايات المتحدة الأمريكية والسودان تأريخ طويل من العقوبات الاقتصادية صدرت أما بأوامر تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونغرس الأميركي ، بدأت في العام 1988م حينما تخلف السودان عن سداد الديون المتراكمة عليه، وتطورت العقوبات في 12 أغسطس 1993م حينما أدرجت وزارة الخارجية الأميركية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفي العام 1996م أوقفت السفارة الأميركية عملها في الخرطوم مما يشير إلى ترتيبات لها ما بعدها.

في 3 نوفمبر 1997م أصدر بيل كلنتون الرئيس الأمريكي وقتها قراراً تنفيذياً بفرض عقوبات مالية وتجارية تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية ووجه المواطنين الأميركيين بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان، عقب ذلك وفي أغسطس 1998م شنت الولايات المتحدة هجوما صاروخيا استهدف مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري بفرية أن المصنع ينتج مواد تدخل في صناعة أسلحة كيميائية واتضح بعد التحقيق الدولي في الأمر أن الاتهام عار من الصحة.

في العام 2002م أصدرت الولايات المتحدة قانونا أسمته قانون (سلام السودان) ربطت فيه العقوبات الأميركية على السودان بمدى التقدم الذي يتم إحرازه في المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لتحقيق السلام.

في العام 2006م أصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن) قراراً بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية.

ثم جاء باراك أوباما الرئيس الأمريكي وقتها وفي نوفمبر 2012م جدد العقوبات المفروضة على السودان ، وفي 17 فبراير 2015م يعلن أوباما عن تخفيف العقوبات على السودان بما يسمح للشركات الأميركية تصدير أجهزة شخصية وبرمجيات تتيح الاتصال بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ثم في 13 يناير 2017م يعلن البيت الأبيض رفعا جزئيا لبعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان نتيجة التقدم الذي أحرزه السودان، لكن الولايات المتحدة أبقت السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب.

جدير بالذكر أن تقارير أمريكية صدرت تحدثت عن تعاون السودان في مكافحة الإرهاب منها تقرير في العام 2006م صادر من وزارة الخارجية الأميركية وآخر صادر من الكونغرس عام 2009م .

كل هذه العقوبات لم تضعف عزيمة السودانيين ولم تؤثر في إرادتهم الوطنية، إذ سرعان ما نهضت الأمة السودانية لتبني وتعمر في كل اتجاهات الوطن شمالا وجنوبا شرقا وغربا فكانت الطرق الدولية تسير في كل اتجاه وتعبر الإرادة الوطنية كل الجسور نحو النهضة الشاملة في مختلف المجالات فكانت الزيادة في عدد المدارس و الجامعات وتفجرت الطاقات وزادت المصانع والمستشفيات وازدانت أرض السودان بالزراعة والرعي ، وتدفق النفط من باطن الأرض ، فالإرادة الوطنية السودانية لا تقف أمامها أية تحديات أو عقوبات دولية.

هذه العقوبات (البائسة) على حد وصف الخارجية السودانية لها ، توضح فعلا أن قيادة الرئيس السابق جو بايدن لم تكن متابعة ما يحدث في السودان متابعة دقيقة مما جعلها تختم أعمالها بقرار باهت الملامح ضعيف الأثر ، يدل على عدم الإلمام بما يحدث في ميدان المعركة.

كان أول رد فعل بعد صدور هذه العقوبات هو زيادة شعبية الرئيس البرهان والتفاف وتأييد الشعب السوداني حوله أكثر مما كان .

مع العلم أنها عقوبات ذات طابع (شخصي) تستهدف ممتلكات الأشخاص المعنيين وتعاملاتهم المالية والتجارية فقط وربطها بشخصياتهم المادية أو الاعتبارية، ولا تعد عقوبات عامة مثل التي كانت مفروضة على السودان من قبل، وبالتالي فهي ضعيفة الأثر والمعنى … فهل قصدت إدارة بايدن المساواة مثلا بين أطراف الحرب على (حسب تعبيرها) ؟؟

مع الفارق الكبير بين قائد للجيش الوطني الشرعي للبلاد وهو يقوم بواجبه الوطني في الحفاظ على أمن واستقرار الوطن وصون أراضيه وحماية شعبه وفقا للقانون ، وبين مليشيا متمردة ارهابية خارجه على القانون استهدفت المدنيين وارتكبت جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.

لقد كان الأجدر بادارة بايدن أن تطبق أحكام القانون الدولي الإنساني في مواجهة من يقتل المدنيين العزل ويجند الأطفال قسراً ويلقي بهم في نيران الحرب ، أو في مواجهة من يغتصب النساء ويشرد الملايين بين نزوح ولجوء، كان عليه أن يجرم دفن المدنيين أحياء تحت التراب، كان الأجدى لإدارة بايدن أن تترك أثرا يدل على احترامها للقانون الدولي الإنساني في إدانة من يستهدف الأعيان المدنية بالتفجير والتدمير وهي التي تخدم المواطنين مثل المستشفيات و محطات الكهرباء والمياه ، في من يقطع الطريق على المساعدات الإنسانية والأدوية الخاصة بالاطفال وينهبها أو يمنع وصولها للمواطنين ، كان من الأوفق للعدالة أن تتخذ موقفا دوليا ضد الأطراف التي تدعم الإرهاب وتهرب السلاح ومنها أسلحة (أمريكية الصنع) تصل تحت غطاء المساعدات الإنسانية لاستمرار الحرب وإشعالها.

في كل الأحوال ومهما حدث لن تفقدنا هذه العقوبات (البائسة) الفرح بالانتصارات خاصة وأن بشائر النصر تلوح في الأفق ونقترب كل يوم نحو الفرح الأكبر بعودة الوطن كاملا شامخا عزيزا كما كان وسيظل.

(فنحن جند الله جند الوطن)

و الانكسار ليس سودانياً ولن يكون سودانياً أبداً.

نقلا عن موقع “المحقق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى