تقارير

عمرو منير دهب يكتب: على أبواب الأغنياء

nasdahab@gmail.com

الأجوبة المفحمة تدلّ ابتداءً على سرعة بديهة وذكاء، وربما كان ذلك هو غاية ما يُلتمس في الأجوبة المفحمة من دلالات، فالغاية الأبعد والأعمق ممثلة في الإقناع غالباً ما تكون باهتة الحضور في سياق الإجابة التي تــُـلْقِـم السائل حجراً، ويكون ذلك الحجر (الشهير في التراث العربي) بمثابة الدهشة التي تعقد لسان السائل المستفِـز مذكّرة بنقطة ضعف أو مُعيِّرة بحالة شاملة من الضعف أغفلها السائل في غمرة حماسة، وربما مهدّدة صراحة بما هو أعظم خطراً من العواقب مما أغفله السائل في ذات الغمرة من الحماسة.

ولعل السائل تلك المرّة كان خالص البراءة (وهي حالة ليست نادرة في معرض الأسئلة الداعية إلى المُفحم من الإجابات) عندما قصد أحدَهم سائلاً: ” أيّهما أرفع قدراً العلماء أم الأغنياء؟”، وحين جاءت الإجابة مؤكّدة للموروث الثقافي العربي لاسيما قديمه: “العلماء أرفع قدراً”، كان الردّ المستنكِر من السائل الأول مبشـِّراً بما يُمْكن أن يُحتـَـفى به على أنه إجابة مفحِمة: “فلِمَ نرى العلماء بأبواب الأغنياء ولا نرى الأغنياء بأبواب العلماء؟”، ولكن للأسف كان المسؤول أطول نفَساً في سباق البديهة والإفحام فردّ بالإجابة التي حفظها التاريخ على أنها الأخيرة: “لعلم العلماء بفضل الأغنياء وجهل الأغنياء بقدر العلماء”.

بالتجاوز عمّا يثير الإعجاب عادة في مسابقات البديهة من المنطق “الشكلي”، فإن المنطق “المضموني” الذي احتواه الردّ الأخير أعلاه كان مقبولاً تماماً في السياق التاريخي للمسألة التي تعود لقرون عديدة خلت، المدهش أن بقايا واضحة الأثر لتلك النظرة لا تزال إلى هذه اللحظة تعتمل بثقة في الوجه المعلَن للحياة الثقافية والاجتماعية العربية، أما عندنا محليّاً فإن الوجهين (المعلن والمستتر) لحياتنا الثقافية والاجتماعية لا يزالان إلى حدّ كبير نسبياً يحتفيان بتمجيد العلم المحض على حساب المال أيّاً كان مصدره، والمأثرة التي تستحق الاحتفاء في هذا أننا على الأقل لانزال نحاول أن نطابق بين ما نبطن وما نعلن ما وسعنا الأمر.

من المعلوم الذي لا بأس بالتذكير به في هذا السياق أن الغرب قد فارق النظرة التي تفضــِّل العلم (وأيّ شيء؟) على حساب المال، فحساب الأخير في البنوك (أو أي وعاء يحفظ المال في حالتيه السائلة والمجمَّدة، ونتجاوز عن المتبخرة) هو ما يزحزح مقام صاحبه في المجتمع صعوداً وهبوطاً، ذاك شأنهم في المقابل سرّاً وعلناً، ولا حاجة لتزكية صنيعهم هنا فالرياء لم يعد على الأرجح يحتل في حياتهم النفسية والاجتماعية غير بضع كلمات تذكِّر بالتعريف المعجمي للمفهوم المنقرض ليس إلّا.

ما الذي لا يزال يدفعنا إلى تمجيد العلماء على حساب الأغنياء؟ على الرغم من أن تاريخ النظر في المسألة يغري بالتفلسف والتعقيد فإن الحاضر الذي لم تعد قضاياه تحتمل التأويل والمماطلة يجب أن يحفز على إجابة مباشرة تشير إلى أننا نرى لدى الأغنياء ما نحسدهم عليه مما لا يقبل القسمة على اثنين أو أكثر، بينما نتوهّم أن الوقت الذي ينفقه علماؤنا للإجابة بسخاء على ما يشكل علينا هو بمثابة المشاركة فيما يملكون. إلى ذلك، نحن ننظر إلى العلماء مأخوذين بذكائهم وعبقريتهم، ولا أدرى تاريخـيّـاً على وجه التحديد مـَـن الذي أوقع في روعنا أن الثروة الضافية لا تتطلّب ذكاء وعبقرية (مماثلين على الأقل لما لدى العلماء) لجمعها.

الذي أيقنه الناس في الغرب منذ زمن ليس قريباً أن عبقرية جمع المال أولى بالتقدير من عبقرية تحصيل العلم، والأرجح أنهم اكتشفوا (إضافة إلى الموهبة الفطرية المطلوبة في الحالين) أن تحصيل العلم يحتاج إلى عبقرية تعرف كيف تنكبّ على أرفف المكتبات وقوارير المختبرات بلا هوادة، بينما يتطلّب تحصيل الثروة عبقرية متفتحة تعرف كيف تضرب في كل صراط مستقيم ومُعوَجّ من مزالق الحياة، وتعرف كيف تطوّع الناس من كل جنس ولون (بما في ذلك أجناس العلماء وألوانهم).

محليـّـاً لسنا بحاجة إلى مراجعة ثقافة الحسد أو ثقافة المكابرة، ولا حتى إعادة النظر في الحنين إلى قواعد الماضي في التعريف بمقامات الناس، لكي ندرك أيهما أرفع قدراً: العلماء (وفيهم الكُتــّاب بمختلف طوائفهم) أم الأغنياء. كل ما علينا فعله هو إعادة إلقاء السؤال القديم عن السبب الذي يجعل إحدى الطائفتين تتداعى على أبواب الأخرى، دون أن نتعجّل الإجابة كما في المأثور عن مسابقات البديهة السريعة بما يُلقِم “الحجر” الشهير في الثقافة العربية الغائرة فـيُخرس الآخرَ وصوتــُه يعتمل قويّـاً داخله بإجابة مغايرة غير مُفحمة شكليّاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى