رأي

الأعيان المدنية في القانون الدولي الإنساني

 

د. إيناس محمد أحمد

نيران الحرب لا تعرف التفرقة بين المقاتلين والمدنيين ولا بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، فنيران الحرب تلتهم كل شيء بلا هوادة وبلا رحمة ، الأمر الذي دعا المجتمع الدولي إلى السعي لوضع قواعد قانونية تعطي المدنيين حماية من خلال القانون الدولي الإنساني، لاسيما بعد ما شهده العالم من دمار وخراب عقب الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)م وآثارها الكارثية المدمرة التي ألقت بظلالها على البشرية مخلفة أكثر من 60 مليون قتيل أغلبهم من المدنيين ، إضافة إلى العديد من الجرائم التي ارتكبت بحقهم من تهجير قسري ونزوح ولجوء وتدمير ممتلكاتهم والبنى التحتية لبلادهم دون التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية.

يذكر التاريخ الإنساني أن إعلان بيترسبورغ 1868م كان أول وثيقة دولية أشارت إلى مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية ، مع ملاحظة أن اتفاقيات لاهاي لعام 1899م و 1907م أشارتا صراحة إلى حماية الأعيان المدنية قبل الإشارة إلى حماية المدنيين أنفسهم .

بعد ذلك تكللت الجهود الدولية في وضع اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م ، والخاصة بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة وتعد أول اتفاقية دولية خاصة بحماية المدنيين في النزاعات المسلحة ، ويُعد مدنياً كل من لم يشارك أو يقاتل في الأعمال العدائية، وإذا أثير شك إذا ما كان الشخص مدنيا أو عسكرياً فإن الصفة المدنية هي التي تغلب، وتمتد هذه الصفة المدنية للأعيان المدنية من منازل مواطنين ودور العبادة والمستشفيات والمدارس والجامعات والمتاحف والأعيان الثقافية والفنية والتاريخية والسدود والجسور ومحطات المياه والكهرباء والأسواق والمحال التجارية والمطارات المدنية ومحطات المترو والمواصلات والبنوك ومقرات البعثات الدبلوماسية وغيرها من الأماكن التي ليست أهدافاً عسكرية.

مع ملاحظة ان هذه المواقع قد تفقد هذه الحماية اذا استخدمت لأغراض عسكرية.

كما نص على حماية البيئة الطبيعية وما تشكله الحرب من أضرار بالغة وطويلة الأمد على البيئة الطبيعية، لذلك يحظر القانون الدولي الإنساني تلويث خزانات ومجاري المياه بغرض تسميم المدنيين أو الأراضي الزراعية أو المواشي ، وكذلك تمنع اتفاقية لاهاي1907م في المادة 23 منها من استخدام السم أو الأسلحة المسمومة ، ويحظر حرق المحاصيل الزراعية.

و لخطورة تلك الأفعال فإن القانون الدولي الإنساني اعتبر مرتكب أي منها *مجرم حرب*، حيث اتجهت المحكمة الجنائية الدولية إلى اعتبار الاعتداء على الأعيان المدنية جريمة من ضمن جرائم الحرب وهو ما نصت عليه في المادة 8 من نظامها الأساسي فقرة 2 بند 4 ، وهي من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم ولا يستفيد المجرم بالعفو عنها.

في المقابل يسعى القانون الدولي الإنساني إلى تخفيف المعاناة الإنسانية للمدنيين عبر توفير حماية لهم وللأعيان التي لا غنى لهم عنها في حياتهم ومعيشتهم والتي يجب على الأطراف المتنازعة بذل الجهد في منع استهدافها عند شن الهجمات العسكرية.

و بينت المادة 52 من البروتوكول الإضافي لعام 1977م قواعد الحماية العامة للاعيان المدنية وحظرت كل أنواع الهجمات العسكرية عليها ، وحظرت أي فعل يؤدي للمساس بحياة السكان المدنيين كما حظرت انتهاج التجويع ومنع المواد الغذائية أو الاغاثات أو الإعانات للوصول للمدنيين كتكتيك حربي.

ثم جاءت اتفاقية لاهاي لعام 1954م لتلزم الأطراف المشاركة في النزاعات بعدم توجية العمليات الحربية ضد الأعيان المدنية لاسيما الثقافية، وحظر استخدامها لأغراض عسكرية وحماية هذه الأعيان من السرقة أو النهب أو التخريب، وقد جاءت هذه الحماية استجابة للأحداث التي جرت في الحرب العالمية الثانية التي دمرت فيها العديد من الممتلكات الثقافية كوسيلة لبث الرعب وإذلال المدنيين ، وجاء البروتوكول الثاني لعام 1999م الملحق باتفاقية لاهاي 1954م ليستكمل الحماية للأعيان الثقافية.

كل ما ورد يشكل قاعدة قانونية دولية توضح مدى اهتمام القانون الدولي الإنساني بالأعيان المدنية، وبالتطبيق على ما قامت به المليشيا الإرهابية نجد أنها قامت بأبشع صور الاعتداءات على الأعيان المدنية ووثقت تلك الاعتداءات ونشرت عبر منصات الإعلام المختلفة ، وقد صرح مولانا الفاتح طيفور النائب العام و رئيس اللجنة الوطنية لانتهاكات المليشيا، أن المليشيا ارتكبت العديد من الاعتداءات منها نهب واحتلال بيوت المواطنين وممتلكاتهم ، ونهب وسرقة 126 بنكا ، وتدمير 5 متاحف ، و نهب مخازن مشروع الجزيرة ، و قامت بقتل 700 مواطن بالتسمم الغذائي بمنطقة الهلالية ونفوق أعداد كبيرة للماشية نتيجة تسمم المياه ، واستخدمت التجويع كسلاح ضد المواطنين ومنعهم من الزراعة ، كذلك استهدفت المليشيا المستشفيات في كل أرجاء ولاية الخرطوم و ولايات دارفور ومراكز غسيل الكلى استهدفتها بالمسيرات وبالأسلحة الثقيلة مما أدى لخروج 259 مستشفى عن الخدمة وإحداث تدمير شبه كامل لها ، ومنعت ما يقارب ال 16 ألف طالب بمختلف المراحل الدراسية من مواصلة الدراسة، بل جندت ما يقارب عشرة آلاف وتسعمائة طفل تجنيداً قسرياً ودفعت بهم لنيران الحرب واستخدمتهم كدروع بشرية.

كما اعتدت على 90%من البنية الصناعية ودمرتها ، واعتدت على مقرات الصحف والقنوات الفضائية والاذاعية ووكالات الأنباء ، كما اعتدت على 6 مطارات مدنية في مختلف الولايات.

كل هذه الاعتداءات موثقة وتمتلك السلطات أدلة دامغة على وقوعها من المليشيا الإرهابية، مما يستوجب مساءلتها وتصنيفها على المستويين الإقليمي و الدولي كجماعة إرهابية ارتكبت جرائم حرب.

نقلا عن موقع “المحقق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى