آفاق المشروع الوطني المقترح

فيما أرى
عادل الباز
1
لم تجد وثيقة “مقترح المشروع الوطني”، التي أصدرتها القوى السياسية المجتمعة في بورتسودان، العناية الكافية في الساحة السياسية، ولم تحظَ بنقاش واسع من قبل الأطياف السياسية التي لم تشارك في حوار بورتسودان. كما امتنعت القوى السياسية المعارضة في الخارج عن إبداء الرأي حولها، ولم يُجرَ نقاش جاد بشأنها في المنابر الإعلامية. وقد جاءت هذه الوثيقة تحت عنوان “الطريق للسلام والاستقرار”، مؤكدةً في مقدمتها سعيها لتحقيق الوحدة والسلام، وهادفةً إلى انجاز التحول الديمقراطي في نهاية الفترة الانتقالية.
2
في تقديري، يستحق هذا المشروع النقاش لعدة أسباب. أولًا، لأن القوى السياسية التي اجتمعت ظلت تناصر القوات المسلحة من مواقعها المختلفة دون أن يكون بينها رابط يوحّد أفكارها وبرامجها. وكان السؤال المطروح: على ماذا تختلف هذه القوى؟ وفيما تتفق؟ وما هو مشروعها السياسي؟ لم يكن أحد قادرًا على الإجابة عن هذا السؤال، فكل ما نسمعه منها مجرد همهمات وتصريحات مبتورة لا تكاد توضح شيئًا. بل حتى الحكومة أو السلطة لم تتعرّف على أفكار هذه القوى السياسية وما الذي تريده تحديدًا، رغم أنها تلتقي كثيرًا بالمسؤولين. وغالبًا ما تُتهم هذه القوى بالسعي للحصول على نصيبها من “كيكة السلطة”، رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
3
السبب الثاني هو أن هذه القوى لم تجلس يومًا لتتوحّد على رؤية واضحة للفترة التأسيسية أو الانتقالية من تلقاء نفسها. وغالبًا ما تُتهم وبأنها تسعى فقط لأن تكون حاضنة سياسية للجيش دون أن تمتلك رؤية سياسية، سواء بشكل منفرد أو جماعي. وربما كان السبب وراء دعوة الحكومة لها للاجتماع في بورتسودان هو التعرف عليها عن قرب ومعرفة رؤيتها ومطالبها، وما يمكن أن تطرحه لحكم البلاد خلال الفترة الانتقالية.
4
السبب الثالث هو أن هذا المشروع الوطني، المقدم من القوى السياسية، لا يستهدف الداخل فقط، بل يوجه رسالته إلى الخارج أيضًا. إذ إن المجتمع الدولي، الذي كان يعتقد بعدم وجود قوى مدنية مؤثرة، لا بد أنه اكتشف بعد المؤتمر أن هناك كتلة سياسية ومدنية ومجتمعية ذات ثقل حقيقي في المشهد السياسي، وهي ليست تلك القوى التي لا وزن لها والتي دأب على الالتقاء بها والاستماع إليها في العواصم الأفريقية.
5
أجمل ما في وثيقة المشروع الوطني أنها لم تدّعِ أنها “سدرة المنتهى” في السياسة السودانية، وإنما قُدِّمت على أنها “رؤية” أو “مقترح” قدمه المجتمعون للحكومة. فهي مجرد مقترح سياسي من قوى سودانية، وهو أمر من حقها بالطبع، ولا يصادر هذا المقترح آراء الآخرين الذين لم يحضروا لقاء بورتسودان أو لم تتم دعوتهم إليه.
6
اتسم المشروع الوطني، في مجمله، بروح توافقية، إذ اتجه إلى ما يوحّد السودانيين بدلًا من التركيز على ما يفرقهم. فجميع القضايا المطروحة فيه مفتوحة للحوار، وقد أكد أكثر من مرة على إنهاء احتكار السلطة لأي فئة أو جماعة، كما أنه رفض الإقصاء، مشددًا على حق الجميع في المشاركة السياسية والمساهمة في بناء الوطن، باستثناء من صدرت بحقهم أحكام قضائية في جرائم حرب (لاحظ: أحكام وليس مجرد تهم).
7
في مستهل الوثيقة، طُرح ما يسمى “الثوابت الوطنية”، وهي مبادئ متفق عليها بين السودانيين الوطنيين (لا العملاء)، تبدأ بالوحدة الوطنية وتنتهي بالسلام المستدام. كما طرحت الوثيقة أفكارًا أولية تتعلق بفترتين: الأولى تأسيسية مدتها عام واحد، والثانية انتقالية لم يُحدَّد لها سقف زمني، وترك أمر تحديدها للمؤتمر السوداني/السوداني المزمع عقده قبل نهاية الفترة التأسيسية.
في رأيي، فإن عامًا واحدًا كفترة تأسيسية لبلد مدمر اقتصاديًا وممزق اجتماعيًا ليس كافيًا لتأسيس أي شيء، لا سيما أن “مقترح المشروع الوطني” وضع لهذه الفترة 16 هدفًا ينبغي تحقيقها، في حين أن إنجاز أحدها فقط قد يتطلب شهورًا. لذا، فمن الأفضل أن تمتد الفترة التأسيسية إلى عامين على الأقل، حتى يتسنى إصلاح ما يمكن إصلاحه من الدمار الواسع الذي شهدته البلاد. علمًا بأن الحرب لم تنتهِ بعد، وقد تستمر لفترة أطول مما نتوقع بسبب المؤامرات الخارجية التي تتزايد يومًا بعد يوم.
8
اقترح المشروع الوطني هياكل لإدارة السلطة خلال الفترة الانتقالية، وأوصى باعتماد النظام الفيدرالي وما يرتبط به من هياكل، لكنه ترك التفاصيل لما سيتمخض عنه مؤتمر الحوار السوداني/السوداني.
9
أفضل ما في المشروع الوطني المقترح أنه لم يفرض حلولًا مسبقة، بل حدد 24 قضية وطنية ذات أهمية قصوى، وأكد ضرورة التوافق الواسع حولها. وهذا يبعث على الاطمئنان بأن مخرجات الحوار الوطني التي سيتم التوصل إليها ستكون بمشاركة الجميع دون إقصاء. كما أن الدستور، الذي اقترح المشروع الوطني صياغته عبر مؤتمر دستوري، سيتم إقراره باستفتاء شعبي، مما يعني أننا سنكون، لأول مرة في تاريخنا، أمام دستور نال شرعيته من الشعب السوداني، بدلًا من أن يُفرض علينا من قبل النخب السياسية.
في السابق، اعتدنا خلال الفترات الانتقالية أن نحكم بدستور 1956، وغالبًا ما كانت مشاريع الدساتير في الفترات الديمقراطية لا تكتمل أو تأتي مفصّلة وفق أهواء النخب وصراعاتها. أما في الفترات العسكرية، فكانت الدساتير تُفصل وفق مقاس الحاكم، مثل دستور 1973 في عهد مايو، ودستور 1998 في عهد الإنقاذ. أما دستور 2005، فكان الوحيد الذي حظي بتوافق واسع، لكنه لم يكن نابعًا من الشعب، بل كان صفقة لتسوية سياسية بين الحركة الشعبية والإنقاذ.
إذا ما سارت خطة المشروع الوطني كما هو مخطط لها، فسنكون لأول مرة أمام حكم بدستور تمت استشارة الشعب فيه قبل أن يُفرض عليه.
يبقى المشروع الوطني المطروح بحاجة إلى تطوير ونقاش مستمر عبر مختلف المنابر، كما أنه بحاجة إلى مشاريع أخرى تستفيد منه ويستفيد منها، ليتم التوصل في النهاية إلى مشروع وطني موحّد، خاصة أن آفاق هذا المشروع مفتوحة بلا سقوفات ولا إقصاء.