رأي

كتلة المتمة.. كتلة الجزيرة

محمد وداعة
كتب المؤرخ نعوم شقير (هجم محمود ود أحمد ورجاله على المدينة وقتلوا عبدالله ود سعد ورجاله عن بكرة أبيهم وسبوا من النساء 366 ومن الرجال قتلوا 2000 وارتكب رجاله من المنكرات ما تقشعر منه الأبدان وكانت النساء يلقين بأنفسهن في النيل يفضلن الموت على حياة الفضيحة والعار).
وفي روايات أخرى أن جنود ود أحمد كانوا ينزعون الرضع من أمهاتهم ويهوون بهم عاليا ثم يتلقونهم بأسنة الحراب ، خشي الخليفة من انتقام الجعليين والشايقية فمشط جيشه القرى الآمنة فاعتقل 23056 من الجعليين و 12266 من الشايقية وقادهم إلى أمدرمان ولم يتم تخليصهم من الإقامة الجبرية إلا بعد سقوط أم درمان في يد البريطانيين وفرار الخليفة جنوبا إلى أم دبيكرات، وتم إلقاء القبض على السفاح محمود ود أحمد بواسطة قوات من السودانيين والأفارقة والهنود المجندين في صفوف الجيش البريطاني، ومات في المنفى).
هذا منقول عن المؤرخ شقير ، و بداية لا بد من التأكيد اننى و الى وقت قريب كنت اعتبر أن هذه الروايات تحتمل المبالغة والتهويل ، طبعا باستثثناء قتل أمير الجعليين عبدالله ود سعد وإبادة حوالى 2000 من اتباعه واستباحة المتمة، فهذه كانت محل استقصاء وتثبت من عدد من الباحثين، وكنت استبعد ما ذكر من حالات سبي النساء و قتل الأطفال و انتحار النساء بالقفز فى النهر ، والاختلاف بين الرواة عن استشهاد الخليفة على (فروته) فى أرض المعركة ، وهي سردية أوردها المؤرخ السوداني عصمت زلفو، عن اللحظات الأخيرة في حياة الخليفة فكتب (عسكر الخليفة في أم دبيكرات ، وفي أخر خطبة له وهو يدرك دنو لحظات المواجهة الأخيرة مع العدو أشاد بأنصاره الذين وقفوا معه حتى الرمق الأخير واخبرهم بأنه قرر مقابلة العدو والاستشهاد في ذلك المكان وأذن لمن أراد منهم النجاة بنفسه أن ينسحب، وقال لهم، أنا عافي وراضي عن الجمي.. (أي على الذي على جانبي) ثم جلس على ( الفروة ) ، أو تلك الروايات التي جاءت فى مذكرات بابكربدري ،اومذكرات يوسف مخاييل (تحقيق البروفسور أحمد إبراهيم أبوشوك) أو مذكرات محمد عبدالرحيم ، ومنشورات الإمام المهدي للبروفسور محمد إبراهيم أبوسليم ، والتضارب الكبير فيها.
الاستناد على التشكيك فى رواية نعوم شقير و آخرين ، جاء استنادا على مجهود ضخم عكف عليه الأستاذين محمد على جادين وعبدالعزيز الصاوي (عليهما الرحمة)  تحت مسمى ( الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة ) و طبع فى كتاب وهو يعتبر من اهم الكتابات التى حاولت إعادة النظر فى تاريخ الثورة المهدية.
انطلق هذا المجهود من رؤية فكرية جديدة لموضوع الثورة المهدية، إذ أن هناك استحالة حقيقية في الوصول إلى فهم متكامل للفترات التي سبقت الثورة المهدية وتلك التي تبعتها دون استكمال صورة الثورة نفسها، كما أن ما تبعها تأثر بها بشكل أو بآخر، وعلى ذلك فإن الاهتمام بتحليل الثورة بمنطق جديد، يتجاوز في الواقع حاجات فهم التاريخ إلى استنباط دلالات سياسية وفكرية معاصرة ومستقبلية تنتمي للماضي بقدر ما يمتد التاريخ في الحاضر والمستقبل ، و كان الأستاذ جادين ( رحمه الله ) يقول فى ظل شح المعلومات الموثقة و تداول كتابات و مذكرات لم تستوفي أدلة كافية ، لا بد منإاعمال منهج الاستنباط والتحليل لفهم ما حدث.
المتمة تعرضت إلى نكبتين في تاريخها الحديث الأولى على يد الدفتردار، ثأرا لمقتل اسماعيل باشا ، وكان ذبح المدنيين تحديداً من الوسائل المروعة التي استخدمها الدفتردار في القتل و التنكيل ، إضافة للسبي و الاغتصاب و قتل الأطفال، أقدم الدفتردار على حرق أهالي المتمة الذين تدافعوا للاحتماء بخلوة الشيخ أحمد الريح ، ليتم القضاء عليهم حرقاً بالنار وهم أحياء في العام ١٨٢٣، و النكبة الثانية على يد الأمير محمود ود أحمد انتقاما (لتقاعس) الجعليين فى نجدة الخليفة ومده بالمقاتلين.
إن ما حدث فى قرى الجزيرة من مذابح وإبادة يتطابق إلى حد كبير مع ما جرى فى المتمة من قتل و إبادة ونهب واغتصاب ، وبأسباب واهية كما في كتلة المتمة الأولى والثانية ، حيث طلب محمود ود أحمد مغادرة الأهالي للمتمة محذرا أن بقاءهم فيها سيكون سببا لقتلهم، وهي معاقبة مجتمع كامل بعد القضاء على المحاربين، أو في غيابهم.
و يتشابه الأسلوب في ارتكاب الفظائع بقسوة بالغة وبأقصى ماهو متاح من طرق القتل والتدمير.
الفاعل فى الحالتين كان يمتلك الأسلحة الفتاكة في مواجهة المواطنين العزل، الفاعل فى الحالتين لا يستثني احدا، شيخا كان أو إمرأة أو طفلا، نساء الجزيرة حفيدات النكبة الأولى القين بأنفسهن فى النيل وفضلن الموت غرقا على الخضوع للاغتصاب.
البدايات تتشابه كما ستكون النهايات ، الجزيرة حتما ستنتصر.. انتهى
وجود أسماء شخصيات أو اوصاف لها في المقال ورد فى المراجع المذكورة وليس بقصد التقريظ أو التجريح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى