القوة الخفية وراء محاولات فرض العلمانية

العبيد أحمد مروح
لم تكن الخطوة التي أقدمت عليها مليشيا الدعم السريع وحلفاؤها من بقايا المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير ومعهم فصيل الحركة الشعبية – شمال الذي يقوده عبد العزيز الحلو، والذين اجتمعوا في كينيا منتصف الشهر الماضي ضمن تحالف أسموه “تأسيس” مؤخراً، والتي أعلنوا فيها تبنيهم لدستور علماني، وتحصينه بما أسموه “مبادئ فوق دستورية”، لم تكن تلك الخطوة معزولة عن سياق ممتد، منذ فجر الاستقلال، لعزل السودان وشعبه عن هويتهم الإسلامية وفرض نظام غريب ومستورد عليهم !!
والمتتبع لتاريخ السودان السياسي، خلال ما يقارب السبعين عاماً التي أعقبت إستقلاله عن الحكم البريطاني، يدرك بشكل جلي أن جهة ما، تحرك الأحداث من وراء ستار، تصر على إبعاد الإسلام – دين الأغلبية المطلقة من السودانيين – من أن يكون مرجعاً لنظام حكمهم ودستور بلادهم، كما سنحاول أن نبين في هذا المقال.
لقد ظلت قضية “الدستور الإسلامي” على رأس أجندة البرلمانات السودانية المنتخبة منذ فجر الاستقلال، وكان يُطلق على تلك البرلمانات مسمى “الجمعية التأسيسية”، وذلك للترابط الوثيق بين نظام تأسيس الدولة عقب الاستقلال وبين قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية التي كان يُراد أن يتأسس عليها دستور البلاد؛ وفي نفس الوقت، ظلت محاولات الحؤول دون ذلك مستمرة، بأوجه متعددة.
وقد شكل انقلاب مايو 1969 الذي قاده تحالف الحزب الشيوعي والقوميين العرب، أولى المحاولات الأكثر جدية لقطع الطريق على إقرار الدستور الإسلامي في الجمعية التأسيسية التي كانت قائمة وقتها، والتي كانت أغلبيتها المطلقة من نواب حزبي الأمة والوطني الاتحادي، وكان نصيب “جبهة الميثاق الإسلامي” فيها خمسة نواب فقط، إذ تجاوز الدستور وقتها مرحلة القراءة الثانية وأوشكت الجمعية على إقراره، لكن الانقلاب قطع الطريق أمام تلك الخطوة !!
أما المحاولة الثانية الأوضح فقد برزت في العام 1983 في أعقاب إعلان الرئيس جعفر نميري تحريم الخمور وإغلاق الحانات وبيوت الدعارة وتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، إذ بمجرد أن بدأ النميري “نهجه الإسلامي”، قبل ذلك بسنوات قليلة، وحتى قبل إعلان تلك القوانين، أخذت الضغوط الغربية تتكاثف عليه، فأوقفت شركة شيفرون الأمريكية نشاطها في حقول النفط التي اكتشفتها في “أبو جابرة”، وتمّ إعلان تأسيس “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بزعامة جون قرنق، ضابط الجيش الذي بدأت علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1971، وتكررت زياراته الأكاديمية لها حتى نال درجة الدكتوراة من جامعة قرنيل بولاية إيوا عام 1981، ووصلت الضغوط مداها بوقف جميع أشكال القروض والعون التنموي الذي كان يتلقاه السودان من مؤسسات التمويل الدولية.
والحقيقة أن تمويل المشروعات التنموية من الصناديق الدولية ظل متوقفاً منذ ذلك الحين (1983) وإلى يومنا هذا، على الرغم من تعاقب الأنظمة على حكم السودان وتنوعها، بما في ذلك نظام الديمقراطية أو التعددية الثالثة برئاسة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي، والسبب أن كل تلك الأنظمة إمتنعت – لسبب أو لآخر – عن إلغاء القوانين الإسلامية، بل إن عدم الإلغاء هذا كان سبباً رئيسياً في زيادة الضغوط على حزب الأمة وقيادته، إبان التعددية الثالثة واللجوء إلى البيت الديني الآخر ممثلاً في زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، محمد عثمان الميرغني، فكان أن فوجئت الساحة السياسية بتوقيع الإتفاق الذي عرف باتفاق الميرغني – قرنق في نوفمبر 1988 وفيه أقروا “تجميد قوانين سبتمبر” – وهو المسمى السياسي لقوانين الشربعة – إلى حين إنعقاد ما أسموه المؤتمر الدستوري !!
لم تفلح “الجهود” التي كانت تجري وراء ستار- وقتها – في تمرير إتفاق الميرغني قرنق، فعمدت هذه المرة إلى أسلوب جديد وهو ما عُرف في التاريخ السياسي السوداني ب “مذكرة الجيش” إذ تقدمت قيادة القوات المسلحة في فبرابر 1989 بمذكرة موجهة لرئيس الوزراء المنتخب، ظاهرها مهني، وجوهرها مطالب بفرض مسار سياسي محدد على رئيس الوزراء أبرز بنوده فض الشراكة في الائتلاف الحاكم مع الجبهة الإسلامية القومية، باعتبارها هي الطرف الذي يقف حجر عثرة أمام مخططات إلغاء القوانين الإسلامية.
ويلاحظ المتتبع لهذا التاريخ، دون عناء، أن الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، ظلت هي رأس الرمح في الجهود والضغوط الغربية لإلغاء القوانين الإسلامية، وقد استمر ذلك حتى انتهى إلى إتفاقية السلام الشامل الموقعة في يناير 2005 والتي استثنت جنوب السودان من تلك الأحكام ،وانتهى أمرها إلى أن ينفصل الجنوب ليصبح دولة مستقلة.
لكن انفصال جنوب السودان لم يوقف مطالب العلمانية، بل لم يوقف الحرب نفسها، إذ عمدت القوى الدولية المُحرّضة على فرض العلمانية إلى إشعال الفتنة ونار الحرب في دارفور ، حتى قبل أن يتم توقيع إتفاق السلام الشامل، ونجحت أداتها في ذلك – الحركة الشعبية الأم – في تحويل “حركة تحرير دارفور” إلى حركة تحرير السودان بقيادة كل من عبد الواحد محمد نور ومني أركو مناوي؛ ثمّ لما حدث الإنفصال، وذهب الجنوب بما حمل، تسلم عبد العزيز الحلو راية العلمانية وجعل فرضها على كل السودان شرطاً لسلام يوقعه مع السلطة المركزية، وبقي عبد الواحد نور عند موقفه الأول !!
وفي نفس الوقت الذي كان يتم فيه التمسك بورقتي عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور، كانت الترتيبات تجري على قدم وساق لإسقاط النظام المصنف “إسلامي” في الخرطوم، وإلغاء منظومة القوانين والتشريعات التي استنها على مدى ثلاثين عاماً، وقد نجحت تلك الجهود في إسقاط النظام، وتم الشروع في إلغاء القوانين وإلغاء منظومة القيم الإسلامية عبر “تنظيف المناهج الدراسية من الحمولات الدينية”، ثم جرى إستقدام بعثة فولكر الأممية لاستكمال المهمة التي انتهت بمحاولات فرض الإتفاق الإطاري، بالضغوط السياسية والإغراءات المادية، أو عن طريق “القوة الجبرية”، فكانت النتيجة هي الحرب التي تدور منذ عامين والتي تحولت أجندتها من إلغاء الهوية الإسلامية إلى إلغاء “دولة 56” وتحويلها إلى رماد !!
إن تجميع حَمَلة مشاعل العلمانية في نيروبي مؤخراً، ومحاولة بث الروح فيهم بعد أن أصابهم الوهن واليأس من فرض أجندتهم على الشعب السوداني، ما هو إلا حلقة جديدة من حلقات التآمر المستمر على الشعب السوداني، والإصرار على فرض هوية تغريبية عليه، ولا أعتقد أن ذلك التآمر سيتوقف، لأنه مرتبط بأجندة صراع جيواستراتيجي متصل بموقع السودان الجغرافي وبتكوينه السكاني وبما حباه الله به من موارد فوق الأرض وتحتها؛ وعلى أبناء السودان ونخبه السياسية أن يدركوا أن بلدهم مستهدفة في هويتها قبل أن تكون مستهدفة في مواردها وموقعها، وأن يسلكوا سبيلاً غير الذي سلكوه في السابق، لدرء الفتن التي تحاول الإحاطة بهم وتمزيق أوصال مجتمعهم و بلادهم.
نقلا عن موقع “المحقق” الاخباري