نساءٌ يصنعن الحياة من رحم الحرب: قصصٌ من دُور الإيواء في السودان
شهد الخامس عشر من أبريل تحولًا جذريًا في تاريخنا السياسي والاجتماعي، حيث اندلعت حربٌ طالت أكثر مما توقعه البعض، لتُلقي بظلالها القاتمة على الجميع. بين لجوء ونزوح وتهجير قسري، أو البقاء تحت وطأة نيران الحرب، وجدت الأسر السودانية نفسها في مواجهة واقعٍ مرير لم يكن في الحسبان.
امتدت آثار الحرب لتتجاوز ميادين القتال، مخلفةً واقعًا جديدًا ومعاناةً عميقة. فلم تعد البيوت آمنة، وانقطعت سبل كسب العيش، وساد النهب والسلب والاغتصاب والقتل.
في خضم هذه الفوضى، لم تجد الكثير من النساء بدًا من الفرار من منازلهن بحثًا عن ملاذ آمن لبناتهن وأطفالهن وكبار السن، لتُضاف إلى أعبائهن مسؤوليةٌ جديدة، وتُجبرهن على خوض تجارب قاسية ومريرة خارج أسوار بيوتهن التي كانت يومًا ما ملاذًا آمِنًا.
رحلات النزوح والبحث عن الأمان:
قررت (ش م) الفرار من جحيم الحرب، فانطلقت مع ابنها وزوجته وأطفالهما نحو مدينة مدني، رحلةٌ طالت مسافتها بسبب كثرة نقاط التفتيش والمضايقات. كان الطريق محفوفًا بالمخاطر، فالحريق والدمار يحيطان بهم من كل جانب، فيما يتعرض الشباب المرافقون لأسرهم للسَبّ والاتهامات من قوات الدعم السريع.
وصلت (ش م) وأهلها إلى مدني مرهقين من عناء السفر، لكن لم يهنأ لهم بال حتى اندلعت المعارك في المدينة، فاضطروا للفرار مرة أخرى دون وجهة محددة، يبحثون فقط عن مكان بعيد عن أصوات الرصاص.
سبع كيلومترات قطعوها مشيًا على الأقدام، ليجدوا ملاذًا مؤقتًا في قرية صغيرة. لم يجد ابنها عملًا هناك، فنصحه أحد الشباب بالذهاب إلى مناطق التعدين بحثًا عن فرصة. ترك لهم بعض المال ووعدهم بإرسال المزيد لاحقًا، لكن سرعان ما اقتحمت قوات الدعم السريع القرية، واستولت على كل شيء، حتى الهاتف والنقود القليلة المتبقية.
اضطروا للنزوح مرة ثالثة، ليستقروا في دار إيواء، يترقبون بأمل أن يعرف ابنهم مكانهم ويعود إليهم.
مدارس تحولت إلى ملاجئ:
تحولت المدرسة إلى ملجأ يضم العديد من النساء والأطفال بظروف مختلفة، مكانٌ يضيق بالحياة رغم اتساعه. غاب تلاميذها ليحل محلهم آخرون لم يأتوا صباحًا يسابقون الجرس، بل تطاردهم وأسرهم أصوات الدانات وطلقات الرصاص.
وجدت تهاني حسن نفسها مضطرة لمغادرة منزلها واللجوء إلى مدرسة، بعد أن أصبح إيجار الغرفة في مدينة “آمنة” عشرين ألف جنيه، ثقلٌ لا تطيقه.
تحكي تهاني عن معاناة ابنها ذو العشر سنوات، الذي يستيقظ كل صباح مرعوبًا متسائلاً: “ليه إحنا هنا؟ أنا مفروض أكون في بيتنا والصبح أمشي المدرسة، إحنا نايمين في الكنب!” ثم يعود إلى نومه مُثقلًا بالهموم.
تتساءل تهاني: هل يدرك مُشعلو الحرب المُصّرين على استمرارها مستقبل هؤلاء الأطفال الذين كانوا محظوظين بالنجاة بحياتهم؟ هل يعلمون أنهم حرموا من المدرسة لأكثر من عام ونصف؟ وأن طفلًا كان عمره ست سنوات عندما اندلعت الحرب، سيلتحق بالمدرسة وهو في الثامنة من عمره، حتى لو توقفت الحرب الآن؟ وسيجلس بجوار طفل في السادسة؟
تتفاقم المشكلات اليومية التي تبدو بسيطة في ظاهرها، فالمكان الذي صُمم لإقامة محدودة لعدد من التلاميذ لا تتجاوز ثماني ساعات، تحول إلى ملجأ تتشاركه عشرات الأسر، كل ما يرجونه هو الحفاظ على حياة أبنائهم. تستيقظ الأمهات مع شروق الشمس، ويُسبقهنّ القلق حول كيفية تدبير شؤون اليوم، والأيدي تنتظر من يمدها بقليل من الدقيق والسكر.
تروي سهام معاناتها في الذهاب إلى الحمام ليلاً، فالحمامات بعيدة عن الفصول، والمكان مظلم. تقول: “بعد فترة قصيرة، أُصيب ابني بالحمى، كان يعاني من الأملاح والتهاب البول. لاحظت أنه قلل من شرب الماء حتى لا يضطر للذهاب إلى الحمام المشترك.”
“حبوبة” .. رمز الصمود:
تحت الشجرة وُضع سريرٌ بسيطٌ لـ “حبوبة” كما يناديها الجميع، امرأةٌ محاطة بالأطفال والأمهات يُسارعون لخدمتها رغم وجود بنات ابنتها معها. اقتربتُ منها وسألتها: “هل أنتِ بخير يا حبوبة؟” لكن عبارتي البسيطة أيقظت أحزانها وردّت بسرعة: “نعم بخير، عندما غادرت بيتي كنت أحزن على ابنتي الوحيدة التي ماتت في العرضة وأنا صائمة رمضان. كانت مع ابنتها في حي العباسية، لا أنا ولا بناتها لحِقنا بالدفن. حي العرضة الذي نذهب إليه مشيًا على الأقدام من حي العباسية قسا علينا، حربٌ ضروس لم نشهد لها مثيلًا. كنا في حي البوستة زمان، أتذكر الحرب العالمية، كان عندما تكون هناك غارة تُرنّ صفارة الإنذار حتى يتمكن الناس من الاختباء. لكن هؤلاء لا يحترمون كبار السن.”
اكتفيتُ بالرد عليها: “إن شاء الله نرجع يا أمي”. ردّت قائلةً: “إن شاء الله سترتنا تكون في بيوتنا ويدفننا الأحباب والجيران”.
أملٌ وسط اليأس:
تتواصل العبرات والأحزان رغم محاولة التعايش في هذا المكان الذي يتسابق الجميع فيه لخدمة بعضهم بعضًا، خاصةً الشابات. تقول (م.خ): “اعتدتُ كل صباح أن أُقدّم الشاي لكل المقيمين صدقةً لروح والدتي. حاولنا تجنّب الخطر فخرجنا بها من أمدرمان بداية أيام الحرب، لكن لحقتنا الحرب في الجزيرة. دخل الدعم السريع ونهبوا وروعوا الجميع وأخذوا العربات. خرجنا بأمي على عربة كارو لكنها لم تحتمل، ماتت في الطريق قبل أن نصل إلى أقرب مدينة، دفناها في أقرب قرية، الناس ما قصّروا”. وتُواصل قائلةً: “جاءت الأخبار أن بيتنا في أمدرمان نُهب بالكامل ودكان والدي أيضًا. لا يهمني من ينتصر ومن ينهزم، خسرنا كل شيء بسبب الحرب، فلا بيتنا هناك ولا أمي معنا”.
تتعدد القصص وتتشابه في فقد الأحبة والأهل والديار، ويزداد الإحباط مع كل خبر سقوط منطقة جديدة وتهجير سكانها. لكن رغم كل شيء، يظل هناك من يُشعّ النور من داخلهنّ، ويُحوّلن هذا المكان إلى محطة مؤقتة يمكن تجاوزها والاستفادة منها، لا مكانًا للتعود على المعاناة أو التعايش معها. نساءٌ يؤكدن أنهنّ دائمًا صانعات للحياة، مثابرات، ويُجدن مساندة بعضهن بعضًا.
صناعة الحياة من رحم المعاناة
تقول تهاني حسن: “دائمًا أفكر في أسباب الحرب وكيفية تفاديها مستقبلًا، ولأنني أؤمن بالتغيير من خلال الفن، سَعَيْتُ للاستفادة من هذا المناخ الذي تعددت فيه الثقافات، فجمعت الألعاب الشعبية للأطفال ووجهتها نحو مشروع بناء السلام، و درّبتُ عليها الأطفال، من ضمنهم ابني الذي كان يستيقظ مرعوبًا. أحب الأطفال هذه الألعاب، فأنا أعتقد أن من أسباب الحروب أننا لا نعرف بعضنا بعضًا”.
في دار إيواء آخر، تحكي (م. الحاج) قصةً مُشابهةً لِما تعيشه زميلتها، فتقول: ” جئت من أمدرمان يلفني الحزن على كل شيء، على وطن ينهار أمام أعيننا. شهدتُ هذا الانهيار في القيادة العامة، وخاب ظني بأن هذا الفعل سيتكرر على عموم الشعب السوداني. خرجتُ من أمدرمان والتجأتُ إلى مدني، ووجدتُ أن الفنانين الذين سبقوني إليها قدّموا عملًا اجتماعيًا مُلْهِمًا، وأسسوا مشروعهم الفني، وكنتُ منهم”.
“ظننا أننا سنقدر على مواجهة هذه المِحنة، فشاركتُ في عدد من الأعمال الدرامية التي تساعد على التعافي من صدمة الحرب. فكرتُ في فكرة البناء أثناء الهدم، وتساءلتُ: هل يمكن الاعتماد على مثل هذه الأفكار بعيدًا عن المسرح؟ فاخترتُ العمل مع الأطفال، ونفّذتُ مشروعي بمساعدة اليونيسف، فبدأت الحياة تعود، وأصبح لنا هدفٌ نستيقظ من أجله، ونفترق في نهاية اليوم وقد مَلَأنا قلوبنا – أنا والأطفال – أملاً بأن الحرب ستنتهي وستكون لنا حياةٌ أفضل. لكن سقوط ود مدني كان قاسيًا، حيث توقف هذا المشروع، إلا أنني لم أتوقف عن العمل”.
في ذات السياق، تُعبّر (أ.أ) عن قلقها الدائم حول دور المسرح قائلةً: “لطالما راودني سؤالٌ حول المسرح: هل هو مجرد فن ترفيهي يأتي بعد تأمين الاحتياجات الأساسية للحياة من مأكل ومشرب ومسكن؟ لقد حان وقت الإجابة، فالمسرح وسيلتنا لإعادة ترتيب حياتنا، فهو يقودنا نحو التفكير بطريقة سليمة، وهذا ما أثبتته تجارب المسرحيين في دور الإيواء في كسلا وبورتسودان وشندي، وحتى بعض مناطق أمدرمان وفي النيل الأبيض، حيث أقاموا صلةً وثيقةً بين الفن والمجتمع”.
تضيف (أ.أ): “لحسن الحظ، في أواخر العام 2022، قامت المؤسسة التي أعمل بها بمشروع تدريبي للفنانين والإعلاميين بالتعاون مع مركز “الألَق للخدمات الصحفية”، ولم يكن هذا المشروع الأول من نوعه، لكن هذا التدريب ركّز على شرح عدد من المواثيق الدولية والاتفاقيات التي تحث على الحفاظ على حقوق الإنسان. كان التدريب شاملاً حول أوضاع النساء في أوقات النزاعات، وتضمّن حديثًا مستفيضًا عن القرار 1325 والدور الملزم تجاه النساء من وقاية وحماية، ودورهن في المشاركة في عمليات السلام وبناء السلام. تذكرت هذا، وجال بخاطري أن مؤسستي وشريكها مركز “الألَق” كانا يسابقان الوقت في إعداد الإعلاميات في وقت ظننا أن السلام سيعم بلادنا”.
“وتواصل (أ.أ) “وحينما أنظر إلى ما تقدمه النساء داخل دور الإيواء أو حتى في المناطق شبه الآمنة، أتأكد من الوعي الكبير لدى هؤلاء النساء – وخاصةً الشابات – بأدوارهن تجاه المجتمع. فغالبية النساء كن وجهًا لوجه أمام الاعتداءات، سواءً عليهن أو على بقية أفراد الأسرة، وتجرّعن مرارة النزوح واللجوء. وحتى المقيمات في الولايات التي لم تصلها الحرب يعشن في خوف وأمل”.
وتختتم إفادتها قائلة: “يتعاظم دور النساء في هذه الحرب التي استهدفت أجسادهنّ وحوّلتها إلى ساحةٍ لها، لتُكابِدنَ المرارات المختلفة، ويتجاوزن منظر موت الأهل والأحباب دون إقامة عزاء، أن يشهدن توقف أبنائهن عن الدراسة وموتهم في حرب عبثية. إن قيام كل امرأة بدورها أمرٌ يستحق التقدير، فالأمر أعمق من أناشيد للأطفال أو ألعاب شعبية أو استقطاب دعم لتوفير الطعام أو الدفء. ما يقمن به هو صوتٌ يدعو للحياة، صوت يعلن أن دور النساء لا ينتهي بانتهاء الحرب والعودة إلى البيوت ومزاولة أعمالهنّ – لمن اخترن العمل خارج المنزل – فالنساء شريكات في التنمية واستدامة السلام، وهن من دفعن الفاتورة الأكبر في هذه الحرب”.