شيءٌ من الاقتصاد.. وقليلٌ من السياسة
التجاني عبد القادر حامد
يحتفظ معظم الأمريكيين بتقدير كبير لرئيسهم الأسبق فرانكلين روزفلت، وعادة ما يشيرون إليه بالحروف الأوائل من اسمه الثلاثي: ايف.دي. ار). وتحظى فترة رئاسته (12 سنة) بتغطية كبيرة في المقررات الدراسية وكتب التاريخ، كما تحظى كتبه وسيرة حياته وخطبه بعناية فائقة في المكتبات ودور الوثائق. ولعل أهم إنجاز خلده له التاريخ هو مشروع ال “نيو ديل”، أي: الصفقة الجديدة. وقد عبر عن مشروعه في خطاب ألقاه في المؤتمر العام للحزب الديموقراطي في 2 يوليو 1932، وذلك بمناسبة اعتماده مرشحاً للحزب في الانتخابات القومية المقبلة.
فما هو ذلك المشروع؟
لا يمكن فهم مشروع “الصفقة الجديدة” دون توقف عند كارثة الكساد العظيم الذي تعرضت له الولايات المتحدة عام 1929، حينما حدث أكبر انهيار عرفه التاريخ للسوق المالي الأمريكي (وول استرتيت). بدأ ذلك حينما عجز المزارعون عن تسديد القروض المستحقة عليهم من قبل المصارف، وإذ لم يكن هناك تأمين حكومي للمصارف بحسب نظام السوق الحرة، فقد هرع المودعون لسحب مدخراتهم، فاضطرت المصارف لتصفية الأصول واغلاق أبوابها، وفقد السوق في ظرف شهرين فقط نحوا من 40 بليون دولار مما سبب تقلصاً في المعروض النقدي وانكماشاً في الاقتصاد وزيادة في أسعار الفائدة. وترتب على ذلك الانكماش أن فقد عدد كبير من المستثمرين مدخراتهم ووظائفهم، وانخفضت أجور العمال إلى 25 سنت في الساعة، وإلى عشر سنتات في بعض الأحيان. ودبت في المجتمع الأمريكي حالة من الذعر والفقر لم تعهد من قبل. واندلعت أعمال العنف والشغب في كثير من المدن الكبيرة، وصار مألوفاً أن ترى طوابير من الأسر تلجأ إلى المباني الحكومية طلباً للتدفئة، ومجموعات من العاطلين الفقراء تبحث عن الطعام في حاويات القمامة. وكثرت حالات الانتحار حتى صارت من النكات المتداولة أنه إذا احتجز شخص غرفة في أحدي الفنادق فان موظف الاستقبال قد يسأله: (for sleeping or jumping?)؛ أي أتريدها للمبيت أم للقفز؟
في مثل تلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية أطلق الرئيس روزفلت مشروع النيوديل (new deal) لمواجهة كارثة الكساد الاقتصادي والإحباط الاجتماعي والعجز الحكومي، واستطاع بموجبها أن ينتشل المجتمع من أسوأ كارثة اقتصادية مرت به، وليصبح من خلالها قائداً شامخاً في التاريخ الأمريكي، لم يتبع وصفة ايديلوجية مسبقة بقدر ما اعتمد على صيغة اقتصادية تشبه صيغة “بيع السلم” في الفقه الإسلامي؛ أي صيغة تقوم فيها الحكومة بتمويل المزارعين الذين ينتجون السلع الضرورية. فأنشأ هيئة فدرالية باسم هيئة تمويل السلع (The Commodity Credit Corporation, CCC) لتقوم بالإشراف على عملية التمويل الزراعي. والهدف الأساس للمشروع هو زيادة الإنتاج الزراعي، وتحقيق استقرار في الأسعار، وتسهيل تسويق المحاصيل الزراعية، وحماية المزارعين ضد المخاطر التي يتعرضون لها بسبب تذبذب الأسعار والمخاطر البيئية غير المتوقعة. وقد وضعت الحكومة تحت تصرف الهيئة ميزانية تقدر ببضع ملاين من الدولارات توفرها وزارة الخزانة، وهي عبارة عن “قرض حسن” غير مسترد. الفكرة هي أن تقدم الحكومة قرضاً نقدياً للمزارع يستمر مدة عام، وذلك في مقابل المحاصيل التي شرع في زراعتها، وفق سعر يحدد سلفاً. وعندما يحين موسم الحصاد تطرح المحاصيل في الأسواق وتباع وفق قانون العرض والطلب. فاذا ارتفعت الأسعار يستطيع المزارع عندئذ أن يسدد القرض الحكومي ثم يحتفظ بما يتبقى من القيمة. أما إذا انخفض السعر إلى ما دون قيمة السعر المحدد سلفاً في العقد، فان الهيئة تستلم المحصول من المزارع وفق السعر المحدد متحملة الخسارة. ثم تحولت هذه السياسة فيما بعد إلى استراتيجية قومية ثابتة وركيزة من ركائز الأمن الغذائي- لا تتغير بتغير الأحزاب أو الوزراء، حيث تقوم الوكالة في كل موسم بتوفير حد أدنى من الدعم للمزارع، ثم تقوم بشراء فائض المحاصيل وتخزينها، فإذا ارتفعت الأسعار وتجاوزت حداً معيناً فستقوم الوكالة بطرح كميات من مخزونها في الأسواق، فتتراجع الأسعار، فتحقق بذلك حماية للمستهلك، وتضمن من جهة أخرى استمرار المزارع في الإنتاج.
والعنوان الكامل لمشروع الرئيس هو: الصفقة الجديدة من أجل الانسان المنسي (ويمكن أن تقرأ: من أجل الفقراء والمحرومين). والمشروع في أساسه كان يمثل نقيضاً لسياسة التحرير الاقتصادي التقليدية التي كان يتبناها الحزب الجمهوري بزعامة قائده الضعيف هربرت هوفر. وقد استطاع روزفلت معتمداً على الفوز الكاسح الذي ناله في الانتخابات أن يمرر كل التشريعات المتعلقة بمشروعه في مدة لم تتجاوز الثلاثة أشهر الأولى من رئاسته (9 مارس-16 يونيو)، وقد صارت تعرف تاريخيا بسياسة “الأيام المائة”.
لم يتقدم الرئيس روزفلت إلى الشعب الأمريكي برؤية نظرية وحسب، وإنما حوّل الرؤية إلى عدد من البرامج الاقتصادية والاجتماعية المفصلة، إذ ألحق برنامج دعم المزارعين ببرنامج توظيف الشباب العاطلين عن العمل، وقد أوكل ذلك لإدارة خاصة في قطاع الاشغال العامة. استطاعت تلك الإدارة أن تعبد 650 ألف ميل من الطرق الرئيسية، وأن تشيد 125 ألف مبنى عام، وأن تشيد 75 ألف جسر، وأن تقيم 8 ألف حديقة عامة، إضافة الى زراعة الأشجار، وبناء حواجز ضد الفيضانان، والمساهمة في إطفاء الحرائق، وإصلاح الطرق. ومن خلال تلك الاعمال استطاعت الإدارة أن توفر 8.5 مليون وظيفة، وهو ما أذهل المراقبين.
التواصل مع الجمهور:
كان الرئيس روزفلت يشعر أن سنوات الكساد قد أصابت عامة الناس باليأس والإحباط. فكان عليه في هذه الحالة أن يفتح قنوات التواصل مع الجمهور وأن يبث من خلالها الأمل ويبدد الخوف. ولذلك فلم يجلس في مكتبه لقراءة التقارير وإصدار القرارات، وإنما رأى أن يطلع الجمهور على تلك التقارير والقرارات. مما ترتب عليه أن يكون في حالة تواصل مستمر مع الجمهور، فابتدع برنامجاً تبثه الإذاعة بعنوان: “دردشة حول المدفأة” (Fireside chats)، ويتكون البرنامج من حديث يوجهه الرئيس الى الجمهور بصورة مباشرة وبلغة بسيطة، يتحدث فيه عن الأزمة وعن المشاريع التي اقترحت وعن الإنجازات التي تحققت، ولكن كانت الغاية من أحاديث الرئيس هي أن يبث الأمل في شعبه، وأن يجعله يستعيد الثقة بنفسه. لم يكن الرئيس يدردش وحده، وإنما كانت إلى جانبه زوجته أيلينور روزفلت، والتي كانت تجوب المدن والأرياف في الولايات المختلفة، تحس نبض الجماهير المغلوبة، وتستمع الى معاناة الفقراء والعاطلين عن العمل، فتقدم لزوجها صوراً صادقة عن صنوف من المعناة لا تعكسها التقارير الرسمية. على أن الرئيس روزفلت لم يعتمد على الدردشة ودغدغة المشاعر، وإنما اعتمد على مجموعة من الوزراء والتنفيذيين ذوي القدرة العالية على التخطيط والتنفيذ والمتابعة، ومن ذوي القناعة التامة بمشروع الرئيس، ومبادئه الأخلاقية والوطنية.
لقد كانت معالجات روزفلت معالجات أملتها الضرورة السياسية، ولكنها وجدت فيما بعد تأكيداً نظرياً ودعماً قوياً من أحد أشهر علماء الاقتصاد: جون مينارد كينز (صاحب المدرسة الكينزية المعروفة). ومنذئذ صار تدخل الحكومة في السوق لتحريك عملية الإنتاج (في حالة الركود والكساد) أمراً لا مفر منه مهما تعارض مع بعض ركائز النظام الرأسمالي.
ولكن كيف يستفاد من هذا في الحالة السودانية؟
لست غافلاً عن اختلاف البيئات والسياقات والقيادات، ومع ذلك يستفاد منها أن الحركة المتفائلة نحو المستقبل خير من الوقوف على الاطلال، كما يستفاد منها أن الإصلاح ممكن، وأن القضاء على البطالة ممكن، وأن تحريك القطاع الزراعي في السودان وتفعيله سيوفر الامن الاقتصادي وسيحرك النظام الاقتصادي كله، وأننا نحتاج بالفعل-في هذه المرحلة الحرجة من الكساد الكبير والبطالة المدمرة-إلى “صفقة جديدة”. غير أن مثل هذه الصفقة تحتاج إلى:
• قيادة ذات مشروعية شعبية،
• وذات رؤية وطنية نافذة؛
• وذات برامج عملية تتجسد فيها الرؤية؛
• وذات خطاب صادق وشفاف والتواصل من خلاله مع الجمهور؛
• وذات كادر إداري حازم يقف على تنفيذ البرامج.
ولكن السؤل المحير: لماذا لا تريد لنا الإدارة الأمريكية الراهنة (ومعها الاتحاد الأوربي ودول الجوار الاقليمي) أن نكمل الثورة بأن نوجد لنا قيادة ذات مشروعية شعبية عن طريق المسار الديموقراطي المستقيم؟ لماذا يصر المبعوث الأممي (ومعه السفراء الأربعة) أن يختاروا لنا حكومة على مزاجهم؟ وأن يفرضوا علينا صفقة من بنات أفكارهم؟ وأن يتوعدوننا بالدمار الشامل إذا لم نقل نعم؟ وهب أنهم يريدون لنا السعادة الأبدية بإزاحة الإسلام السياسي، وهب أنهم نجحوا في إزاحته من ظاهر الأرض إلى باطنها (كما فعلوا مع بعث العراق)، فما النظام الخالف الذي يريدون؟ هل يريدون لنا نظاماً اشتراكياً مثلاً؟ ولكن ألم يخوضوا قبل حين حرباً باردة وساخنة ليقضوا على اشتراكية الاتحاد السوفيتي، وهاهم الآن يستعدون للقضاء على اشتراكية الصين؟ هل يريدون لنا نظاماً “ناصرياً” مثلاً؟ ولكن ألم يحاربوا عبد الناصر من قبل ويعملوا على اسقاطه بشتى الطرق؟ أم يريدون لنا نظاماً “بعثياً”؟ ولكن لماذا حاربوا صدام حسين حتى الموت وحطموا العراق كله بسببه؟ أم يريدون الفوضى الخلاقة التي تلد داعش وأخواتها؟ وماذا سيحصدون منها؟ أسئلة يأخذ بعضها برقاب بعض وتطرح شكاً بعد آخر ولا أحد يجرأ على الإجابة. على أن الأمر الذي لا شك فيه هو أن الزبد سيذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض. ولا قوة إلا بالله.