تقارير

أتَريّات: مواليد العاصفة والإتقان

في ظلّ أنظمة استبدادية تُكمّم الأفواه، ظَلّ سؤالٌ واحدٌ يلحّ على الوعي: كيف يمكن أن نُنشئ صحافة مستقلة بين براثن القمع؟ بهذا السؤال بدأ عارف الصاوي رئيس تحرير مجلة «أتَـر»، ومدير مركز سودان فاكتس للصحافة، حديثَه عن المجلة، ونشأتها ومراحل تطوّرها.

يقول عارف، إنّ الحرب لم تكن وحدها التي عقَّدَتْ العمل الصحفي في السودان: «لقد واجهت الصحافة السودانية في نظام الإنقاذ تحدّيات قاسية بسبب القوانين المُقيّدة للحريات، راسمةً حدوداً صارمةً لا يُسمَح بتجاوزها. هناك رواية واحدة يُراد للناس أن يتّبعوها، وكلّ محاولة للخروج عنها تُقابَل بالقمع أو الحجب. وهكذا تحوّلت بيئة الإعلام إلى مشهد من الرقابة الصارمة ونقص المعلومات».

ومن خلال مقابلات أجراها عارف مع رؤساء تحرير وناشرين وصحافيين، في العام 2016، خَلُص إلى أنّ الرقابة على المؤسسات الصحفية في السودان لا تأتي من السلطة والأجهزة الأمنية وحدها، بل من نظام إداريّ يُعرقل الوصول إلى المعلومات، في المؤسسات الحكومية. ففي كثير من الأحيان – يواصل عارف – يُصبح الناطق الرسمي للمؤسسة هو المصدر الوحيد للمعلومة، ما يقتل التعدّد في السرد ويُضعف قدرة الصحافة على طرح الأسئلة.

لقد ترافَقَ هذا الواقع مع صعود التكنولوجيا وتحوّلها إلى مركز النفوذ العالمي؛ فمنذ عام 2016، بات واضحاً أنّ التكنولوجيا أصبحت أداةَ مراقبةٍ بقدر ما هي وسيلة تواصل، من سيليكون ڨالي إلى قوقل وفيسبوك وتليقرام، مروراً بهواوي في الصين وروسيا وأنظمة الرقابة الرقمية الحديثة. حتى في الغرب، بدأ الخوف من أثر التكنولوجيا على الديمقراطية يتزايد. يقول عارف: «في خضمّ هذا التحوّل، كان سؤال زميلة صحافية طرحته عليّ عام 2016 لا يزال يتردد في ذهني: كيف نُمارِسُ الصحافة في عالم تحكمه التكنولوجيا والمعلومات؟».

من رحم هذا السؤال وُلدت فكرة مركز سودان فاكتس للصحافة، الذي تصدر عنه مجلة «أتَـر» أسبوعياً من العاصمة الكينية نيروبي، التي انتقل إليها المركز نتيجة لنشوب الحرب في أبريل 2023، وقد أُسّس في 2018 بالخرطوم، واكتمل تسجيله في السودان في العام 2020. لم يكن المركز مجرّد مبادرة إعلامية، إنما كان رؤية استراتيجية لبناء مؤسسة صحافية قادرة على تقديم جيل جديد من الصحافيات والصحافيين، يملكون المعرفة التقنية والثقافية التي تمكّنهم من ممارسة صحافة مهنية ومستقلة، قائمة على الحقائق.

يقول عارف: «بدأ المشروع الإعلامي بدافع من هذا الواقع، كان لدينا حلمٌ ببناء مؤسسة إعلامية متكاملة، تبدأ من مجلة، وتمتد إلى قناة تلفزيونية وأكاديمية تدريب، وتستطيع أن تحقّق استقراراً مالياً يضمن استمرارها».

«لتحقيق الاستقرار المالي تجد المؤسسات الإعلامية نفسها أمام أحد خيارَيْن، إما مال القطاع الخاصّ أو التمويل الأجنبي»، يقول عارف الذي يصف القطاع الخاصّ، بأنه ظلّ أسوأ من التمويل الأجنبي، وأكثرَ تدخّلاً في ما تغطّيه الصحف: «يقوم النظام المُعيّن بشراء مؤسسةٍ ما، يُوجِّهُها كيفما يشاء، وعندما يملُّ القارئ منها يشتري النظامُ مؤسسةً أخرى وهكذا دواليك. أما التمويل الأجنبي فقد لا يفرض أجندة مباشرة على المؤسّسة الصحفية بالضرورة، لكنّه قد يغيّر اتجاهها ومهمّتها». ويقترح الصاوي مجموعةً من الحلول التي قد تُسهم في توفير المال، ومنها التعاون بين المؤسّسات الإعلامية والبحثية والأكاديمية لإنتاج تقارير خاصة ومدفوعة.

أتر 360: الإصدار رقم صفر

سُمّيت «أتَـر» بعد مُشاوراتٍ مطوّلة، وكان قد اختير لها من قبْل «أتَـر 360»، وهو اسم الإصدار رقم صفر من المجلة الذي أصدرته الزمالة الأولى في 2021. ونُشر العدد الأول من المجلة، بعد حوالي سنتين، في الخميس 12 أكتوبر 2023، بعد تحضيرات مُكثفة استغرقت ثلاثة أشهر وحمل اسم «أتَـر»، مُعلناً انطلاقة المجلة التي أولت الأخبار المحلية جُلَّ اهتمامها.

سبقت «أتَـر» جهودٌ بحثية وتدريبية نظّمها المركز، ركّزت على فهم بيئة العمل الصحفي في ظلّ الأنظمة الاستبدادية، وعلى إيجاد سُبلٍ للعمل تحت القيد، بما يضمن بقاء الصحافة حيّة في بيئة تفتقر إلى الحرية. لكن كلّ هذا البناء النظري وُضع على المحكّ حين اندلعت حرب الخامس عشر من أبريل، التي مزّقت الجغرافيا السودانية، وأعادت رسم المجتمعات والطرق والأسواق والأحلام. في تلك اللحظة القاسية، وُلدت «أتَر» ابنةً للعاصفة، واستجابةً لحدث غيّر حياة السودانيين من كلّ ناحية، وجعل الصحافة نفسها أمام امتحان وجودي: هل تستطيع أن تظلّ شاهدةً على الخراب، دون أن تتحوّل إلى جزء منه؟

يقول الصاوي: «واجهنا تحدّيات في الهيكل الإداري، والسياسة التحريرية تغيّرت بنسبة 85% إلى 90%، لكننا تمسّكنا بأن تكون السياسة في صحافتنا مُرتبطة بحياة الناس اليومية، بالكهرباء، والوظائف، والأسعار، والخدمات، الأمر الذي نجني ثماره حالياً».

أتَـر الزمالة

سعياً لتقديم صحافيين مُؤهّلين صُمِّم برنامج الزمالة، وهو برنامج عملي يُركّز على المهارات الميدانية للمُتدرّب، وعلى إنتاج محتوى يُعبّر عن الواقع السوداني، موفراً الإمكانات والأدوات الّلازمة. ومنذ انطلاق برنامج الزمالة في عام 2021، تخرّجت منه أربع دفعات، ضمّت أكثر من عشرين صحافياً، أضحى عدد مقدّر منهم نواةً لمجلة «أتَـر» وشبكتها.

ميساء حنفي خرّيجة الزمالة الأولى، ودرست الإعلام بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، بدأت أولى خطواتها بتحرير صحيفة «التكنولوجية» ضمن التدريب العملي في الجامعة. بعد تخرّجها، عملت متدرّبة في عدد من الصحف لسنتين ونصف، لكنها اصطدمت بواقع صعب، يسوده غياب الموارد، وضبابية السياسات التحريرية، ما جعلها تبتعد مؤقتاً عن الصحافة.

نالت ميساء البكالوريوس في العلوم السياسية، ثم تحصّلت على ماجستير في تقانة المعلومات. وفي عام 2020، تعرّفت على مركز فاكتس للصحافة، وانضمّت إلى الزمالة الأولى. خَبرت ميساء خلال رحلتها في برنامج الزمالة صحافة البيانات والاستقصاء، واستشعرت الصحافة التي تحلم بها. منذها، لم تفارق المركز، وتدير اليوم سكرتارية تحرير مجلة «أتَـر»، المكان الذي تقول إنه منحها الإحساس بالانتماء، والفرصة لتكون جزءاً من مشروع صحافي مستقلّ ومهني، يُعيد تعريف الصحافة في السودان.

أما مآب الميرغني، خريجة الزمالة الأولى من مركز فاكتس للصحافة، فكان البرنامج بالنسبة لها بمثابة نقطة الانطلاق نحو ممارسة مهنية أكثر عمقاً بعد تجربتها السابقة في الصحافة الورقية. شعرت بسعادة غامرة لحصولها على زمالةٍ تُعد الأولى من نوعها محلياً، وتلقّت تدريباً على أيدي صحافيين سودانيين بخبرة تضاهي المؤسسات العربية والدولية. فتحت الزمالة أمامها أبواباً جديدة، وتعلّمت خلالها مهارات جوهرية، كالبحث والتحقّق، وتحليل البيانات، وحماية المصادر، وفنّ المقابلة، وتصميم الاستبيانات، وبناء القصة من الفكرة حتى النشر، إلى جانب أدوات وتقنيات التقصّي التي مكّنتها من إنتاج تحقيقات موثوقة.

بعد انقضاء فترتها في الزمالة، واصلت مآب العمل في مركز فاكتس، وكانت من ضمن الفريق الذي أصدر العدد صفر من «أتَـر» في ديسمبر 2021. استمرّت رحلتها مع المركز حتى اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وما تبعها من نزوح وانقطاع في الإنترنت وتوقّف المؤسسات الإعلامية، ما اضطرّها إلى التوقّف عن العمل الصحفي. وبعد عامٍ حربّيّ، وصلت إلى كينيا، وبدأت استعادة عافيتها المهنية، لتواصل من جديد رحلتها مع مركز فاكتس، وتستمرّ كاتبةً في مجلة «أتَـر».

يقول مصطفى عبد القادر «بيرا كُـرّا» خريج الزمالة الثانية من مركز فاكتس، ويعمل مُراسلاً للمجلة حالياً، إنّ عيناه وقعتا على دعوة من مركز سودان فاكتس للتقديم إلى الزمالة: «كانت علاقتي بالصحافة آنذاك محدودة ببعض المقالات الأدبية وتقرير عن منتدى فلسفي، لكنني، كنتُ مدفوعاً بحماس ديسمبر فقدّمت على الفور، وقُبلت بها، وضَمّت صحافيين محترفين ذوي خبرة واسعة». ويضيف: «رغم أنني كنت طالب فلسفة وأحاول الكتابة في الأدب، ولست صحافياً محترفاً؛ كانت الزمالة نقطة تحوّل في رؤيتي للعالم، فانتقلت من التأمّلات المجردة إلى القصص اليومية، من النظريات إلى مشاغل باعة الخضروات، ومن التاريخ العام إلى حكايات النساء العاملات في سوق نيرتتي. هكذا بدأتُ أفهم كيف جَمع كبار المفكّرين بين الصحافة والأدب والفلسفة، وكيف يمكن للصحافة أن تكون أداةً للفهم، لا محض وسيلة للنقد. امتدّت الرحلة لستة أشهر، ممتلئة بالمحاضرات والمقابلات الثريّة».

حاكياً قصّته مع المجلة يقول محمد الكامل، خريج الزمالة الثالثة: «بدأتُ رحلتي مع برنامج «زمالة» في أبريل 2024. كنت حينها دخيلاً على الصحافة، قادماً من مجالٍ آخر. كنت أدرس علوم الحاسوب، وكانت رحلتي في أوّلها محاولةً لإيجاد حيّزٍ مشترك يجمع هذين العالمين. وجدتُ هذا الحيّز في «صحافة البيانات»، وكانت مادتي الأولى في «أتَـر» عن أحوال التعليم في السودان قبل حرب 15 أبريل، وقامت على بياناتٍ جمعها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية».

كان الدرس الأوّل في برنامج الزمالة، بالنسبة للكامل، أنّ القصة الصحفية تعيش ما عاش «الناس» داخلها، ولا تكتمل إلا بالتجربة المُعاشة، التي تُحكى على لسان من اختبرها. كانت القصة الصحفية الثانية للكامل في «أتَـر» هي «مكان موتك مكان دفنك»، بالاشتراك مع وفاء عبد العظيم، عن المقابر الجماعية التي انتشرت في الخرطوم، عقب سيطرة الدعم السريع عليها. ودَمجت القصة بين بياناتٍ جُمِعت عبر صور الأقمار الاصطناعية، وحكاياتٍ قصّها سكّان الخرطوم، فمنهم من رأى مقبرةً جماعية ومنهم من دفن أناساً فيها. يقول: «لا تزال هذه القصّة أحب أعمالي إلي».

وفي بداية 2025، بدأ الكامل العمل رسمياً في فريق «أتَـر»، ورَسمت تلك التجربة معالمَ جديدةً في الرحلة، إذ ازداد عمله في تقصّي الحقائق وبناء القصص، وزادت الدروس التي تعلّمها تباعاً.

شبكة أتَـر، من هِنا وهِناك

يقول مراسل «أتَـر» أسامة عبد الحي: «أنا من محبّي كتابات الأستاذ مجدي الجزولي، وزاملتُه لفترة قصيرة في صحيفة «الميدان»، التي كان يكتب فيها، وكنت وما زلتُ مُتعلّقاً دوماً بكتاباته، وبسبب الحرب وانقطاع الاتصالات حتى عودتها في مايو 2025، بحثتُ في الإنترنت عن كتابات الدكتور مجدي الجزولي، فوجدت كتاباته في «أتَـر»، وتعرّفت عليها وبدأت أرقبها كل أسبوع، أحمّلها وأستمتع بقراءتها. وفي يوليو زكّاني للمجلة زميلي أيضاً في صحيفة «الميدان» سابقاً، مصعب محمد علي، للعمل مراسلاً لها».

أما محمد التجاني الحائز على ثلاث جوائز في القصة القصيرة، منها جائزة الطيب صالح، فيرى أنّ الكتابة الصحافية كانت تحدّياً جديداً له من نواحٍ عدة، قائلاً: «عندما يسألني الناس ما الذي دفعك باتجاه الكتابة الصحافية في «أتَـر»؟ أجد نفسي أردّ بالعبارة الساخرة والتي تكتبها الصحافية ومراسلة رويترز في باكستان «أريبا شاهد» على صفحتها «accidentally a journalist» صحافي بالصدفة، أو حدث أنه أصبح صحافياً بطريقة ما».

وعن تجربته يقول التجاني: «مرّ عام وأنا أكتب لشبكة «أتَـر»، حاولتُ تفقّد حال الناس، استمعتُ إلى قصص العشرات، آلامهم وآمالهم، وحاولتُ نبش تعقيدات الحرب على معاش الناس، فكتبتُ كلمات قليلة ومتواضعة هي بالتأكيد أخفّ من دموع الفقد والكَبَد والأمل».

نظّمت «أتَـر» عملها مع المراسلين الذين تجاوز عددهم الـ 60 مراسلاً داخل السودان وخارجه، بطريقة جديدة، أعطتهم مسؤوليات داخل المؤسسة، وفتحت المجال أمامهم لجلب قصص من مناطقهم. في البداية كانت هناك مقاومة ثقافية لهذه الطريقة، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى قناعة، حين بدأ الناس يرون نتائجها في قصص محلية، تعبّر عن حياة السودانيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى