رأي

إريتريا.. مادام الريد اختلط بالدم! (2)

فيما أرى
عادل الباز
1
لم يكن اختلاط الريد بالدم مع الشعب الإريتري حدثًا أو لحظةً تاريخيةً عابرة، وإنما تمتد جذوره الثقافية والدينية إلى عمق التاريخ وأمادٍ بعيدة. فمنذ أن تدفق سد مأرب وانهمرت أمواجه كالجبال على سهول وجبال اليمن، كانت إريتريا بحكم الجوار هي قبلة المهاجرين، فاحتضنت مدنها وبواديها الهجرات المتدفقة من اليمن والتي حملت معها لغتها وثقافتها، فشكلت بعضًا من هوية إريتريا الثقافية إلى يومنا هذا.
2
احتضنت إريتريا طلائع المسلمين في “الهجرة الأولى” لصحابة الرسول في العام الخامس للبعثة المحمدية نحو المرافئ الإريترية، حيث بُني أول مسجد للإسلام في منطقة “رأس مدر” بمدينة مصوع الحالية. هذه الهجرات كان لها أثر عميق في تشكيل إريتريا الحديثة، إذ امتدت لتصنع وشائج حميمة مع السودان في حدوده الشرقية.
في تلك الحدود التي تمتد إلى 605 كيلومترات، تأسست أول مجموعات الكفاح الإريتري المسلح، وكانوا للعجب كلهم جنودًا في الجيش السوداني في الأورطة الشرقية؛ منهم طاهر سالم ومحمد سعيد آدم ومحمد تسفانيدروريس وصالح حدوق وعشرة آخرون، وكان ذلك في العام 1961.
كما أن القاص الكبير محمد سعيد ناود، صاحب رواية الشتاء، هو أحد مؤسسي جبهة التحرير الإريترية، عاش في السودان وهو كذلك من مؤسسي الحزب الشيوعي في كسلا. وتذكر الروايات أن ناود حين قرر الالتحاق بجبهة التحرير الإريترية استأذن الأمين العام للحزب وقتها، الأستاذ عبد الخالق محجوب، فأذن له وأهدى له كميات من السلاح دعمًا لنضال جبهة التحرير الإريترية!
عبر تلك الحدود أيضًا تتداخل القبائل والإثنيات والسحنات، ولا تكاد تميز السوداني من الإريتري، حيث اختلط الريد بالدم، إذ تزاوجت القبائل وعاشت حياتها كأسرة واحدة ممتدة لمئات السنين، وهي لا تعترف بحدود الاستعمار. هناك أكثر من عشرين قبيلة تتعايش مقسومة بخط وهمي، وفي هذا تروى قصص كثيرة وكتبت روايات وسير. التداخل والتاريخ الاجتماعي والسياسي المشترك القديم لم يظهر فجاءة واختلاط وشائج العلاقات بين الشعبين الإريتري والسوداني وكفاحهما المشترك إبان الثورة الإريترية أو حرب الغزاة الحالية على السودان أديا لصهر تلك العلائق والوشائج وترسيخها وجعلها أشد وضوحًا وأكثر إشراقًا.
3
وأنت تتجول في فضاءات العاصمة الجميلة أسمرا المزدانة بمبانيها الإيطالية الرائعة وأجوائها الساحرة، لابد أن تقف على ناصية شارع كمشتاتو (الحرية الآن) الفخيم حيث سينما روما وأمبيرو والكنائس العتيقة. هناك مزارات لابد أن تمر بها، أهمها مقبرة الشهداء في وسط العاصمة.
كانت دهشتنا عظيمة ونحن نرى عشرات القبور تتوسط المقبرة لسودانيين قاتلوا مع الإنجليز ضد الاستعمار الإيطالي في معارك كرن التي وقعت أحداثها بين يومي 5 فبراير و1 أبريل من العام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية. تقاتل في المعركة الجيش الاستعماري الإيطالي (مدافعًا عن الوجود الإيطالي في مستعمرة إريتريا) مع القوات البريطانية وقوات الكومنولث الغازية للمنطقة. في سنة 1941، كانت مدينة كرن ـ الواقعة في مستعمرة إريتريا الإيطالية ـ تتمتع بأهمية استراتيجية للجيشين الإيطالي والبريطاني؛ إذ كانت الطرق البرية والسكك الحديدية التي تمر بالمدينة هي الممر الرئيسي نحو مدينتي أسمرا (العاصمة الاستعمارية لإريتريا) ومصوع (الميناء الهام على البحر الأحمر). وكان أولئك السودانيون المدفونون ضمن الأورطة التي جاء بها الإنجليز لمساعدتهم في وقف زحف الإيطاليين نحو كسلا، والتي وصلوها بالفعل ولكن لم يمكثوا فيها إلا قليلاً لرفض أهالي الشرق ومقاومتهم للإيطاليين (1941).
4
كنت خلال اللقاء الذي تم مع الرئيس أسياس أفورقي، وهو يتحدث لساعتين، أرقب تعابيره ولغة جسده وحساسيته تجاه المواضيع التي يتحدث عنها، فلاحظت أن هنالك موضوعين يثيرانه: الأول هو موضوع التدخلات الأجنبية ومخاطرها، والثاني هو السودان وأهميته بالنسبة للقارة والقرن الإفريقي.
يعتقد الرئيس أسياس جازمًا أن التدخلات الأجنبية في قضايا المنطقة هي سبب البلاء الذي حلّ بها، ولعل ذلك يعود لتجربة إريتريا الطويلة مع التدخلات الخارجية، منذ خداع إيطاليا للإريتريين حينما اشترت منهم أرضًا استثمارية بجوار ميناء عصب، وسرعان ما جعلتها مستعمرة لها، ومنها بدأ مشروع احتلال إريتريا كلها إلى أن اكتمل.
تجربة إريتريا في الصبر على الحصار الأمريكي والغربي الطويل لأكثر من ثلاثين عامًا واتهامات بالإرهاب وغيره، جعلتها ترزح تحت عقوبات غريبة مستدامة. ذات خيوط المؤامرة نسجت على السودان، ولكن إريتريا عرفت كيف تصمد وتتعامل معها، في حين فشل السودان وها هو يدفع ثمن رضوخه للأجندات الغربية التي لا تزال تعمل في جسده وتمارس عليه ذات الضغوط.
5
حينما يتحدث الرئيس أسياس عن السودان، تشعر بذات نبرة الحماس والإثارة، فهو يدرك بخبرته الطويلة أن الجيش السوداني في النهاية سينتصر، ولكنه يدعو الآن لتوحيد الجهود ضد العدو ويتأسى على الوقت الضائع في الهرولة في ما أسماها البازارات السياسية والمنابر التي تتسوق فيها الدول ذات الأجندات والتي رفض أن يكون طرفًا فيها.
6
حينما يتحدث الرئيس أسياس، تشعر أنه يقف على أرض صلبة كجبال إريتريا، أرض صنعتها الخبرات وأحداث التاريخ والتجارب. ودائمًا ما يصنع الرئيس أسياس زاوية نظر تخصه وحده ينظر من خلالها ويحلل بها الأحداث والمآلات التي تخص القارة الإفريقية والمنطقة (البحر الأحمر/ الخليج/ القرن الإفريقي) بل والعالم، وهو دائمًا قادر على أن يحدد مسارات وطنه نحو المستقبل دون أن يفرّط في سيادة بلاده. نواصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى