طفل في متحف حبوبة: الحق في المدينة
عبد الله علي إبراهيم
(مرت بي تجربة قبل نحو سنتين اضطررت فيها لاستئجار ممرضة ترعى مريضاً لنا طالما كان أهل البيت الآخرين في الدوام. وقلت في نفسي يبدو أننا صرنا أمريكيين دون مجرد الانتباه إلى حقيقة أنفسنا. وظللت منذ حين أدعو إلى وعي بالمدينة التي نخوض فيها ببال القرى. فنحن أولاد مدينة وبناتها إرادياً ولا إرادياً من دون أن نتوقف كدولة وصفوة عند هذه الحقيقة المزعزعة ومترتباتها. إن لنا حقاً على هذا المأوى الجديد سماه الفيلسوف الماركسي هنري لوفافر “الحق في المدينة” ولكننا نعيشه بذاكرة القرى وأحكامها. وهذه كلمة مما كتبت عن هذا الحق)
لم اقرأ في أدبنا الثقافي منذ حين كلمة في مثل سماحة كلمة رندة العبيد (14 عاماً، وقتها قبل أكثر من عقد من الزمان) التي نشرتها في مجلة “جسور” وهي مجلة مخصصة للعناية بتجربة جيل السودانيين البريطاني الأول تشرف عليها الصديقة خالدة عبدالحفيظ.
كتبت رندة مقالة عن انطباعاتها عن السودان بعد اجازة أسرية فيه. وتوقفت عند موضعين من مقالها. كان الأول حين وصفت مشهد احتفال الأسرة الكبيرة بقدومها. فقد ذبحوا لهم خروفاً واخرجوا فشفاشه منه. وهو منظر تأذت منه رندة واختفت في زريبة البهائم حتى فرغ الناس من الغداء. ولما عادت الي البيت تحسر الأهل لأنها فرطت في “غدوة إنما”. ولم يمنع كراهة رندة للمشهد الدموي من أن تكتب بطبع سمح:” لقد تقززت من مشهد الخروف الذبيح ولكني مدينة لفضل الأهل”. وهذا هو التحضر الحق. فانت لا تجعل من عوائدك التي انطبعت عليها الميزان الذي لا يأتيه الباطل وتنسب ما خالفها من عوائد العالمين إلى البدائية أو البربرية.
كما توقفت عند وصف شقيق رندة الطفل لمنزل حبوبته. فقد قضى الصغير سحابة نهاره يجري بين أكناف الدار ويأتي إلى أمه بمعروضاته منه لتراها. ولما نادته أمه ليودع حبوبته: “ماما هذا محل مليء بالطرف. دعيني ابقي في هذا المتحف”.
ولمنازل الحبوبات طعم المتاحف. وذكرني هذا زيارتي في عطلاتي الدراسية، وأنا طفل، دار حبوبتي لأمي بت أم باركة في قرية البرصة بمركز مروي. فلا أزال أري بعين الخيال “قسيبات” العيش والتمر في “دانقة” (برندة) خلفية بالبيت. ودونت من بت أم باركة أدباً شعبياً أعرض له من قريب. وكانت تحب حلاوة لكوم التي آتى بها إليها في منزل خالي بمقرن الخرطوم. أخذتني عبارة الطفل النشط في متحف الحبوبة إلى شاغل قديم بمنزلة الحبوبة الثقافية ومآلات الشيخوخة في زمننا هذا. وقد كتبت أول كلمة لي عن هذا الشاغل في مجلة الدوحة القطرية في أول الثمانينات وأعدت نشرها في كتابي “عبير الأمكنة” و” بخت الرضا”. وقد نوهت في الأخير بجهد محجوب شريف باسترداد الدور الثقافي للحبوبة في بص الهكر الثقافي المعروف ب “ثمن المشوار حكاية”. وفيه تحكي الحبوبات لأطفال هامش المدينة الحجا المتروك المهمل. وقد سبقني إلى التنبه إلى مأثرة محجوب الدكتور عبدالرحيم بلال الذي استعان بها في ندوة عن المسنين والتنمية ليسهب في شرح حقوق المسنين في مجتمع حضري ومغتربي يضيق يوماً بعد يوم بهم، أو يَعِقهم جملة واحدة. وقد بدأ عبدالرحيم كلمته الكبيرة بحكاية صديقه الذي تباعدت زياراته لأمه حتي قالت له: “بقيت تزورنا من مدة لمدة بقينا مقابر.”
يقول الامريكان عن الانسان السديد النافع إن “قلبه في الموضع الصحيح”. ومما يشرف أمثالي أن زملاء لنا بين انجلترا وسوق حلايب ومركز جوته (عبدالرحيم) قد تناصروا بسابق موعد التقدمية ليخفضا جناح الذل من الرحمة . . . للحبوبة.