رأي

السودان بين وصاية الإمارات وتدويل الأزمة: عندما تتحول الحرب النفسية إلى أداة هندسة سياسية

لؤي إسماعيل مجذوب

من زاوية أمنية وعسكرية، فإن التطورات الجارية في السودان لم تعد مجرد صراع داخلي مسلح، بل تحوّلت إلى ساحة هندسة استراتيجية، تُديرها أطراف خارجية بأدوات غير تقليدية. الإلغاء المفاجئ لاجتماعات “الرباعية” المعنية بالسودان، والتصعيد في الخطاب الإعلامي والسياسي لمليشيا الدعم السريع، وما يُحاك في الغرف الخلفية لدوائر القرار الإقليمي، كلها مؤشرات على أن السودان دخل مرحلة “الضغط المركب”، حيث تتقاطع الحرب الميدانية مع الحرب النفسية والاستخباراتية.

أولًا: الإرباك الدبلوماسي كتكتيك أمني

إلغاء اجتماعات الرباعية لا يمكن قراءته خارج السياق الأمني. هذه الاجتماعات كانت تمثل أحد خطوط التماس بين المؤسسة العسكرية السودانية والفاعلين الدوليين. تعطيلها يُفهم كخطوة مقصودة لتفكيك أي إجماع دولي داعم للمؤسسات الوطنية، وخلق فراغ يسمح لقوى إقليمية — كالإمارات — بطرح بدائل أمنية ودبلوماسية مفخخة.

ثانيًا: الإمارات كفاعل أمني غير رسمي

الأدلة المتراكمة تشير إلى أن الدور الإماراتي تجاوز مرحلة التمويل السياسي أو الدبلوماسي، إلى مرحلة “إعادة تشكيل البيئة الأمنية” عبر دعم لوجستي مباشر لمليشيا متمردة، وتأمين ممرات الإمداد، بل وحتى بناء منصات إعلامية وإلكترونية تُستخدم كأدوات تشويش على الوعي الوطني. هذا النمط من التدخل يوازي — من منظور أمني — “تدخل عسكري غير مباشر” ويشكل تهديدًا مباشرًا على وحدة القرار السيادي.

ثالثًا: الجبهة الداخلية وتفكيك الهوية الدفاعية

تصريحات قائد المليشيا الأخيرة لم تكن مجرد انزلاق لغوي. نزع الانتماء العربي عن السودان ومحاولة خلق هوية “أفريقية خام” هي أدوات ضمن ما يُعرف في علم النفس العسكري بـ “تفكيك الهوية الدفاعية للدولة”، وتخليق سرديات بديلة تُربك الجيش وتضعف الجبهة الداخلية. الحرب هنا لم تعد فقط بالسلاح، بل بإعادة صياغة الرواية الوطنية.

رابعًا: اللاجئون كمنصة ضغط استراتيجي

وجود أعداد ضخمة من لاجئي دارفور في أوروبا، تحت غطاء منظمات وعلاقات استخباراتية، يُوظف اليوم في إطار “تدويل الأزمة”. هناك محاولات حثيثة لتحويل هذه الكتلة إلى منصة سياسية تدّعي تمثيل واقع السودان، وتضغط لتشريع كيانات ما بعد الدولة. في المدى المتوسط، هذا المسار يهدد بتفكيك شرعية الدولة المركزية، وخلق هياكل بديلة بتوقيع خارجي.

خامسًا: التوغل الإسرائيلي عبر الفوضى

بعد فشل مشروع التطبيع تحت الضغط السياسي، يبدو أن إسرائيل تسعى اليوم لفرض وجودها عبر “نافذة الفوضى”، بالتنسيق مع أطراف خليجية متورطة. من منظور استخباراتي، السودان يوفر بيئة مثالية لحرب بالوكالة بين أنقرة وتل أبيب، دون تكلفة مباشرة، مستغلين هشاشة الحدود، وتعدد الفاعلين غير الرسميين، وضعف المظلة السيادية.

التوصيات الأمنية والعسكرية:

1. إعادة تعريف العدو: الإمارات لم تعد شريكًا في السلام، بل فاعلًا في مشروع تفكيك السودان من الداخل.

2. تبني استراتيجية هجومية ناعمة ومركبة: تشمل التحرك الدبلوماسي المضاد، والتشويش على غرف العمليات الإعلامية الممولة، وفضح قنوات الإمداد الإقليمي أمام الرأي العام الدولي.

3. تحصين الجبهة الداخلية: بخطاب وطني واضح، يعيد تعريف مشروع الدولة ويعزل دعاة التفكيك السياسي والعرقي.

4. مواجهة حملة الشرعنة الدولية للمليشيات: عبر تحريك ملفات الجرائم والتورط الخارجي في المنابر القانونية والحقوقية.

5. إنشاء مظلة إقليمية موازية: تنسق مع قوى صديقة لموازنة التدخلات السلبية، وتعيد السودان إلى خارطة التفاعل الإيجابي داخل الإقليم.

الختام:

ما يجري في السودان ليس خلافًا سياسيًا داخليًا، بل محاولة لفرض وصاية أمنية مدفوعة بالمال والسلاح والتقنيات. وأمام هذا المشهد، فإن بقاء الجيش الوطني على الحياد أو التردد في تسمية الأمور بمسمياتها، يعني السماح لقوى خارجية بإعادة تشكيل السودان على طريقتها.

السيادة لا تُؤخذ بالتفاهمات المشروطة، بل تُنتزع بثبات الموقف وقوة العقيدة القتالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى