رأي

الإعلام بين الشاهد والمزوِّر: كيف نمنع الآخرين من كتابة تاريخ السودان؟

مهند عوض محمود

في ظلّ المأساة التي يعيشها السودان اليوم، وبخاصة في دارفور وشمالها، حيث ترتكب ميليشيا الدعم السريع الإرهابية أفظع الجرائم بحق المدنيين من قتلٍ واغتصابٍ ونهبٍ وتهجيرٍ قسري، تبرز الحاجة الملحّة إلى أن يتحول الإعلام السوداني ومعه سائر مؤسسات الدولة إلى جبهة موحّدة في معركة الحقيقة. فالمأساة تجاوزت حدود السياسة والاصطفاف، وأضحت معركة وعيٍ وضميرٍ وكرامة وطنية.

لقد أظهرت الأحداث الأخيرة في مدينة الفاشر وما تبعها من نزوحٍ جماعي إلى مدينة الدَّبة في الولاية الشمالية حجم الكارثة التي يعيشها المواطنون السودانيون. مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ فرّوا بأجسادهم من الموت، حاملين شهاداتهم على جرائم مروّعة وثّقتها الكاميرات، بل بثّها الجناة أنفسهم للعالم. هذه التسجيلات وحدها كانت كافية لإيقاظ الضمير الدولي، لكنها تبقى ناقصة ما لم تُستكمل بعملٍ مؤسسي منظم يملك منهج التوثيق والمسؤولية الوطنية.

إن التوثيق الميداني هو الخط الفاصل بين رواية قابلة للطعن وصوت موثّق لا يُكذب، وشهود الفاشر في الدَّبة هم دلائل حية لا يمكن تزويرها بسهولة طالما جُمعت وفق معايير مهنية تحفظ سلاسل الحفظ وسلامة الأدلة. لذلك من الواجب تأسيس آلية وطنية شاملة تتضافر فيها وزارات العدل والخارجية والداخلية والإعلام مع المؤسسات الحقوقية والأكاديمية والمجتمع المدني لتشكيل لجنة احترافية تضم صحفيين ومحققين ومصورين ومحامين تعمل على جمع الأدلة وتسجيل الشهادات بالصوت والصورة بطريقة تتيح استخدامها أمام المحافل القانونية الدولية.

لقد أثبت التاريخ الحديث أن الإعلام، حين يُدار بذكاء وموارد كافية، قادر على تغيير موازين القوة في ميدان الوعي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك حملة الممثل الأمريكي جورج كلوني لتوثيق ما سماه “الإبادة الجماعية في دارفور”، حين أنفق ملايين الدولارات لتسجيل شهادات النازحين في اثني عشر معسكراً شرق تشاد، ركّز منها على أربعة معسكرات رئيسية. ورغم ما صاحب تلك الحملة من اتهامات بتزييف الوقائع وتلقين الشهود وتوجيههم لإدانة الحكومة السودانية آنذاك، إلا أنها كشفت عن مدى تأثير الإعلام حين يُستخدم كأداة سياسية. فقد استطاعت تلك التسجيلات المموّلة أن تصنع رأياً عاماً عالمياً، وأن تُقدَّم كمستندات في محكمة الجنايات الدولية، لتُحمّل الدولة السودانية مسؤولية ما وُصف آنذاك بالإبادة الجماعية. العبرة ليست في نزاهة كلوني، الذي كان له أجندته، بل في قوّة الإعلام كسلاح يُحرّك العالم حين يُدار بذكاء ومهنية وتخطيط.

وهنا تبرز أهمية أن نمتلك نحن روايتنا الموثقة، رواية الشهود الحقيقيين من الفاشر والدَّبة، لا أن نترك المجال لشهادات ملفقة أو مُلقّنة تُستغل لتشويه صورة السودان. فقد رأيت بنفسي خلال زيارة إلى النرويج قبل سنوات عدداً من الشباب السودانيين الذين وصلوا إليها عبر الهجرة غير الشرعية، يروون قصصاً درامية عن القتل والحرق والاغتصاب في دارفور. وعندما سألت أحدهم — وكان من أبناء شندي ولا يعرف حتى موقع دارفور على الخريطة — كيف تعلم هذه التفاصيل، ضحك وقال إنه تعلّمها من رفاقه لأنها تسهّل الحصول على اللجوء، وأضاف ممازحاً: “عندما وصلت لنقطة الاغتصاب رميت لي دمعتين”. ثم قال بصدق صادم: “نحن نعلم أنهم يعرفون أننا نكذب،”. هذه الحكاية الصغيرة تلخص خطورة ترك المجال مفتوحاً لروايات بلا تحقق، وكيف يمكن أن تتحول الأكاذيب الفردية إلى وثائق دولية تُستخدم لإدانة وطن بأكمله ، فمثل هؤلاء الشباب اسهموا دون أن يعلموا في معاناة عاشها الشعب السوداني لعقدين ونيف من الزمان تتمثل في الحصار الاقتصادي والتضييق وغيره من الاجراءات التي حرمت المجتمع من التطور والتعليم والتكنلوجيا.

لهذا فإن المطلوب اليوم هو عملٌ وطنيٌّ شامل يتجاوز العواطف إلى المنهج. فرق مدرّبة تحفظ سلسلة الأدلة، توثّق بالصوت والصورة بتواريخ ومواقع دقيقة، تلتزم ببروتوكولات حماية الشهود، وتُشرك خبراء حقوقيين دوليين لضمان قبول المواد في آليات العدالة المستقلة. كما يجب أن تكون هناك استراتيجية إعلامية متكاملة لعرض المواد الموثقة على العالم بمهنية وموضوعية، توضّح ما ثبت وما لا يزال قيد التحقيق، لأن المبالغة تضعف المصداقية، والمصداقية هي أساس القوة في هذه المعركة.

الإعلام الوطني يجب أن يتحول من ناقل أخبار إلى صانع أدلة وموجه للرأي العام المحلي والعالمي بصورة مهنية، وأن يعمل بتكامل مع مؤسسات الدولة. فحضور فرق إعلامية موثوقة في الدَّبة ومعسكرات اللجوء، وتسجيل شهادات شهود العيان، وجمع خرائط الدمار، وتوثيق تحركات المجموعات المسلحة وأسماء المجرمين، وربط كل ذلك بتقارير قانونية من خبراء مستقلين، سيخلق ملفاً لا يُرد أمام المنظمات الدولية.

إن قوة الرواية الوطنية تكمن في صدقها ودقتها، وإن الفارق بين مأساة تمرّ كخبر عابر وقضية تتحول إلى عدالة دولية هو في الحرفية والإخلاص في التوثيق. الشاهد الحي من الفاشر في الدَّبة اليوم ليس مجرد ناجٍ من المأساة، بل هو وثيقة حيّة وأمانة وطنية يجب أن تُحفظ لتكون شاهداً على الحقيقة لا سلاحاً في يد المتآمرين.

إن توحيد جهود الإعلام ومؤسسات الدولة في مشروع وطني شامل لتوثيق جرائم ميليشيا الدعم السريع الإرهابية ليس ترفاً، بل واجب أخلاقي وتاريخي. فالتاريخ لا يرحم من صمت أمام الجريمة، والعدالة لا تنتظر من يصفها، بل من يوثّقها ويعرضها للعالم بصدق وجرأة. والسودان اليوم أمام لحظة فارقة: إما أن يملك روايته فيدافع بها عن نفسه، أو أن يترك الآخرين يكتبون تاريخه بأصواتٍ لا تشبهه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى