مكتب بريد الأرواح التائه

محمد يوسف العركي
في طريق سفر صحراوي يظهر فيه الاسفلت احيانا ويختفي احايين كثيرة بفعل الرمال والرياح ابتلعت الأرض حافلة تئن تحت وطأة عطل مفاجئ. غربت الشمس، مسدلةً ستارًا قرمزيًا على مشهد اليأس، بينما كانت القلوب تتلاطم كالأمواج الهائجة في بحر من القلق. لم يكن عطل الحافلة مجرد توقف ميكانيكي، بل كان توقفًا للحياة ذاتها، في منطقة مهجورة لا يسرق السكون فيها سوى همس الريح بين أطلال بيوت بالية وسوق خاوٍ، ومكتب بريد يرتدي ثوب النسيان.
كان الركاب صورة مصغرة لمعاناة البشرية. “ليلى”، غضة كزهرة لم تكتمل نضارتها، لكن قلبها مثقل بخنجر الغدر، فقد هجرها حبيبها بلا أثر، تاركًا خلفه صحراء من التساؤلات. الزوجان، يدان متشابكتان، لكنهما لا تحسّان بملء الفراغ الذي خلفه حلم الإنجاب المؤجل، فكانت أرواحهما معلقة بخيط رفيع من الأمل يوشك أن ينقطع. هناك أيضًا الرجل المسن، الذي نحتت التجاعيد على وجهه خريطة سنوات الفقر والعوز، كان كل نفس يشهقه شهقة ألم، مثقلًا بهموم أطفال يراهم يصارعون قسوة الحياة دون أن يملك لهم شيئًا. أما السائق، فكانت عيناه نافذتين على روح أرهقتها وحدة الطلاق، بعد أن غادرت رفيقة دربه، تاركة إياه كبحر بلا ميناء.
مع كل لحظة تمر، كان الموت يمد أذرعه الباردة ليحتضن اليائسين. عندئذ، رفعت ليلى رأسها، فكانت كلماتها كبارقة أمل في ليل بهيم: “لنكتب أحزاننا، كل ما يثقل أرواحنا، ولنودعه في صندوق البريد هذا. نموت خفافًا، بلا أحمال تثقل الأكفان.” فكرة غريبة، لكنها كانت طوق نجاة أخير في محيط من اليأس.
بحثت الأيادي المرتعشة عن أوراق بالية وأقلام عتيقة، ثم انهمرت المداد من القلوب قبل الأقلام. ليلى خطت قصتها مع غدر الزمان، والزوجان رسما حلمهما المكسور، والرجل المسن نقش معاناته مع صراع البقاء، والسائق خط سطورًا من وحدة قاسية. كل مظروف كان صرخة روح، وديعة في صندوق بريد صدئ، وكأنه صندوق للأسرار الكونية. بعد أن أودعوا أثقالهم، غلبهم الإرهاق، فناموا نومًا عميقًا، كأنهم يتدربون على سكون الأبدية.
مع انبلاج الفجر، وانسلال خيوط الشمس الذهبية فوق رمال الصحراء، اخترق صمت المكان صوت محرك. حافلة أخرى، وكأنها همس القدر، توقفت بجانبهم. نزل منها سائق، وجهه يشع هدوءًا غريبًا، كأنه قادم من عالم آخر. “لقد حان وقت استكمال الرحلة،” قال بصوت خفيض.
اعتلى الركاب الحافلة، وقلوبهم ترقص بين الدهشة والأمل. مر السائق بينهم، يوزع مظاريف لم تكن تلك التي أودعوها. فتحتها ليلى، فقرأت كلمات كأنها بلسم لجروحها: “الحب الحقيقي ليس في الامتلاك، بل في انعكاس الذات. كل فراق هو بداية لاكتشاف ذات أقوى وأكثر جمالاً.”
الزوجان، حين فتحا مظروفهما، وجدا رسالة تقول: “قيمة الحياة لا تقاس بعدد الأبناء، بل بعمق الحب الذي تزرعانه. العطاء أشكال، بعضها لا يحتاج جسدًا، بل روحًا.”
أما الرجل المسن، فكانت كلماته كنهر يروي عطش روحه: “الغنى الحقيقي ليس في كثرة المال، بل في صبر روحك، وقوة تحملك، وحب أبنائك الذين يرون فيك قدوة. كفاحك هو إرثهم الأبقى.”
السائق، الذي كان يحمل أثقال الوحدة، قرأ: “الوحدة ليست فراغًا، بل فرصة لتعيد ترتيب ذاتك وتكتشف العيش لنفسك. النهايات قد تكون بدايات لقصص أجمل.”
ساد الصمت، صمت يكسوه فهم عميق. أدركوا أن الحياة ليست مجرد سلسلة من المحن، بل هي رحلة متواصلة نحو جوهر الوجود.



